عندما اُنتُخبت أنجيلا ميركل مستشارة لألمانيا في عام 2005، ارتفعت علامات الاستفهام: مَن تكون هذه السيّدة التي أبعدت شخصية سياسية مرموقة في السياسة الألمانية هو المستشار السابق هيلموت كول؟ ومن هي هذه المتخصّصة بعلوم الكيمياء حتى تتربّع على رأس الهرم السياسي؟ ثمّ كيف يمكن لسيّدة مغمورة من ألمانيا الشرقية أن تنجح في قيادة ألمانيا الموحّدة؟ كان الاعتقاد أنّ اختيارها كان خطأ، وأنّ المجتمع السياسي الألماني لن يتحمّل هذا الخطأ طويلاً.
لكنّ أنجيلا ميركل بقيت على رأس السلطة طويلاً. عاصرت ثلاثة رؤساء فرنسيين هم نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند وإيمانويل ماكرون. وعاصرت أربعة رؤساء أميركيين هم جورج بوش الابن وباراك أوباما ودونالد ترامب وجو بايدن.
ما كان للسيّدة ميركل أن تبقى وأن تستمرّ سيّدة ألمانيا الأولى طوال هذه السنوات لو لم تكن سيّدة استثنائية. برزت مواصفاتها الاستثنائية في معالجة أزمة اليونان الماليّة في عام 2010، ثمّ في المحافظة على العملة الأوروبية الموحّدة “اليورو” وحمايتها من تداعيات خطيرة كادت تطيح بها، ذلك أنّ العملة الموحّدة تحتاج إلى سياسة موحّدة، والسياسة الموحّدة تحدّدها مؤسسة موحّدة، وهو ما لم يكن متوافراً.
تمكّنت “السيّدة” أنجيلا ميركل من أن تنجح في عالم الرجال من السياسيين الأوروبيين. وتجسّد نجاحها في إدخال المرأة الأوروبية إلى الواجهة السياسية الأوروبية المشتركة
تمكّنت “السيّدة” أنجيلا ميركل من أن تنجح في عالم الرجال من السياسيين الأوروبيين. وتجسّد نجاحها في إدخال المرأة الأوروبية إلى الواجهة السياسية الأوروبية المشتركة. سبقت دولٌ في العالم الثالث أوروبا بانتخاب سيّدات رئيسات لها: باندر نيكة في سيلان، بنازير بوتو في باكستان، وأنديرا غاندي في الهند. مرّت سنوات بعد ذلك حتى انتخب البريطانيون مارغريت تاتشر رئيسةً للحكومة. ولم تصل امرأة إلى البيت الأبيض حتى الآن، لكن وصلت أخيراً “كامالا هاريس” نائبةً للرئيس، ثمّ عمّ هذا التوجّه في العديد من دول العالم في الشرق والغرب. لكن بقيت أنجيلا ميركل حالة خاصّة.
الثقافة الشرقية – الغربية
منذ اليوم الأول لانتخابها رئيسةً لألمانيا الموحّدة بشطريْها الشرقي والغربي، لم تتنكّر ميركل لثقافتها السياسية الشرقية. بل كانت مهتمّة دائماً بالعلاقات مع بولندة، بما لا يقلّ كثيراً عن اهتمامها بالعلاقات مع فرنسا. ذلك أنّ الجارة الشرقية هي بوّابة ألمانيا إلى الاتحاد الروسي. وقد شهدت العلاقات الألمانية – البولندية أياماً دمويّة سوداء في العهد الهتلريّ.
أمّا روسيا، التي اجتاحت ألمانيا أثناء الحرب وكانت أوّل مَن احتلّ العاصمة برلين، فتشكّل المصدر الأساسي للطاقة من الغاز الذي تستورده ألمانيا (برّاً عبر أوكرانيا، وبحراً عبر البلطيق).
ومنذ اليوم الأول لانتخابها أيضاً، كانت ميركل تدرك خلفيّة الصراعات التاريخية مع جارتها الغربية فرنسا التي ربطتها بها علاقات أدّت إلى حربين عالميّتين أولى وثانية، وفجّرت حرباً دينية استمرّت حوالي ثلاثة عقود من الزمن. كان على ميركل، وعلى أيّ رئيس ألماني آخر، أن يراعي الحساسية الفرنسية إلى أبعد مدى. وهو ما نجحت فيه ميركل من ساركوزي حتى ماكرون.
لم تتعثّر الحسابات السياسية لأنجيلا ميركل إلا مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. فعندما هدّد بالانسحاب من حلف الناتو الذي تعتبره ألمانيا مظلّتها الأمنيّة، وعندما هدّد، بل وباشر، بسحب القوات الأميركية من قواعدها في ألمانيا التي تحتفظ بها منذ الحرب العالمية الثانية، شعرت ميركل، وكلّ ألمانيا، بسحب المظلّة الأمنيّة – السياسية التي تعتمد عليها في عالم يتسلّح حتى الأسنان. وفهمت الانسحاب العسكري انسحاباً من التعهّدات السياسية التي توفّر الأمن الاستراتيجيّ لألمانيا. ولذلك رفعت ميركل الصوت عالياً في وجه ما اعتبرته ارتداداً أميركياً وتخلّياً عن الالتزامات الأخلاقية.
لم يعش هذا الكابوس طويلاً. فما إن فاز الرئيس الديموقراطي جو بايدن في انتخابات الرئاسة الأميركية حتى انقلبت الأمور رأساً على عقب، وعادت الأمور بين البلدين إلى سيرتها الأولى.
إقرأ أيضاً: عالم ما بعد ميركل
واليوم تستعدّ ميركل لتجميع أوراقها في مكتبها في المستشارية الألمانية وهي مطمئنّة إلى نجاح سياستها مع روسيا (وبولندة) في الشرق، ومع أوروبا (وفرنسا) في الغرب، ومع الولايات المتحدة عبر الأطلسي.
غادرت ميركل مكتبها أمس الأول، الأربعاء. لكنّها لن تعود ميركل إلى العمل في مختبرات الكيمياء، وهو موضوع اختصاصها. لكنّها سوف تنكبّ على كتابة مذكّراتها السياسية، وهي موضوع اهتمامها.