السعودية وطرابلس: هل باتت المخدّرات سلاحاً سياسياً؟

مدة القراءة 7 د

سوق الخضراوات الجديد في طرابلس، الذي لمّا يفتح أبوابه، يُنهَب بعدما تعرّض للسرقة مرّات عدّة.

– مجموعات من الشبّان والفتيان تقطع الطرقات داخل عاصمة الشمال وعند مداخلها احتجاجاً على ارتفاع الدولار وغلاء الأسعار.

– شابّ ينحر جدّته في منطقة المنكوبين، وآخر يقتل شقيقته الطفلة، إضافة إلى جرائم أخرى.

هي صور من مشهديّة صاخبة ودمويّة عاشتها عاصمة الشمال خلال أسبوع واحد لا أكثر. لكن وسط عالم الجريمة هذا الآخذ في التمدّد أفقيّاً وعموديّاً، والذي تفوح منه رائحة الإدمان على الحبوب المخدِّرة، وجدت الأجهزة الأمنيّة في الأسبوع نفسه مُتّسعاً من الوقت وقدرات لوجستية – تشتكي من فقدانها – لملاحقة مخالفة ترميم!

تبدو الحملة على إدمان الشباب على الحبوب المخدّرة أشبه بصرخة يأس في وادٍ لا تترك سوى صدىً بعيد. فإلقاء القبض على المروّجين والموزّعين، على أهميّته وضرورته، لن يفي بالغرض

ففي حادثة تتكرّر، وبينما كان أحد التجّار في المدينة يرمِّم “سقيفة” بسيطة في دكّانه بإضافة عدّة قطع من “الآجر” لحمايته من مطر الشتاء، لم يبقَ جهاز أمني إلا وأرسل دوريّة إليه، ولعدّة مرات، ما عدا الجهة التي يُفترض بها قانوناً القيام بذلك، ألا وهي جهاز شرطة البلدية المُغيَّب عن العمل.

هذه الحادثة، على بساطتها وغرابتها في آن معاً، تبيِّن مدى ازدواجية الأجهزة الأمنيّة القادرة على معرفة “دبيب النملة” في طرابلس، عبر شبكات مؤلّفة من عشرات المخبرين الموزّعين في أحياء المدينة وأزقّتها، لكن في الوقت نفسه “تعجز” عن مواجهة سرقات بلغت حدّاً غير مسبوق حتى أيام الحرب الأهليّة وميليشياتها، وعن التصدّي لآفّة انتشار الحبوب المخدِّرة، على الرغم من أنّها تُباع على البسطات!

 

تفشّي الإدمان

أعادت جريمتا القتل المذكورتان، اللتان قام بهما شابّان في مقتبل العمر تحت تأثير الحبوب المخدِّرة، إلى الواجهة قضية الإدمان على هذه الحبوب أيّاً كان اسمها أو نوعها.

واقع الأمر أنّ الإدمان على هذه الحبوب وتفشّيه بين الشباب في أحياء طرابلس وضواحيها، قضية صعبة ومعقّدة، وهي ليست حديثة العهد، إنّما ظاهرة تراكمت على مدى سنوات إلى أنّ باتت تتصدّر المشهد الطرابلسي.

وقد بات سكّان المدينة يلوذون بمنازلهم باكراً قبل هبوط الظلام خوفاً من تسلّط الشباب المدمنين المتروكين على سجيّتهم في الشوارع. وكنّا قد أشرنا في “أساس” إلى تفشّي هذه الظاهرة وتأثيرها في إقفال مطاعم ومحلّات سناك الشهيرة في منطقة “التل” وسط المدينة في وقت مبكر لم تعتد عليه سابقاً في أحلك الظروف. فتلك الحبوب ليست بعيدة أيضاً عن ظاهرة السرقات المتعاظمة في المدينة، بل تدخل في صُلبها.

وقد أدّى تفاعل الشارع الطرابلسي مع الجريمتين إلى سريان موجة نشاط ملحوظ لدى الأجهزة، فطفِقَتْ تُلاحق المروّجين، وتلقي القبض على أفراد منهم بشكل يومي. ومن المتوقّع أن تزداد الحملة حدّةً خلال الأيام المقبلة. ليس لوقت طويل . فستعود الأمور إلى سيرتها الأولى بعد أسابيع قليلة، عندما تخمُد فورة الغضب هذه. لأنّ هذه الظاهرة لا يمكن القضاء عليها بالقبض على المروّجين والموزّعين فقط، فالأصل هو الذهاب إلى المنبع، لا الاكتفاء بالسواقي والقنوات الفرعية والمصبّات، وهنا تكمُن الصعوبة، إن لم نقل الاستحالة.

