سُنّة لبنان يحبّون فرنسا شيراك.. ودولتها العميقة مغرمة بالحزب

مدة القراءة 10 د

“الطرق مجفرة، والأسواق مقفرة، والحوانيت مقفولة، والعقول مخبولة، والحانات والوكائل مغلوقة، والنفوس مطبوقة، والغرامات نازلة، والأرزاق عاطلة، والمطالب عظيمة، والمصائب عميمة، والعكوسات مقصودة، والشفاعات مردودة، وبالجملة فالأمر عظيم، والخطب جسيم، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم”.

مَن يقرأ هذا الكلام قد يظنّ أنّنا نتحدّث عن حال لبنان تحت وطأة الأزمة الاقتصادية وانهيار العملة الوطنية، لكنّ الأمر ليس كذلك. قائل هذا الكلام هو المؤرّخ المصري الشهير عبد الرحمن الجبرتي، في وصف حال مدينة القاهرة سنة 1800، زمن الحملة الفرنسية على مصر التي بدأت سنة 1798 م، وذلك في كتابه “عجائب الآثار في التراجم والأخبار”، المعروف اختصاراً بـ”تاريخ الجبرتي”، والذي يعدّ مرجعاً أساسياً لتلك الحقبة، بحُكمِ أنّ الجبرتي عايش أحداثها ودوّن وقائعها.

أشعلت الحملة الفرنسية جدلاً تاريخياً لا تزال آثاره ماثلة إلى يومنا هذا، بين مَن رأى فيها بعثة علمية ثقافية، ونقطة تحوّل في التاريخ المعاصر لمصر والمنطقة، وبين مَن دحض تلك الأساطير وعرّاها من هالة التنوير المزعومة، معتبراً أنّ الحملة ليست سوى غزو عسكري شابته القسوة والعنف الدموي كأيّ غزو استعماري.

إلى اليوم لا يزال افتتان العرب، جمهوراً وساسةً، بالفرنسيين، واعتبارهم حَمَلة مشاعل التنوير، عاملَيْن مهمَّيْن يرخيان بثقلهما على صنّاع القرار في بعض الدول العربية، وخاصة لبنان. وعلى الرغم من عشرات التجارب المؤلمة، ثمّة مَن لا يزال يراهن على فرنسا، ومنهم زعماء السُنّة في لبنان ونخبهم.

لا يزال جمهور السُنّة ونخبهم تحت تأثير “نوستالجيا” أيّام شيراك التي ذهبت ولن تعود، على الأقلّ في الفترة القريبة

السُنّة وفرنسا: علاقات باردة

لم يمتلك السُنّة في لبنان يوماً، زمن الجمهورية الأولى (1943-1990)، علاقات مميّزة مع دوائر القرار في باريس، على عكس أقرانهم من المسيحيين، ولا سيّما الموارنة الذين أسّسوا شبكة علاقات فرنسية واسعة وعميقة، كانت سابقة على الانتداب الفرنسي للبنان بعقود، وأحياناً بقرون. كما هي حال عائلات الخازن، وإدّة، وسرسق وغيرها.

وعلى الرغم من بروز أسماء سنّيّة على الساحة السياسية من ذوي الثقافة الفرنسية، مثل رئيس الوزراء الراحل عبد الله اليافي، الذي كان من أوائل العرب الذين حصلوا على الدكتوراه من جامعة “السوربون”، إلا أنّ ذلك لم ينعكس على علاقة السُنّة بباريس التي بقيت عاديّة أو حتى باردة.

وكان ذلك بسبب تأثير المدّ العروبي على الشارع السنّيّ، سواء خلال وبعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، أو خلال الثورة الجزائرية ضدّ الاستعمار الفرنسي، وغيرها من المحطات التاريخية، حيث لم تكن فرنسا في نظر السُنّة سوى قوة استعمارية داعمة للصهاينة.

وبقيت البرودة تحكم علاقة السُنّة مع فرنسا إبّان الحرب الأهلية، ولا سيّما في السنوات الأخيرة منها، إثر الدعم الكبير الذي قدّمته باريس للجنرال ميشال عون رئيس الحكومة العسكرية. إذ بدا السفير الفرنسي في لبنان وقتئذٍ أقرب إلى الناطق باسم عون وحكومته. أضف إلى ذلك احتضانه في السفارة الفرنسية لتسعة أشهر، ريثما استحصلت باريس على موافقة دمشق ليخرج لاجئاً سياسياً إلى الأراضي الفرنسية.

