الغرب لم يعد أستاذاً.. وعليه أن يسمع

مدة القراءة 7 د

ترى دوائر سياسية عديدة في الغرب أنّ الديموقراطية هي وصول الإخوان إلى السلطة، والديكتاتورية هي منع الإخوان من الوصول إلى السلطة، وهنا تكمن واحدة من أخطر معضلات الفكر السياسي في الغرب، وهذه قصة الأسطر التالية.

بحيرة البجع

كان مطار جنيف هادئاً جدّاً، ولا تبدو عليه علامات التوتّر من جرّاء ما يبثُّه الإعلام عن مستجدّات الجائحة على مدار الساعة. كانت الثلوج هي صورة المدينة من أعلى، وهي واقعها من أسفل، لكنّ اليوم التالي شهد انحسار الثلوج، وسطوع الشوارع والميادين من جديد.

بدتْ بحيرة جنيف ساحرةً جدّاً، فأجواء “الكريسماس” والاستعداد لاحتفالات رأس السنة، استدعتْ “حالة طوارئ جماليّة”، جعلت من البحيرة الرائعة أكثر رونقاً، فيما كان بعضُ البجع، الذي يبدو كقطع الثلج الطافية على سطح الماء، يتجوّل مثل قوارب البردي الفرعونية في نيل مصر، ممتلئاً بالثقة والبهاء.

يذكرك المشهد برائعة الموسيقار الروسي تشايكوفسكي “بحيرة البجع”، وذلك الأمير الذي أُعجِب بفتاةٍ جميلة قام ساحر بتحويلها إلى “بجعة” طوال اليوم ما عدا قليلاً من الليل.. وهو ما جعل والدتها تواصل البكاء حتى امتلأت البحيرة من دموعها. تنتهي القصّة بقيام الأمير باصطياد الساحر بدلاً من البجع، فينهي مأساة تلك الجميلة ويتزوّجها.

ترى دوائر سياسية عديدة في الغرب أنّ الديموقراطية هي وصول الإخوان إلى السلطة، والديكتاتورية هي منع الإخوان من الوصول إلى السلطة، وهنا تكمن واحدة من أخطر معضلات الفكر السياسي في الغرب

على الغرب أن يسمع

شاركت في سويسرا في حلقة نقاشية نظّمها “مركز جسور للإعلام والتنمية” في جنيف، وحضرها عدد من المختصّين العرب والأوروبيّين.

استمعت إلى عدد من الكلمات الجيّدة، وبعض الكلمات التي تتطلّب مزيداً من النقاش، وقد كان الأستاذ محمد الحمادي رئيس المركز موفّقاً في عرض رؤيته، وفي التفاعل مع رؤى الآخرين. وبدوري، تحدّثتُ عن جوانب من حالة الثقافة والسياسة في عالم اليوم، وعمّا يجب على أوروبا أن تسمعه، فلا يكفي لنخبة القارّة العجوز أن تتحدّث من دون أنْ تنصت، أو أن تنصح من دون أن تدرك، وإنّما يجب أن تعمل مع الآخرين من أجل إنقاذ العالم من أخطار قد تعصف بالجميع، الغرب والشرق معاً.

الإخوان ليسوا مرادفاً للديموقراطيّة

قلت في كلمتي في حلقة جنيف النقاشية إنّ الغرب يتحدّث بلغة واحدة اتجاه ما يجري في العالم الإسلامي، وقد صاغت معظم وسائله السياسية والإعلامية معادلةً صادمة، مفادها أنّ جماعة الإخوان هي مؤشّر الديموقراطية، فإذا ما وصلت إلى السلطة كان ذلك معيار التطوّر الديموقراطي، وإذا لم تصل فإنّ ذلك مؤشّر التدهور الديموقراطي.

الجماعة أيضاً هي مؤشّر الليبرالية، فكلّما كانت لها سطوْتها على الإعلام والشباب، ولها قدرتها على حشد الجماهير وتحريكها، كان ذلك مؤشّراً إلى اتّساع مساحة الحريّة في البلاد، وإذا لم يكن للإخوان تلك السطوة على المجتمع فإنّ ذلك مؤشّر إلى تراجع الحريّة وانهيار الليبرالية.

لقد أصبحت هذه المعادلة هي الحاكمة لمعظم الخطاب الغربي اتجاه العالم العربي والإسلامي، ولا تريد النخبة السياسية والإعلامية أن تسمع غير ذلك.

وفي كلّ المنتديات لا يتحدّث الباحثون والصحافيون الغربيون عن شيء آخر تقريباً، فإذا ما كانت الكلمة تستغرق ساعة كاملة أو دقيقة واحدة، فإنّ الكلام هو نفسه من دون تغيير: الإخوان هم الديموقراطية، والآخرون هم أعداؤها.

في سويسرا يوجد الإخوان بشكل ملحوظ، ولا سيّما في مدينتيْ جنيف وزيورخ. في سويسرا يعيش الأخوان طارق وهاني رمضان، حفيدا حسن البنّا، كما يعيش يوسف ندا وإبراهيم صلاح من قادة الجماعة.

