أريد بلداً هامشيّاً

مدة القراءة 7 د

من خارج سياق “أدبيّات الانهيار اللبناني” التي تهيمن على النقاش السياسي والاجتماعي في البلد، فتح القرار الرسمي اللبناني بترحيل معارضين بحرينيّين من بيروت، عقدوا مؤتمراً صحافياً برعاية حزب الله، نقاشاً قد يكون ضرورياً حول تصوّرنا لدور لبنان..

أعي أنّ ما هو على المحكّ الآن يطال وجود لبنان من أصله، دعك من أيّ أدوار مفترضة له بعد ضمان بقائه، كياناً ودولة. بيد أنّه يظلّ نقاشاً ضرورياً، ولا سيّما إذا ما كانت الانهيارات الراهنة هي في مكان ما وليدة الأدوار المنتفخة التي نسبها لبنان إلى نفسه أو نُسِبت إليه.

الكاتب ساطع نور الدين، رئيس تحرير موقع “مدن”، وصف القرار بأنّه “يمثّل إساءة شديدة للبنان وتاريخه، ويتسبّب بجرح غائر لصورته ومثاله في العالم العربي، منذ أن كان ملاذاً آمناً لمختلف أنواع المعارضين العرب (…) الذين كانت بيروت على الدوام منبرهم السياسي بقدر ما كانت جامعتهم ومستشفاهم”.

يصعب كثيراً تمرير مثل هذه النوستالجيا، إذا صحّ التعبير، من دون الوقوف عند الأثمان الفعلية التي راكم لبنان دفعها، نتيجة الأدوار هذه، وصولاً إلى الانهيار الكبير الذي يعانيه اليوم. فحزب الله، ونتيجة “تحوّرات” كثيرة، هو الآن وريث هذه الأدوار التي كان لبنان ساحتها، منذ اتفاق القاهرة عام 1969، وما سبقه من تمهيد رافق صعود الناصريّة نهاية الخمسينيّات، وهذا ما يقع في صلب الانهيار اللبناني اليوم.

يستلّ الزميل نور الدين من أرشيف اليسار اللبناني بعضاً من أدبيّات ازدراء لبنان الذي بحسبه “لطالما اغتنى سياسياً وثقافياً وعلمياً واجتماعياً، ومادياً طبعاً، من جميع أشقّائه العرب”، ويجب بالتالي أن لا يصير “بلداً محرّماً، محظوراً، على أيّ عربي، مهما كانت هويّته وانتماءاته.. لأنّه بذلك يفقد الكثير من مكانته ووظيفته”.

هذ الاختصار للتجربة اللبنانية بأنّها حصيلة نجاحات عربية وفدت إليه، يفترض أنّ البلاد لم تكن قبل الوفود العربي إليها، سوى مساحة خالية، ملأها النجاح العربي اللاجئ سياسةً وثقافةً وعلماً واجتماعاً وثراءً، من دون أيّ إنصاف لمميّزات لبنان كوعاء وحاضنة. فهذه المميّزات، لا الخلاء، هي ما جذب مَن جذب إلى لبنان ومصارفه وجامعاته ومسارحه وشعره ودور نشره ومقاهيه… وهذه فكرة يساريّة شقيقة لفكرة نقيضة تبنّاها بعض اليمين اللبناني، ترى لبنان أمّ الحضارات ومركز حركة الأكوان ومهد الفكر والفنون والفرادة والرسالة.

بيد أنّ الحقيقة ككلّ حقيقة معظم الأحيان، هي في مكان ما بين الاثنين. بين الاستعلاء والازدراء، بين توهّم الـ”كلّ شيء” والـ”لا شيء” حول ما هو لبنان.

لبنان هو وليد الحرّيات التي تمتّع بها، وهو ضحيّتها في آن. صحيح أنّ ليبراليّته صنعت منه استثناءً عربياً، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ ليبراليّته نفسها، مقرونة باستضعاف متنامٍ للدولة ولقيم القانون والدستور فيه، جعلته ساحة لا مختبراً، بيد ضيوفه كما بيد بنيه، ممّن حاولوا عبر انقسامات ومعارك العرب البينيّة أن يخوضوا معارك تعديل ميزان الشراكة داخل النظام السياسي، وحسم التوريات التي رافقت الاتفاق على هويّة لبنان بين عربية وغربية.

ثمّ إنّ البنية التحتيّة، التي مهّدت للدور الذي يدافع عنه نور الدين ويشتهيه، باتت في غياهب الذاكرة لا أكثر. وهو نفسه يكاد يصرِّح بذلك حين يقول إنّه يطلب ما يطلب “حرصاً على ذاكرة بيروت وشخصيّتها العربية الخاصّة، التي يعرفها كثيرون من العرب اختبروا في ربوعها مختلف أنواع التجارب السياسية، المعارضة منها والموالية”.

لبنان بسبب ضعف واستضعاف دولته، لطالما كان الساحة الأكثر ثراءً في المنطقة لخوض حروب الآخرين، بشكل أجّج الاعتياد على الأدوار الكبرى والمعاني السامية لدولة صغيرة

السؤال: ماذا بقي من شخصية بيروت هذه إن كانت مساحة الحرّيّة فيها تضيق على اللبنانيين أنفسهم في ظلّ الاحتلال السياسي للبنان الذي تمارسه ميليشيا حزب الله كمنظمة عسكرية مرتبطة ارتباطاً عضوياً وموضوعياً بدولة أجنبية؟!