شيراك: صديق اللبنانيّين والعرب

بيد أنّ علاقة السُنّة مع فرنسا شهِدَت تحوّلاً تاريخياً إثر انتخاب جاك شيراك رئيساً للجمهورية الفرنسية عام 1995، وذلك بفضل تأثير صديقه الرئيس رفيق الحريري، الذي لعب دوراً هائلاً في توطيد علاقات فرنسا بالعرب. فقد بدا شيراك خلال ولايتيْه الرئاسيّتين أقرب إلى وجدان العرب، وداعماً لهم ولقضاياهم، حتى خُلِعَ عليه لقب “صديق العرب”.

ومن أشهر مواقفه رفضه الحرب الأميركية على العراق عام 2003، وقبل ذلك التلاسن الذي حدث بينه وبين بعض الجنود الإسرائيليين عام 1996 أثناء جولته في القدس ومحاولته الوصول إلى أحياء القدس القديمة والتحدّث مع بعض الفلسطينيّين، ثمّ زيارته الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في رام الله كأوّل رئيس غربي يطأ أرض السلطة الفلسطينية، الأمر الذي أكسبه احتراماً كبيراً لدى الشعب الفلسطيني.

وفي لبنان درجت في الشارع السنّيّ عبارة “mon amie” في وصف الرئيس شيراك بسبب الدعم الاستثنائي الذي قدّمه للبنان في أكثر من محطة، ومن أشهرها تفاهم نيسان عام 1996، ومؤتمرا باريس 1 وباريس 2. أمّا المحطة الأهمّ فتمثّلت في دوره الحاسم في صدور القرار الدولي 1559، إبّان حملة الترهيب السورية الهادفة إلى التمديد للرئيس إميل لحود.

وهامت النخب السنّيّة أكثر في حبّ فرنسا بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والاحتضان الفرنسي لثورة الأرز، وحملة الضغوط العالمية التي تولّى شيراك تزخيمها لإخراج جيش بشار الأسد من لبنان. وهو الذي وصف الأسد الابن في مذكّراته بأنّه “طاغية ومغرور”، وختاماً مع دوره الأساسي في إنشاء المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة الحريري. ومنذ ذلك الحين احتلّت فرنسا حيّزاً لا يُستهان به في الوعي السنّيّ، لم يتأثّر برحيل شيراك.

كان شيراك استثناءً ولم يكن القاعدة، وعلى الرغم من الإرث الذي أرساه شيراك، والمتمثّل في علاقة الإليزيه المميّزة مع الزعماء اللبنانيين السُنّة، ولا سيّما سعد الحريري، إلا أنّ فرنسا بعد شيراك انتهجت نهجاً مُغايراً تماماً.

ساركوزي: الانقلاب على إرث شيراك

عقب تنصيبه رئيساً بدأ ساركوزي السير عكس سلفه، فقام بالانفتاح على نظام بشار الأسد، ونسج تعاوناً وثيقاً مع الدوحة التي كانت تدعم وقتذاك خصوم الرياض في كلّ مكان، وأساساً في بيروت.

نتيجة لتلك العلاقات، استطاع ساركوزي جمع الأفرقاء اللبنانيين المتخاصمين في “سان كلو” في أيار 2007، وهناك حدثت المفاجأة مع طرح فرنسا تغيير العقد الاجتماعي للمرّة الأولى، مع موافقتها على “المثالثة”، القائمة على تقسيم السلطة بين ثلث سنّي وثلث شيعي وثلث مسيحي، ما يعطي حزب الله حقّ الفيتو في النظام. مثّل ذلك الطرح انقلاباً في السياسة الفرنسية اتجاه لبنان، وتبنّياً لا لُبْس فيه لطروحات حزب الله.

إلا أنّ زعماء السُنّة، وقادة 14 آذار عموماً، لم يستوعبوا هذا التحوّل الباريسي. ثمّ كانت 7 أيار 2008، اجتياح ما كان حزب الله ليجرؤ على القيام به لولا وجود غطاء دولي، أو على الأقلّ “غضّ أنظار”، كانت فرنسا عرّابته، بعدما كانت سابقاً عرّابة القرار 1559. وذهب الأفرقاء السياسيون إلى الدوحة للتوقيع على اتفاق الإذعان لحزب الله، الذي كانت صيغته معدّة سلفاً بموافقة فرنسية. وهو بديل “المثالثة” في إعطاء حزب الله “الثلث المعطّل” في حكومة تجمع “كل اللبنانيين”. ثمّ بعد شهرين فقط، حطّ بشار الأسد رِحاله في فرنسا بدعوة من ساركوزي لحضور فعّاليّات العيد الوطني الفرنسي، وحضور قمّة إطلاق الاتحاد لأجل المتوسّط. وكان ذلك أوّل انفتاح غربي على الأسد، وضعه في “الصفوف الأمامية” داخل العمق الأوروبي، بعد سنوات العزلة التي بدأت مع اغتيال الحريري الأب.

