ليس “انتداباً سعوديّاً – فرنسيّاً”.. إنّما احتلال إيرانيّ

مدة القراءة 7 د

لم يكد يجفّ حبر البيان السعودي – الفرنسي الذي تطرّق إلى الوضع اللبناني، حتى سالت أقلام “محور الممانعة” في التهجّم عليه. فاعتبروه “بيان الانتداب السعودي – الفرنسي الذي لا يُمكن قراءته إلا من زاوية تسعير الأزمة مع لبنان” (افتتاحيّة صحيفة الأخبار بتاريخ 6 كانون الأول 2021).

يتكلّم فصيل “محور الممانعة” في لبنان، وكأنّ حزب الله هو لبنان، فمَن لديه أزمة مع الحزب، تكون أزمته مع لبنان أيضاً.

غريب هذا المنطق!

ربّما يُخيّل لقيادات هذا الفصيل وأقلامه أنّ مفهوم الدولة المتعارَف عليه عالميّاً منذ مؤتمر “وستفاليا” قد تبدّل بعد تسلّم الثورة الإسلامية الحكم في إيران ومع تأسيس حزب الله في لبنان، بحيث أصبحت الازدواجية في السلطة السياسية بين “المرشد” ومؤسّسات الدولة في أساس أنظمة الدول، ومبدأ يُدرَّس في العلوم السياسية، والازدواجية في القوى العسكرية بين “الميليشيا” والجيش النظامي تُدرّس في المعاهد العسكرية!…

يتكلّم فصيل “محور الممانعة” في لبنان، وكأنّ حزب الله هو لبنان، فمَن لديه أزمة مع الحزب، تكون أزمته مع لبنان أيضاً

وأبعد من ذلك، ربّما يعتقدون أنّه أصبحت في صلب مبادئ العلاقات الدولية أن تقوم دولة أجنبية بتأسيس ميليشيات لها في بلد آخر، وتمويلها وتجهيزها بكلّ أنواع الأسلحة والعتاد، وتزويدها بالصواريخ، مستبيحةً المعابر البريّة والبحرية والجويّة في هذا البلد، من خلال فرض سيطرتها عليها بالقوّة، كما يفعل حزب الله في لبنان والحشد الشعبي في العراق والحوثيّون في اليمن. وربّما يعتقدون أنّ نظرية جديدة نشأت في العلاقات الدولية وفي علم الجيوسياسة المتخصّص في حدود الدول، تنصّ على أن تتنقّل عناصر ميليشياوية بكلّ حريّة من دولة لأخرى ذهاباً وإياباً مدجّجة بالسلاح من دون أيّ حسيب أو رقيب، وتشارك في حروب الدول وفي قتل أبنائها.

مهلاً.

أنتم لستم لبنان. وما تفعله إيران منذ أربعة عقود في لبنان والمنطقة مخالفٌ لكلّ أسس الدولة ولكلّ مبادئ العلاقات الدولية. فوجود تنظيم مسلّح كحزب الله في لبنان، الذي أسّسته إيران ويتبع لها سياسياً وعسكرياً، هو بحدّ ذاته مخالف لأسس الدولة ومرفوض من قبل غالبية اللبنانيين، ولو مرّ على تأسيسه ليس فقط أربعة عقود، إنّما أربعة قرون، ولو أنّه يملك ترسانة أسلحة تفوق تلك التي يملكها الجيش اللبناني.

أين السعودية؟

ليست المملكة العربية السعودية هي مَن تدفع باتجاه حرب أهليّة في لبنان. فهي التي ساهمت في إخماد نارها في الماضي، واستضافت اللبنانيين في الطائف للاتفاق على صيغة لإنهائها. في المقابل، حزب الله، في علّة وجوده، هو خطر على لبنان ويهدّد باندلاع حرب أهليّة فيه. فكيف لفريق له ميليشيا، وتابع سياسيّاً وعسكريّاً لدولة أجنبية، أن لا يكون وجوده تهديداً للسلم الأهلي في مجتمع مركّب دينياً وطائفياً والسلطة فيه قائمة على توازنات حسّاسة؟ وكيف لفريق يستعمل سلاحه لإلغاء الأكثرية النيابية المنبثقة عن الانتخابات النيابية، ويؤخّر تشكيل حكومات، ويعطّل انتخاب رئيس للجمهورية، أن لا يهدّد الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني في البلاد؟ وكيف لحزب مسلّح يسيطر على مؤسّسات الدولة من خارج الأطر الدستورية والقوانين المرعية، أن لا يكون سلاحه مشروع حرب أهليّة؟ وكيف لحزب يدّعي أنّه لبناني، أن يحارب في سوريا والعراق واليمن، وأن يعتدي على الدول العربية، من البحرين إلى السعودية والكويت، ويصل أذاه إلى أوروبا وأميركا… ويستجرّ بذلك غضباً إقليمياً على لبنان، ويعزله عن محيطه الجيوسياسي الإقليمي والعالم؟