فعند منبع الحبوب المخدِّرة، ثمّة طرف سياسي يقول للأجهزة الأمنيّة: “قف”. ويضع أمامها الخطوط الحُمر، ويمنعها من تخطّيها، كما فعل غير مرّة على مدار السنوات الفائتة، بأن أسبغ حمايته على عشرات تجّار المخدّرات… مهما كان الثمن.

 

الرسالة الدمويّة

في نيسان 2009، تعرّضت دورية للجيش اللبناني لكمين مسلّح في منطقة رياق – بعلبك، حيث تمّ إطلاق وابل من الرصاص على السيارة، فاستشهد 4 عناصر، وأُصيب ضابط بجروح خطرة. والسبب هو اتّهام فَرْع إحدى العشائر الشهيرة في المنطقة للضابط بالمسؤولية عن مقتل واحد من أبرز تجّار المخدّرات أثناء ملاحقته، وكان قد صدر بحقّه 132 مذكّرة توقيف… فقط.

أيّ جهاز بعد هذه الحادثة سيقبل التضحية بعناصره؟ وهل كان من الممكن أن تحدث مثل هذه العملية الجريئة جدّاً، على بعد أمتار من مركز الجيش ومن سكن ضبّاطه، لولا وجود حائط صدّ حزبي – سياسي يتولّى حماية تجّار المخدّرات ورعايتهم، ومنع رجال القانون من الوصول إليهم؟

بعد هذه الحادثة توسّعت تجارة المخدّرات، ولا سيّما حبوب الكبتاغون المحلّيّة الصنع. وفي آذار عام 2012، قامت قوى الأمن الداخلي بحملة مداهمات لأمكنة يتمّ فيها تصنيع الكبتاغون بكميّات هائلة، وكشفت التحقيقات عن ارتباط وثيق بين صناعة هذه الحبوب وقوى سياسية وميليشياوية وارت المتّهمين الرئيسيين وامتنعت عن تسليمهم إلى الأمن.

استبشر اللبنانيون خيراً مع بدء تطبيق الخطة الأمنيّة عام 2015، لكنّها مع الأسف وقفت على تخوم أوكار صناعة وترويج المخدّرات. وقد أعلن وزير الداخلية حينها نهاد المشنوق عدّة مرّات أنّ الخطة الأمنيّة الناجحة، التي أشرف على تطبيقها، تقف عند حدود المناطق المحسوبة على حزب الله في البقاع، وانتقد عدم تجاوب الحزب مع الخطة، لكن من دون جدوى. فلا تزال صناعة المخدّرات تتطوّر في كنف بيئة الحزب، مع تحوُّل لبنان إلى واحد من أبرز الدول المصدّرة لحبوب الكبتاغون.

الإدمان على هذه الحبوب وتفشّيه بين الشباب في أحياء طرابلس وضواحيها، قضية صعبة ومعقّدة، وهي ليست حديثة العهد، إنّما ظاهرة تراكمت على مدى سنوات

نحو العالميّة

لم تكتفِ عصابات المخدّرات والكبتاغون، المُغطّاة سياسيّاً وميليشياويّاً، بإغراق المناطق اللبنانية بهذه الحبوب، بل يمّمت وجهها شطر دول أخرى، في طليعتها المملكة العربية السعودية، أضف إلى ذلك ضلوعها في تهريب المخدّرات في القارّة الأميركية.

في شباط عام 2016، كشفت إدارة المخدّرات الأميركية، في بيان رسمي، عن عملية دوليّة حملت اسم “كاساندرا”، بالتعاون مع أجهزة استخبارات في سبع دول أخرى، بينها فرنسا وبلجيكا وألمانيا وإيطاليا، أسفرت عن اعتقال شبكة لبنانية، قال البيان إنّها تتبع لحزب الله، متورّطة في تهريب وتجارة مخدِّرات تبلغ قيمتها ملايين الدولارات، بهدف تمويل عمليات إرهابية في لبنان وسوريا. (1)

أمّا دول الخليج العربية، فقد تعاظم تهريب الحبوب المخدّرة إليها، وخاصة الأراضي السعودية، وكان ذلك سبباً أساسيّاً في الشرخ الحاصل في علاقات لبنان مع أشقّائه في الخليج، ولا سيّما أنّ المملكة اعتبرتها عمليّة “ممنهجة” بسبب كثرة تكرار عمليّات التهريب وضخامتها.