سمعت وزير تونسي سابق التقيته في جنيف: إنّ إخوان تونس من “حركة النهضة” يحتلّون الصدارة في خريطة الإخوان السويسرية، وقد زاد نشاطهم في الآونة الأخيرة في إطار خطة للتصعيد داخل تونس وخارجها ضدّ الرئيس قيس سعيّد، وضدّ مؤسسات الدولة التونسية.

إنّ معادلة “الإخوان هم المؤشّر الرئيسي للديموقراطية” هي أخطر ما أنتج التحالف الغربي الإخواني، وهي أكثر المقولات تهافتاً وتزييفاً. إنّها تحتاج إلى جهد كبير خارج محيطنا لأجل تفكيكها وإنهائها. فمثل هذه المقولة الفاسدة باتت أساساً في معالم السياسة الخارجية الأميركية والأوروبية في العالم الإسلامي.

على الغرب أن يسمع، ومن جانبنا علينا أن نقدِّم للغرب مَن يتوجّب عليهم الاستماع له، ذلك أنّ المشاعر الوطنية الصادقة لا تكفي لمواجهة هذا الإعصار من الكراهية لخيارات الشعوب العربية. وهذا التعسُّف في فرض جماعات تحشد الجماهير كقطعان إبلٍ في صحرائها، يجب التصدّي له بأعلى مستويات المعرفة والمنطق.

يقول البعض إنّ الغرب لن يسمع، وتقديري أنّ جزءاً كبيراً منه قد يسمع إذا ما التزمنا حسن الحديث، ووجاهة الطرح، وألححنا في عرض ما نرى، من دون ملل أو ضجر، ودونما خوف أو وجل.

ديموقراطيّة ضدّ الإنسانيّة

لقد كان من بين ما طرحته في جنيف، تزايد التحدّيات التي تواجه النظرية الديموقراطية، ذلك أنّ استرضاء الناخبين بات يعتمد في جوانب عديدة منه على فعل ما هو خطأ لا ما هو صواب.

إنّ الموقف الإنساني من موجات اللاجئين هو بالضرورة موقف أخلاقي رفيع، لكنّه سلوك سياسي مغامر، ذلك أنّ الناخبين لن يعطوا أصواتهم لأولئك الأخلاقيين، بل لِمَن يقف ضدّ المهاجرين، ومَن يتركونهم في عرض البحر، أو عند أسلاك الحدود.

قد دفعت السيدة أنجيلا ميركل ثمن المروءة في أصوات الناخبين، ولقد حصد آخرون أصوات الشعب لأنّهم ناهضوا ذلك الموقف الإنساني. المشهد باختصار: الديموقراطية تعمل ضدّ حقوق اللاجئين، وأصوات الناخبين تتّجه عكس القيم الإنسانية.

إنّ قضية تغيُّر المناخ هي الأخرى تواجه تحدّيات كبيرة من الآليّات الديموقراطية، إذ يقف معظم الناخبين في العالم ضدّ محاولات ضبط المناخ. إنّهم يفضّلون مصالحهم الكربونية على مصالح الإنسانية. فالناخبون يفضّلون المرشّح الذي يسمح باستخدام الفحم، والتوسّع في استخدامات الطاقة الأحفورية، لِما يخلقه ذلك من فرص عمل، وانتعاش اقتصادي. ولم يكن خروج الرئيس دونالد ترامب من معاهدة باريس بناءً على موقف فلسفي، يتعلّق برفض نظرية تغيّر المناخ، بل كان بناءً على موقف انتخابي، ذلك أنّ ملايين الناخبين لا يؤيّدون اتفاقية باريس.

يجب القول بوضوح إنّ كثيراً من المبادئ الإنسانية تتعارض مع كثير من المصالح الانتخابية، ويفضّل السياسيون في العادة المصالح الانتخابية على القيم الإنسانية.

إقرأ أيضاً: ما دور جماعة الإخوان في “لَمّ شَمْل سُنَّة لبنان”؟ (2/3)

إنّ الغرب الذي يحاول إعطاءنا دروساً كلّ يوم في كلّ شيء، عليه أن يسمع دروسنا أيضاً. إنّه يعتبر أنّ تمكين جماعات الإسلام السياسي هو مؤشّر الديموقراطية، ويعتبر أنّ صوت الناخب أهمّ من صوت الحياة.

يجب أن لا يعطينا الغرب المزيد من الدروس، ويجب علينا أن لا نغرقه بالمقابل بالدروس المضادّة، لأجل العناد والمكايدة، إنّما يتطلّب العالم أن نعمل معاً من أجل غدٍ أفضل. يجب أن لا يجلس الغرب في موقع الأستاذ، ولا نحن أيضاً، بل يجب أن تجلس البشرية المأزومة جميعها في مقاعد التلاميذ، تنظر ماذا فعلت؟ وماذا يجب أن تفعل؟ التواضع هو الحلّ.

* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور..

له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.

عضو مجلس جامعة طنطا، وعضو مجلس كليّة الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.

مواضيع ذات صلة

لماذا أعلنت إسرائيل الحرب على البابا فرنسيس؟

أطلقت إسرائيل حملة إعلامية على نطاق عالمي ضدّ البابا فرنسيس. تقوم الحملة على اتّهام البابا باللاساميّة وبالخروج عن المبادئ التي أقرّها المجمع الفاتيكاني الثاني في…

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…