لارتفاع سعر صرف الدولار ألف سبب وسبب جُلّها معروف، لكنّ جنونه الأخير بعد تعميم مصرف لبنان 601 الذي رفع سعر الصرف في عمليّات السحب من البنوك من 3900 إلى 8000 ليرة، ليس إلا بعضاً من عوارض مخطّط ممنهج لتصفية ما أمكن من الودائع الدولارية، وتقليص فجوته الدولارية، استباقاً للحظة الحقيقة في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي الشهر المقبل.
إنّ الخطوة، التي أقدم عليها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، فاجأت رئيس الفريق اللبناني المفاوض مع الصندوق، نائب رئيس مجلس الوزراء سعادة الشامي. وهي لم تطرح على الفريق المفاوض أو على صندوق النقد، ولو لأخذ العلم، على الرغم ممّا يترتّب عليها من مفاعيل أساسية على سعر الصرف في السوق الموازية ومعدّلات التضخّم ومستويات السيولة في الاقتصاد، وحتى على سوق العمل والأجور في القطاع الخاص. وكل هذه المفاعيل ليس مصرف لبنان وحده معنيّاً بها، بل هي في صلب عمل الفريق الذي يعدّ خطّة الإصلاح الاقتصادي والمالي، وخطة إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وهي في صلب ملفّات التفاوض مع صندوق النقد الدولي.
يُبقي رياض سلامة حجم عمليات “الليلرة” التي تمّت من خلال التعميميْن الأساسيّيْن 151 و158 والتعميم الوسيط 601، سرّاً من أسراره الكثيرة. ربّما لأنّه مرتبط بالسرّ الأكبر، وهو حجم ودائع البنوك لدى مصرف لبنان بالعملات الأجنبية
اللافت في خطوة سلامة أنّها أتت بعد التوافق على رقم موحّد لخسائر الأزمة بلغ زهاء 69 مليار دولار، وفق ما كشف الشامي. وربّما يشير ذلك إلى نوع التجاذب، الذي سيسود من الآن فصاعداً، والمتعلّق بتوزيع أعباء هذا الرقم الضخم. فالأهمّ من رقم الخسائر هي الافتراضات التي يُبنى عليها، ولا سيّما سعر الصرف الذي تحتسب عليه المطلوبات، ونسبة “الهيركات” التي يُفترض التوافق عليها مع حاملي اليوروبوندز، ونسبة “الهيركات” من الودائع، كبيرة كانت أو صغيرة، وسواء كانت من أصل الوديعة أم من الفوائد المتراكمة عليها.
لماذا تجاهل سلامة الجميع وانفرد بالقرار دونهم؟
واضحٌ أنّ الرجل لديه خطّته الخاصة لـ”توزيع الخسائر”، وهو ينفّذها بفرض الوقائع على الأرض من دون انتظار الخطة التي يعدّها فريق الشامي بالتوافق مع صندوق النقد.
كيف تدرّجت خطّة سلامة؟
بدأ الأمر بتعميم مصرف لبنان الأساسي رقم 151 في نيسان 2020، الذي شرّع السحب من الودائع الدولارية بالليرة اللبنانية على سعر صرف 3900 ليرة للدولار. منذ ذلك الحين فُتِح باب “الليلرة” (تحويل الودائع الدولارية إلى الليرة):
1- مع نسبة اقتطاع (هيركات) بدأت بنحو 35%، وأخذت تتّسع تدريجياً إلى أن وصلت إلى 85% (دولار المصرف كان 3900 مقابل دولار السوق 24 ألف ليرة).
2- ثمّ اُستُكمل المسار نفسه بالتعميم رقم 158، الذي أتاح تحرير 4800 دولار للمودع الواحد في السنة، لكن مقابل “ليلرة” 4800 دولار أخرى بسعر صرف لا يتجاوز 12000 ليرة للدولار، فيكون الاقتطاع بنسبة تقارب 60% (وفق سعر الصرف الحالي) من المبلغ المحوَّل إلى الليرة، وبنسبة 30% من إجمالي المبلغ “المحرَّر”.
3- وكانت الخطوة الثالثة بالتعميم الوسيط رقم 601، الذي رفع سعر الصرف في عمليات السحب من 3900 إلى 8000 ليرة، فتقلّصت نسبة “الهيركات” مؤقّتاً من 85% إلى 65%، قبل أن تعود للارتفاع إلى أكثر من 70% بعد الارتفاعات الأخيرة للدولار في السوق الموازية.
“الليلرة”، بحدّ ذاتها، جزء من توزيع الخسائر، لكنّ تنفيذها بحدود مقيّدة يمكن تبريره بشحّ الدولار وحاجة الناس إلى الإنفاق على احتياجاتهم اليومية. لكنّ الشقّ الآخر الذي ليس له تفسير أو تبرير هو سعر الصرف المحدّد لعمليات السحب
ماذا يريد سلامة من كلّ ذلك؟
“الليلرة”، بحدّ ذاتها، جزء من توزيع الخسائر، لكنّ تنفيذها بحدود مقيّدة يمكن تبريره بشحّ الدولار وحاجة الناس إلى الإنفاق على احتياجاتهم اليومية. لكنّ الشقّ الآخر الذي ليس له تفسير أو تبرير هو سعر الصرف المحدّد لعمليات السحب، إذ إنّه يُعدّ قراراً مباشراً بالاقتطاع من الودائع، ولا يمكن تفسيره إلا في إطار التصفية المبكّرة للخسائر على حساب (صغار) المودعين.
