التذاكي اللبناني لعبة سمجة. واحدة من ثمراته الأخيرة استقالة مؤجّلة نحو شهر لوزير الصدفة جورج قرداحي، يراها البعض بسذاجة مفرطة مدخلاً إلى تصحيح العلاقات مع دول الخليج، وتحديداً مع السعودية.
المتذاكون فاتهم أنّ الاستقالة تؤكّد ولا تنفي ما تشكو دول الخليج العربي منه، وهو أنّ لبنان واقع تحت وصاية حزب الله.
فمَن منع الاستقالة شهراً ومَن أجازها الآن هو حزب الله، بلا لفّ ولا دوران. وهذا فقط ما يعني صانع القرار الخليجي.
يحتاج المرء إلى الكثير من المخيّلة السياسية ليعتقد صدقاً أنّ القرداحي هو أكثر من عملة تداول (currency) في صفقة .(transaction)
المعركة مع لبنان تتطلّب تعديلاً خليجياً في المقاربة، والانتباه إلى أنّ في الداخل حلفاء ما زالوا يشكّلون بقايا حصانة للموقف اللبناني العربي
كان وزير الصدفة عملة تداول في التصعيد الذي أراده حزب الله، وظلّ عملة تداول في صفقة البهلوانيّات مع فرنسا ورئيسها، وإيهامه بأنّه يحمل معه إلى السعودية هدية تفيد بفتح نقاش مُجدٍ حول لبنان وترتيب العلاقات معه.
أيّاً تكن الانطباعات عن خفّة الرئيس الفرنسي، فهي بالتأكيد لا تصل إلى مستوى أن يصدّق الرجل أنّ استقالة قرداحي تُقنع السعوديين أو غيرهم من أهل الخليج بالعودة إلى لبنان، ويا دار ما دخلك شرّ! لنضع الموقف السعودي جانباً للحظة.
يكفي أن ينتبه اللبنانيون أنّ دولة الإمارات أغلقت عمليّاً سفارتها في لبنان، وسحبت كامل طاقمها الدبلوماسي، وأنزلت علمها عن مبنى السفارة السابقة، وتوكِل إلى فريق غير إماراتي مسألة متابعة موضوع التأشيرات، وهي جادّة في مسألة الاستعداد لبيع “العقار” إذا توافر شارٍ يدفع 62 مليون دولار!
خطوات من هذا النوع لا يعود المرء عنها باستقالة أو بإعلان نوايا أو باتّخاذ موقف من أيٍّ من أطراف البلد المعنيّ. فهذه خطوات جذرية لها علاقة بتقييم أوسع لمدى الضرر المتأتّي عن لبنان، ولتقدير واقعي للمصالح والفوائد المرجوّة من أيّ علاقة مع أيّ بلد.
ليست كلّ دول الخليج على موقف واحد، لا لناحية تقدير الموقف ولا لناحية الخطوات المتّخذة. هذا صحيح. بيد أنّ الأغلبية تتّفق أن لا إمكانيّة للعودة إلى علاقات سليمة مع لبنان من دون تغيير حقيقي في المعادلة السياسية في هذا البلد قسراً أو تفاهماً.
هذا واضح في البيان السعودي الفرنسي الذي أراد البعض في بيروت تظهيره وكأنّه اختراق استراتيجي ونقطة تحوُّل استثنائية.
فالبيان ينصّ على “العمل مع لبنان لضمان تطبيق” تدابير. ما هي هذه التدابير:
1- قيام الحكومة اللبنانية بإجراء إصلاحات شاملة تشمل القطاع المالي وقطاع الطاقة ومكافحة الفساد ومراقبة الحدود.
2- الالتزام باتفاق الطائف المؤتمن على الوحدة الوطنية والسلم الأهلي في لبنان.
3- تعزيز دور الجيش وحصر السلاح بمؤسسات الدولة الشرعية.
4- ألا يكون لبنان منطلَقاً لأيّ أعمال إرهابية تزعزع أمن واستقرار المنطقة، ومصدراً لتجارة المخدِّرات.
5- الحفاظ على استقرار لبنان واحترام سيادته ووحدته بما يتوافق مع قرارات مجلس الأمن 1559 و1701 و1680، والقرارات الدولية ذات الصلة.
أيّاً تكن الانطباعات عن خفّة الرئيس الفرنسي، فهي بالتأكيد لا تصل إلى مستوى أن يصدّق الرجل أنّ استقالة قرداحي تُقنع السعوديين أو غيرهم من أهل الخليج بالعودة إلى لبنان
ولك أن تتخيّل، عزيزي القارئ، مدى السلاسة التي سترافق تطبيق البند الخامس.