أمّا المفارقة أنّ هذه المنظمة العسكرية صاحبة دور أمنيّ وسياسيّ (كبر أو صغر) داخل الدولة التي رعوا مؤتمراً صحافياً لبعض مواطنيها، أي البحرين، الأمر الذي يجعل الاستضافة نفسها عملاً عدوانياً على البحرين لا صلة له بالدور السابق لبيروت كعاصمة حريّات وتعدّد وتنوّع..

وإذ يجزم نور الدين أنّه “لا يمكن الادّعاء أنّ لبنان ما زال يمكن أن يكون ملاذاً آمناً لأيّ معارض عربي، مهما كانت جنسيّته، أو أنّه يمكن أن يكون منصفاً أو غير متحيّز في تقبّله المعارضين العرب”، أستغرب كيف فاته أنّه لا يمكن الادّعاء أنّ لبنان ما زال يمكن أن يكون ملاذاً آمناً للّبنانيين أنفسهم، وإلا لكان لقمان سليم بيننا اليوم يشارك ربّما في هذا السجال حول بيروت ودورها.

ثمّ إنّ الذي يطالب بتحلّي لبنان بأعلى معايير الحريّة، كمقدّمة لاستحقاق معناه، وكي “تظلّ عاصمتهم مختلفة، ومتقدّمة (حتى في بؤسها الراهن) على بقيّة العواصم العربية”، تراه ينزلق إلى تحديد مَن يستحقّ التمتّع بالحرّية ومَن لا يستحقّ حين يقول:

“وإلا لكانت بيروت اليوم عاصمة المعارضة السورية غير المسلّحة، على اختلاف ألوانها، (عدا اللون الإسلامي غير المحبّب وغير المرغوب به أصلاً من غالبيّة اللبنانيين)”.

ماذا بقي من شخصية بيروت هذه إن كانت مساحة الحرّيّة فيها تضيق على اللبنانيين أنفسهم في ظلّ الاحتلال السياسي للبنان الذي تمارسه ميليشيا حزب الله كمنظمة عسكرية مرتبطة ارتباطاً عضوياً وموضوعياً بدولة أجنبية؟!

مَن الذي يملك الحقّ في تقنين الحريّة على الإسلاميين وحرمانهم من الدور الذي يُراد لبيروت أن تكونه؟ ومَن يمتلك الأدوات لضبط هذ التقنين أصلاً فيما لو اتفقنا عليه؟ ومَن يضع المعايير التي تجيز أو تمنع إضافة جهات أخرى إلى لائحة المحرومين من نعيم “الملجأ اللبناني”؟

هذا نقاش يستحقّ أن يخوض فيه اللبنانيون، لأنّه يتّصل بمعنى البلد الذي يدافعون عنه يحاولون حمايته من الانهيار الكبير، كما يتّصل بإرث ثقيل من الأوهام حول لبنان وإمكاناته وموقعه وثبات كلّ ذلك الذي إن صحّ يوماً، فلا شيء يثبت أنّه صحيح اليوم..

لن يكون سهلاً الاقتناع بتضاؤل لبنان، لا عند أهل اليسار ممّن يرونه عاصمة لكلّ ثورات الكون، ولا عند اليمين الذي يريدونه درساً لكوكب الأرض.

حقيقة الأمر أنّ لبنان بسبب ضعف واستضعاف دولته، لطالما كان الساحة الأكثر ثراءً في المنطقة لخوض حروب الآخرين، بشكل أجّج الاعتياد على الأدوار الكبرى والمعاني السامية لدولة صغيرة.

مرّ ردح من الزمن كان البلد عاصمة مخابرات العالم من بار أوتيل السان جورج إلى الشقق المفروشة في العاصمة وخارجها. وكان البلد عاصمة إعلام الحروب المندلعة والانقلابات والمعسكرات والمغامرات. كانت بيروت العاصمة الثانية لأيّ عاصمة عربية. عاصمة الثورة الفلسطينية، وعاصمة الناصرية، وعاصمة خصومهما في الوقت نفسه.

غير أنّ العالم تغيّر. “الملاعب والساحات” التي انفتحت أمام الدول والأجهزة وصراعات الجيوبوليتيك لا تعدّ ولا تحصى. من سوريا إلى العراق إلى ليبيا إلى اليمن…

إقرأ أيضاً: لبنان ينتظر القيادات الجديدة

من حظّنا هذه الهامشيّة التي مُنِي بها البلد، وإن كانت هامشيّة خطيرة، لأنّها هامشية يمارسها طرف واحد من أطراف النزاع في الإقليم، فيما تحتفل إيران بأنّ في لبنان “حكومة وبرلمان مقاومة”.

المطلوب هو توسيع هامشيّة لبنان لتشمل إيران أيضاً، حيث إنّ المدخل هو الإقرار بهامشيّتنا وهشاشتنا معاً، بل الاحتفال بهما والتأسيس عليهما لبلد ينعم بالاستقالة من المشاريع الكبرى والأدوار النبيلة  والعودة إلى الداخل للملمة ما يمكن بلا أوهام…

ثروتنا هي هامشيّتنا.. كي لا يبقى لبنان ضحيّة كونه إمّا رسالةً وإمّا صندوق بريد.

مواضيع ذات صلة

الاستكبار النّخبويّ من أسباب سقوط الدّيمقراطيّين

“يعيش المثقّف على مقهى ريش… محفلط مزفلط كثير الكلام عديم الممارسة عدوّ الزحام… بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح يفبرك حلول المشاكل أوام… يعيش أهل بلدي…

ياسر عرفات… عبقرية الحضور في الحياة والموت

كأنه لا يزال حيّاً، هو هكذا في حواراتنا التي لا تنقطع حول كل ما يجري في حياتنا، ولا حوار من ملايين الحوارات التي تجري على…

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…