ما حدث في الرياض منذ أيام ليس “انتداباً سعودياً – فرنسياً”. فأن تتوسّط دولة لرأب صدع نشأ بين دولتين صديقتين هو جزء من العلاقات الدولية. وأن تعلن دولتان رغبتهما في مساعدة دولة أخرى ضمن إطار المؤسّسات الرسمية، وفي الدفع باتجاه تطبيق قرارات دولية، ليس انتداباً، إنّما هو جزء من العلاقات بين الدول. وتحفيز الحكومة اللبنانية على “القيام بإجراء إصلاحات شاملة” ليس انتداباً، فالمنتدِب لا يدعو إلى “الالتزام باتفاق الطائف (الدستور) المؤتَمن على الوحدة الوطنية والسلم الأهلي في لبنان”، بحسب ما جاء في البيان السعودي – الفرنسي، إنّما يسعى إلى إلغائه. والمنتدِب لا يدعو إلى “ضرورة حصر السلاح بمؤسّسات الدولة الشرعية”، ولا يشدّد على “أهميّة تعزيز دور الجيش اللبناني في الحفاظ على أمن واستقرار لبنان”، إنّما يؤسّس ميليشيا له لإضعاف الدولة وجيشها بهدف السيطرة عليها. الذي يدعو إلى “الحفاظ على استقرار لبنان واحترام سيادته ووحدته بما يتوافق مع قرارات مجلس الأمن 1559 و1701 و1680، والقرارات الدولية ذات الصلة”، هو بالتأكيد ليس منتدِباً. فالمنتدِب يسعى إلى عزل الدولة المنتدَبة عن العالم ليُحكِم سيطرته عليها. وهذا ما تفعله إيران. وهي، بتأسيسها ميليشيا حزب الله، تخطّت مرحلة الانتداب. فأصبحت دولة محتلّة من خلال الحزب، تأخذ لبنان رهينةً في صراعاتها الإقليمية والدولية.

يا سادة. تعالوا إلى “كلمة سواء”. عودوا إلى لبنان. حيّدوا أنفسكم عن صراعات المنطقة. لبنان المنهار سياسياً واقتصادياً وماليّاً واجتماعياً وشعبه المعذّب لا يمكنهما انتظار تجربتكم في الحكم لتقتنعوا بأنّ الحياد هو الخلاص

انتبهوا أيّها السادة. خطابكم الذي يقلب المقاييس رأساً على عقب لم يعُد ينطلي إلا على بعض محازبيكم ومناصريكم وليس كلّهم. فالمتنوّرون بينهم يسألون إلى أين تقودون الطائفة ومعكم لبنان بكل طوائفه؟ وما ستكون عاقبة الخروج على منطق الدولة؟ نتيجة الاصطفاف في محور إيران في مواجهة الدول العربية؟ وما هو أفق العزلة العربية والدولية التي وضعتم لبنان فيها؟ وهل تنظّم إيران المؤتمرات الدولية من أجل مساعدة لبنان للخروج من كارثته الاقتصادية والماليّة والاجتماعية؟ وهل تساعده في مفاوضاته مع صندوق النقد الدولي ومؤسّسات ماليّة دولية أخرى يمكن لها أن تساعدنا على كبح الانهيار؟ وهل تدعم موقف لبنان في المحافل الدولية لحماية مصالحه؟ وهل تعوّض رؤوس أموال الإيرانيين خروج رؤوس أموال العرب من المصارف اللبنانية؟ وهل تشغَل الشركات الإيرانية المباني والمكاتب التي بُنيت في وسط بيروت لتكون مركزاً للأعمال والتجارة في المنطقة؟ وهل يأتي السيّاح الإيرانيون لإشغال الـ8000 غرفة في فنادق بيروت، والآلاف الأخرى في جبل لبنان والبقاع والشمال والجنوب؟ وهل يأتون بمئات الآلاف سنويّاً ليتذوّقوا الأطباق اللبنانية في المطاعم المهدّدة بالإغلاق، ويتمتّعوا بحسن الضيافة اللبنانية كما كان العرب يفعلون على مدار السنة؟…