في الشقّ العملي، الاتفاق لا يتجاوز إنشاء آلية سعودية – فرنسية للمساعدة الإنسانية في إطار يكفل الشفافية التامّة، وإعلان عزمهما على إيجاد الآليات المناسبة، بالتعاون مع الدول الصديقة والحليفة، للتخفيف من معاناة الشعب اللبناني.
أمّا مخاطبة وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي من الهاتف الشخصي للرئيس الفرنسي فهو لزوم اللحظة، ومجاملة لمطلب شخصي من ماكرون، الذي يعدّ أول رئيس غربي يزور وليّ العهد السعودي منذ جريمة قتل الصحافي جمال خاشقجي، وهذا اختراق دبلوماسي وسياسي ومفصليّ كبير للرياض.
حقيقة الأمر أنّ الفرنسيين سمعوا من عدد من مسؤولين خليجيّين عتباً صريحاً على باريس بسبب تلكُّئها في وضع حزب الله بكامله على لوائح الإرهاب أسوة بمواقف ألمانيا وبريطانيا. وممّا طرحه مسؤول خليجي رفيع على الفرنسيين قبل زيارة ماكرون أنّ خطوة كهذه تشكّل بداية لحوار خليجي فرنسي حقيقي حول لبنان، يضع خارطة طريق فعليّة لاستعادة البلد واستئناف العلاقات معه ووضعه على سكّة التعافي.
يدرك مَن يطرح سياسات الحدّ الأقصى هذه أنّ ميزان القوى يعاكس هذا الطموح، وهو ما يشير إلى أنّ الاشتباك مع لبنان مرشّح لأن يطول وتتعقّد فصوله أكثر في الأسابيع والأشهر المقبلة، ولا سيّما أنّ لبنان مقبل على استحقاقات سياسية مفصليّة، كالانتخابات النيابية والرئاسية، في ظلّ تهديد جدّيّ بعاصفة عقوبات غربية إذا ما تمّ التلاعب بالمواعيد الدستورية. وعليه لا أحد مستعدّ الآن لتقديم حبال النجاة لأحد، مقابل أثمان تقارب العدم من نوع استقالة القرداحي.
إلى ذلك، المنطقة مقبلة على امتحانات معقّدة، أبرزها امتحان ما ستفضي إليه مفاوضات فيينا حول النووي الإيراني.
الأمر الآخر، الذي تثبته نتائج حفلة التجاذب الأخيرة بين دول الخليج وحزب الله، أنّه لا تزال في لبنان إمكانيّات للمواجهة تضع حدوداً لقوّة حزب الله وضوابط عليها. فمنذ اندلاع أزمة تصريحات القرداحي، ثبت بالدليل القاطع أنّ الدولة تعطّلت، وأنّ كلّ قوّة حزب الله لم تكن قادرة على فرض جلسة مجلس وزراء واحدة بحضور القرداحي. صحيح أنّ مجلس الوزراء تعطّل قبلاً بسبب معركة الثنائي الشيعي حول مصير القاضي طارق البيطار المولج التحقيق في انفجار المرفأ، والذي يسعى حزب الله “لقبعه”، بيد أنّ الحزب كان بوسعه تجاوز هذا الاعتراض لمرّة واحدة لو قُيِّض له عقد ولو جلسة واحدة بحضور القرداحي لتسجيل نقطة معنوية في مرمى دول الخليج. فحزب الله يملك من البراغماتية ما يكفي ليضع ملفّ البيطار جانباً لجلسة واحدة يكون نجمها حضور القرداحي، ثمّ يعود إلى التعطيل في سياق معركة إزاحة البيطار. ما منعه من ذلك هو وجود بقايا ممانعة في لبنان ورصيد هيبة فرمل أيّ خطوة متهوّرة من هذا النوع.
إقرأ أيضاً: فرنسا والأسئلة اللبنانيّة
وعليه فإنّ المعركة مع لبنان تتطلّب تعديلاً خليجياً في المقاربة، والانتباه إلى أنّ في الداخل حلفاء ما زالوا يشكّلون بقايا حصانة للموقف اللبناني العربي، يجب، من موقع المصلحة، الانفتاح عليهم والتعامل معهم ما داموا خارج حكومة حزب الله وخارج كلّ تشكيلات التعاون معه.
أعلم صدق البحث الخليجي عن سبلٍ لمواجهة حزب الله من دون إيذاء اللبنانيين، وهذا طريقه وجود شركاء في الداخل اللبناني في معركة عزل حزب الله، ممّن لا يواربون في عنوان المعركة أو في مضمونها.