أمّا المبرّر الذي يسوقه رياض سلامة من أجل عدم إعطاء المودعين دولاراتهم على سعر السوق، وهو الخوف من انفلات الكتلة النقدية وخروج التضخّم عن السيطرة، فهو متهافت لأنّ رفع سعر الصرف في عمليات السحب لا يمنعه من الإبقاء على سقوف السحب وعمليات الشراء نفسها بالليرة، لكن مقابل كميّة أقلّ من الدولارات. فبدلاً من أن تعطي المودع 8 ملايين ليرة وتحسم من حسابه 1000 دولار، يمكنك أن تعطيه 8 ملايين ليرة وتحسم من حسابه 320 دولاراً (على سعر صرف 25,000 ليرة للدولار)، ويبقى الأثر هو نفسه على الكتلة النقدية بالليرة.
ومن المهمّ التذكير هنا بأنّ عملية “الهيركات” القاسية لا تتمّ لمصلحة البنوك وحدها، بل هي لمصلحة مصرف لبنان في المقام الأوّل. ففي مقابل كلّ دولار يحسمه البنك من حساب العميل ويعطيه مقابله 8000 ليرة، يقوم مصرف لبنان بالعملية نفسها مع البنك، إذ يحسم الكميّة نفسها من الدولارات من حساب البنك لدى مصرف لبنان ويعطيه الكميّة نفسها من الليرات. وبذلك يكون المستفيد النهائي مصرف لبنان، إذ يقلّص حجم المطلوبات عليه للبنوك بالعملة الأجنبية، على حساب المودعين، وصغارهم تحديداً، ولا يكلّفه الأمر أكثر من طباعة المزيد من الليرات وتوزيعها على أصحاب الودائع عبر البنوك. ولكي تنجح العملية يجب أن يبقى معروض النقد بالليرة مضبوطاً، ولذلك تتمّ “الليلرة” بسقوف محدّدة، وتتوزّع بين ما يُسمح بسحبه نقداً وما يُحصَر بعمليات الشراء في نقاط البيع (POS). هكذا يكون تآكل قيمة الليرة جزءاً من الأعراض الجانبية “المحسوبة” لمخطّط مصرف لبنان لتقليص خسائره.
يُبقي رياض سلامة حجم عمليات “الليلرة” التي تمّت من خلال التعميميْن الأساسيّيْن 151 و158 والتعميم الوسيط 601، سرّاً من أسراره الكثيرة. ربّما لأنّه مرتبط بالسرّ الأكبر، وهو حجم ودائع البنوك لدى مصرف لبنان بالعملات الأجنبية، واستطراداً حجم الفجوة الدولارية في ميزانيّته. في بداية الأزمة، كانت وكالات التصنيف تقدّر حجم ودائع البنوك الدولارية لدى مصرف لبنان بما يراوح بين 70 و80 مليار دولار، وكانت موجوداته بالعملات الأجنبية تزيد على 30 مليار دولار، فكانت الفجوة الدولارية تراوح بين 40 و50 مليار دولار، باستثناء الذهب.
إقرأ أيضاً: خطة الحكومة المالية: تحميل المودع والدولة.. وإنقاذ المصارف
يصعب التكهّن بما آلت إليه الأوضاع الآن، بعدما تبدّد أكثر من نصف الاحتياطات الدولارية. لكن ما هو واضح أنّ البنوك مارست، خلال ما يزيد على سنتين من عمر الأزمة، عملية تصفية للمطلوبات في ميزانيّاتها عبر تعاميم مصرف لبنان، فانخفضت كتلة الودائع الدولارية لديها من 127.6 مليار دولار في أيلول 2019 إلى 105.4 مليارات دولار في آخر البيانات المتوافرة لشهر تشرين الأول الفائت، فتكون البنوك قد تخلّصت من 22 مليار دولار من ودائعها.
يمكن الركون إلى التقديرات بأنّ ثلث هذا الرقم على الأقلّ يعود للأموال التي تمّ تهريبها، سحباً أو تحويلاً إلى الخارج، بقوة السلطة الاستنسابية المعطاة للمصارف في غياب قانون الكابيتال كونترول. وثمّة رقم غير معروف تمّ استخدامه لسداد قروض قائمة من ضمن تجارة الشيكات. وتبقى حقيقة لا لبس فيها أنّ مليارات الدولارات، من أموال صغار المودعين أساساً، تمّت “ليلرتها” وتطبيق “هيركات” قاسٍ عليها، في إطار تصفية ممنهجة لجزء من الخسائر قبل أن تدقّ ساعة الحساب.