تقولون إنّ المملكة العربية السعودية من خلال البيان “تطلب مجدّداً أن يقوم فريق لبناني بمواجهة فريق لبناني آخر”.

نعم سادة، هناك فريق يواجهكم بالسياسة وبالكلمة الحرّة، ويواجه مشروعكم التدميري للبنان. فريق لا يضمّ سوى لبنانيين. لبنانيون ليس منذ أكثر من عشر سنوات فحسب، إنّما منذ مئات وآلاف الأعوام. هؤلاء ليسوا ميليشيا، ولم يتسلّحوا من أيّ دولة، ولذلك لا يسعون إلى حرب أهليّة ولا يأتمرون بأوامر أيّ دولة عربية أو أجنبية. ولا ينتظرون أمر “مرشد أعلى”. أجندتهم لبنانية مئة في المئة. وهدفهم لبنان. ولا شيء غير لبنان. لبنان الدستور والقوانين والمؤسّسات. لبنان الدولة والاقتصاد والازدهار. لبنان المتجذّر في جغرافية المنطقة العربية والفاعل في تاريخها السياسي والاقتصادي والتجاري والحضاري والديني والثقافي… لبنان الحاضر بفعّاليّة في عالمه الجيوسياسي العربي، والمنفتح على العالم.

إقرأ أيضاً: صواريخ إيران على الرياض… ردّاً على البيان السعودي الفرنسي

رُبّ قائلٍ بضرورة التسليم بقوّة حزب الله انطلاقاً من الواقعية السياسية، لأنّ ميزان القوى لمصلحة الحزب. بالله عليكم، هل من الواقعيّة التسليم بميليشياته التي تخالف كلّ مبادئ الدولة، وبمشروعه الذي وضع لبنان في قلب الصراعات الإقليمية، واستجرّ عليه احتلالاً سياسياً إيرانيّاً؟

يا سادة. تعالوا إلى “كلمة سواء”. عودوا إلى لبنان. حيّدوا أنفسكم عن صراعات المنطقة. لبنان المنهار سياسياً واقتصادياً وماليّاً واجتماعياً وشعبه المعذّب لا يمكنهما انتظار تجربتكم في الحكم لتقتنعوا بأنّ الحياد هو الخلاص.

* أستاذ في الجامعة اللبنانيّة

مواضيع ذات صلة

الرياض: حدثان اثنان لحلّ لبنانيّ جذريّ

في الأيّام القليلة الماضية، كانت مدينة الرياض مسرحاً لبحث جدّي وعميق وجذري لحلّ أزمات لبنان الأكثر جوهرية، من دون علمه، ولا علم الباحثين. قسمٌ منه…

الحزب بعد الحرب: قليل من “العسكرة” وكثير من السياسة

هل انتهى الحزب؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما هو شكل اليوم التالي؟ وما هي الآثار السياسية المباشرة لهذه المقولة، وكذلك على المدى المنظور؟ وما هو…

أكراد الإقليم أمام مصيدة “المحبّة” الإسرائيليّة! (2/2)

عادي أن تكون الأذهان مشوّشة خارج تركيا أيضاً بسبب ما يقوم به دولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومية وحليف رجب طيب إردوغان السياسي، وهو يدعو…

الاستكبار النّخبويّ من أسباب سقوط الدّيمقراطيّين

“يعيش المثقّف على مقهى ريش… محفلط مزفلط كثير الكلام عديم الممارسة عدوّ الزحام… بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح يفبرك حلول المشاكل أوام… يعيش أهل بلدي…