وعندما حملت “القمصان السود” المستندة إلى “وهج السلاح نجيب ميقاتي إلى السراي الحكومي لرئاسة الحكومة، عقب الانقلاب على حكومة الحريري عام 2011، حُظِيت تلك الخطوة بمباركة من إدارة ساركوزي الذي استقبل ميقاتي رئيساً لأوّل حكومة لحزب الله بعد أشهر قليلة على تشكيلها.

في تلك السنوات، كان مصير لبنان طبقاً رئيساً على الموائد المشتركة التي جمعت ساركوزي بأمير قطر حمد بن خليفة، ورئيس وزراء تركيا رجب طيب إردوغان، وبشار الأسد. هذا عدا عن الاتصالات المطوّلة لبحث القضية اللبنانية بين الرئيسين الفرنسي والإيراني محمود أحمدي نجاد.

وعلى الرغم من كلّ تلك التحوّلات، إلا أنّ العاطفة السنّيّة اتجاه فرنسا لم تخبُ، بسبب تأثير ذكرى شيراك، وبقيت على هذه الحال أيّام خَلَفِهِ الاشتراكي فرانسوا هولاند، الذي كان براغماتياً حاول إمساك العصا من الوسط في أكثر القضايا الخارجية.

 

ماكرون: ابتعاد السُنّة عن العرب

لم تكن باريس بعيدة عن التسوية الكارثية التي أدّت إلى انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية. وعبّرت عن دعمها لعون، بالاستقبال الحارّ الذي خصّه به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والذي لم يُحظَ بمثله طوال ولايته التي أوشكت على الأفول.

كان ماكرون نسخة مُنقّحة عن ساركوزي، وواصل السير في المزيد من الانفتاح على إيران. في موازاة ذلك احتفظ الزعماء اللبنانيون السُنّة بعلاقات وثيقة مع سيد الإليزيه، الذي نظّم مؤتمر “سيدر” لإنقاذ الاقتصاد اللبناني من العاصفة التي كانت تقترب. لذلك حَظِيَ بمكانة مميّزة لدى السُنّة، ولا سيّما أنّ ماكرون يفضّل اعتماد الخطاب المباشر والكلام الوجداني الأقرب إلى القلب من الخطابات الكلاسيكية.

وقد أبدى ماكرون اهتماماً استثنائياً بدقائق السياسة اللبنانية، وبدا كأنّه يحاول أن يكون راعي النظام السياسي وضابط إيقاع توازناته الهشّة. ومثّلت زيارته لبيروت عقب انفجار المرفأ في 4 آب 2020 نقطة تحوّل كبيرة. فالسلطة كانت تترنّح، ورئيس الجمهورية يتعرّض لضغوط كبيرة، والاستقالات من المجلس النيابي بدأت تنهمر، إلى أن تدارك ماكرون الوضع ومنح السلطة “قبلة الحياة”. وهكذا استوعب الرئيس الفرنسي الغضب الشعبي، وعمل على تنفيسه بجولاته في شوارع بيروت، وبالمبادرة الفرنسية التي ما طُبِّقَ منها شيء حتى اليوم.

 

ما علاقة إيران؟

المشترك بين كلّ العهود الفرنسية محافظة “الدولة الفرنسية العميقة” على العلاقة الخاصّة بإيران، منذ خرج الإمام الخميني منها إلى إيران، وحتّى اليوم والغد.أما الفارق الأساسي بين عهديْ ماكرون وساركوزي، أنّ الرياض في عهد الأوّل كانت متسامحة جدّاً مع اللبنانيين، وغضّت الطرف عن التطاول المستمرّ عليها من قبل بعض الأطراف السياسية. أمّا في عهد ماكرون فلم تعُد كذلك، ويرجع ذلك بالدرجة الأولى إلى الحرب اليمنيّة، واتّهام الرياض لحزب الله بالضلوع فيها عبر تدريب الحوثيين عسكريّاً ومدّهم بالأسلحة والصواريخ التي تُوجَّه إلى الأراضي السعودية. لذا كان تقرّب ماكرون من إيران، ومن حزب الله في لبنان، على حساب العرب، ولا سيّما السعودية.