وفي حديث لصحيفة “عكاظ”، في تموز الماضي، كشف سفير المملكة في لبنان وليد بخاري أنّه تمّ إحباط تهريب أكثر من 600 مليون حبّة مخدِّرة مصدرها لبنان خلال السنوات الست الماضية، إضافة الى مئات الكيلوغرامات من الحشيش المخدّر. وأشار بخاري إلى أنّ الكميّات التي تمّ إحباط تهريبها كافية لإغراق الوطن العربي بكامله بالمخدِّرات والمؤثِّرات العقلية، وليس السعودية وحدها.

وإلى جانب السعودية، كان للإمارات والبحرين والكويت حصّتها من هذه العمليّات، بالإضافة إلى المملكة الأردنية التي أشار رئيس دائرة المخدّرات في جهازها الأمنيّ، في حديث لصحيفة “نيويورك تايمز”، منذ أيام فقط، إلى أنّ عمّان تشكّل محطة عبور رئيسية للحبوب والمخدّرات إلى السعودية.

ولم تكُن القارة الأوروبية بدورها بعيدة عن جدول أعمال عصابات تهريب الكبتاغون. ففي الصيف الماضي، ضبطت اليونان، بالتعاون مع مديرية مكافحة المخدّرات السعودية، أكثر من أربعة أطنان من الحبوب المخدّرة (كبتاغون) مخبّأة في شحنة من آلات صنع حلويات “كاب كيك” قادمة من لبنان إلى سلوفاكيا.

ومن باب التذكير، فإنّ مشروع العفو الذي طُرِح في مجلس النواب، كان يتضمّن أكثر من 30 ألف مذكّرة توقيف بحقّ تجّار مخدّرات، وهو عدد ضخم جدّاً بالمقارنة مع عدد سكان لبنان.

إقرأ أيضاً: السّعوديّة تواجه “حرب المخدّرات” المُعلَنَة عليها من لبنان (2/2)

بعد كلّ ما تقدّم، تبدو الحملة على إدمان الشباب على الحبوب المخدّرة أشبه بصرخة يأس في وادٍ لا تترك سوى صدىً بعيد. فإلقاء القبض على المروّجين والموزّعين، على أهميّته وضرورته، لن يفي بالغرض، لأنّ الصناعة لا تزال مستمرّة، وسيتمّ تفريخ موزّعين جدد بدل الذي قُبِضَ عليهم.

لا يمكن معالجة هذه القضية إلا بالتضييق على المصدر الأساس، أي الغطاء السياسي – الحزبي  الذي تتمتّع به عصابات الكبتاغون، فهل ذلك ممكن؟

مواضيع ذات صلة

ساعات حاسمة… ومصير السّلاح مجهول

في الأيام الماضية ضغط جيش العدوّ الإسرائيلي بجولات من قصف صاروخي عنيف ومكثّف لا مثيل له منذ بدء العدوان الجوّي في 23 أيلول الماضي، وتوّج…

كيف يستعدّ الحزب لليوم التّالي؟

بدأ الحزب إعادة ترتيب أولويّاته تحضيراً لليوم التالي في الحرب بعيداً عن التفاصيل الميدانية الحربية والمفاوضات السياسية الحاصلة لإصدار قرار وقف إطلاق النار.   أشارت…

خشية غربيّة من جولة تصعيد جديدة

إذا لم تُثبت التطوّرات عكس ذلك، فإنّ الأوساط الدبلوماسية الغربية لا ترى في مسوّدة الاتّفاق الذي صاغة الموفد الأميركي آموس هوكستين وقدّمته السفيرة الأميركية لدى…

قيس عبيد: شبحُ مغنيّة الذي حملَ الجنسيّة الإسرائيليّة

منذ أن افتتحَت إسرائيل سلسلة اغتيالات القيادات العسكريّة للحزبِ في شهرَيْ حزيْران وتمّوز الماضيَيْن باغتيال قائد “قوّة الرّضوان” في جنوب لبنان وسام الطّويل وبعده قائد…