برز الاصطفاف السُنّيّ إلى جانب ماكرون في رضوخ نادي رؤساء الحكومات السابقين لطلبات سيّد الإليزيه أكثر من مرّة:

– الأولى في اختيار مصطفى أديب لتكليفه رئاسة الحكومة.

– والثانية في ترشيح سعد الحريري، الذي حُشِرَ بين الضغوطات الماكرونية لتشكيل حكومة كيفما كان، وبين الرضوخ لإملاءات عون وشروطه الهمايونية، حتى وصل الحال بماكرون إلى الضغط عليه للقاء باسيل.

– والثالثة في ترشيح ميقاتي لرئاسة الحكومة، وتقديم الأخير تنازلات بدفع فرنسي، ما أدّى إلى تشكيل الحكومة.

قدّم الرؤساء السُنّة كلّ ما في وسعهم لإرضاء ماكرون، لكنّهم لم يحصدوا سوى الريح. في حين أنّه كان يتوجّب عليهم مقاطعة الاستشارات، وكذلك رئيس الجمهورية. فلا أمل يُرجى من حكومة تحت حراب حزب الله وتسلّط عون. لكنّهم فضّلوا السير بتسويات “ماكرونية” الطابع، كان ثمنها جفاءً عربياً تحوّل مع الوقت إلى قطيعة.

فالرياض لم تستقبل أيّ شخصية سنّيّة أو لبنانية رفيعة المستوى منذ مشاركة الرئيس سعد الحريري في منتدى دافوس عام 2018، بدعوة خاصّة من وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان، وقبله وزير الداخلية نهاد المشنوق في حكومة تصريف الأعمال، بدعوة من نظيره السعودي.

وعلى الرغم من الحفاوة الرئاسية الفرنسية التي يُحظى بها ميقاتي، وحُظي بها قبله الحريري، إلا أنّ فاتورة تلك الحفاوة باهظة جدّاً. إذ لم يسبق في تاريخ لبنان المعاصر أن كانت باريس جسراً بين السُنّة والعرب.

إقرأ أيضاً: فرنسا والأسئلة اللبنانيّة

وسط كلّ ذلك، لا يزال جمهور السُنّة ونخبهم تحت تأثير “نوستالجيا” أيّام شيراك التي ذهبت ولن تعود، على الأقلّ في الفترة القريبة.

كأنّ السُنّة منبهرون بالكلام المعسول الصادر عن الرئيس ماكرون، متحدّثاً عن قيم فرنسا وشعارات الحرّية والإخاء والمساواة، التي اعترف نابليون في مذكّراته، التي كتبها في منفاه في “سانت هيلانة”، بأنّها كانت دجلاً من أعلى طراز.

السنّة في لبنان يحبّون فرنسا… لكنّ الحقيقة المرّة أنّ فرنسا – الدولة العميقة، مغرمة بحزب الله وإيران… في السرّ والعلن.

مواضيع ذات صلة

ساعات حاسمة… ومصير السّلاح مجهول

في الأيام الماضية ضغط جيش العدوّ الإسرائيلي بجولات من قصف صاروخي عنيف ومكثّف لا مثيل له منذ بدء العدوان الجوّي في 23 أيلول الماضي، وتوّج…

كيف يستعدّ الحزب لليوم التّالي؟

بدأ الحزب إعادة ترتيب أولويّاته تحضيراً لليوم التالي في الحرب بعيداً عن التفاصيل الميدانية الحربية والمفاوضات السياسية الحاصلة لإصدار قرار وقف إطلاق النار.   أشارت…

خشية غربيّة من جولة تصعيد جديدة

إذا لم تُثبت التطوّرات عكس ذلك، فإنّ الأوساط الدبلوماسية الغربية لا ترى في مسوّدة الاتّفاق الذي صاغة الموفد الأميركي آموس هوكستين وقدّمته السفيرة الأميركية لدى…

قيس عبيد: شبحُ مغنيّة الذي حملَ الجنسيّة الإسرائيليّة

منذ أن افتتحَت إسرائيل سلسلة اغتيالات القيادات العسكريّة للحزبِ في شهرَيْ حزيْران وتمّوز الماضيَيْن باغتيال قائد “قوّة الرّضوان” في جنوب لبنان وسام الطّويل وبعده قائد…