أنا مش قِبلان مع سماحة المفتي قبلان!!!

2021-12-06

أنا مش قِبلان مع سماحة المفتي قبلان!!!

يبدو أنّنا في بلد التناقضات وفي جمهورية العجائب مع قوى أمر واقع موازية للسلطة فضّلت “الانحياز” على “الحياد”. ولكوني “مش قِبلان”، فيُجاز لنا وبكلّ مودّة بأن نستعرض تساؤلات مشروعة بكلّ صدق، وأن نطرح الأسئلة للاستيضاح والاستعلام عن هذا الانحياز المقدّس، وهي بلا أدنى شكّ محقّة.

في رسالة وجهها المفتي الجعفري أحمد قبلان إلى البطريرك بشارة الراعي الأسبوع الفائت قال: “يا غبطة البطريرك ما يجري الآن من حصار خنقٍ ودولار وأسعار وفوضى وتجييش لحلف طويل عريض بقيادة واشنطن وظيفته دعم تل أبيب بلغة الانحياز وليس الحياد والعين على لبنان”.

الحياد ليس مخالفاً للفقرة “ب” من الدستور اللبناني، ولا لمواثيق جامعة الدول العربية التي تنصّ وثائق اجتماعاتها وأعمالها الإعدادية على أنّ لبنان “دولة مساندة وليس بدولة مواجهة”

كلام المفتي قبلان الموجّه للبطريرك الراعي يستفز الكثير من الاسئلة بخاصة أنني “مش قبلان بما ذهب إليه سماحة المفتي قبلان”.

هنا تُطرح مجموعة أسئلة للاستيضاح والاستعلام حول الانحياز:

1- هل يكون في جعل لبنان دولة فاشلة؟

2- هل بتحويله من الجمهوريّة إلى الجمهوريّات؟

3- أو أن يصبح لبنان منبوذاً عربيّاً ومكروهاً دوليّاً؟

4- هل هو بأن يكون رئيس الجمهورية في لبنان رئيساً منتخباً وغير ممسك بزمام الأمور؟

5- هل يكون بجعل رئيس الحكومة اللبنانية رئيساً للخلوات الوزارية، ومديراً لجلساتها من دون انعقاد مجلس الوزراء؟

6- هل هو بجعل الرئاسة الثانية أسيرة مكرهة للثنائية “الاستراتيجية”؟

7- هل هذا الانحياز هو بجعل السلطة القضائية سلطة تنتظر قدرها؟

نصل إلى الحياد.

ولد لبنان من رحم الحياد. فالفكرة سابقة له وتعود حتى إلى أيّام المتصرّفية حين طالب بها مجلسها الإداري في 20 تموز 1920 في وثيقة دعت آنذاك إلى “حياد لبنان وإعادة ما سلخ عنه من أراضٍ”.

لقد تمحور الميثاق الوطني (1943) حول الحياد، جاعلاً منه القاعدة الأساس لجوهر النظام اللبناني، ونقطة ارتكاز لمسيرة الجمهورية، وللتلاقي من خلال المبادئ التي حضنت انطلاقتها، والتي كرّسها اتفاق الطائف ونصّ عليها. فشعارات “لا للشرق ولا للغرب” أو “لا بالشرق ولا بالغرب” و”لا غالب ولا مغلوب”، يدخلان في صميم فكرة الحياد ويؤسّسان له، إلى جانب المبدأ التاريخي والمقدّر لتمايز لبنان عن إخوته، والذي حصّن لبّ السياسة الخارجية اللبنانية، ومفاده أنّ “لبنان مع العرب إذا اتفقوا وعلى الحياد إذا اختلفوا”.

والحياد هنا ليس مخالفاً للفقرة “ب” من الدستور اللبناني، ولا لمواثيق جامعة الدول العربية التي تنصّ وثائق اجتماعاتها وأعمالها الإعدادية على أنّ لبنان “دولة مساندة وليس بدولة مواجهة”.

هكذارإذاً لا يعدّ الحياد في تاريخ لبنان انتقاصاً من السيادة أو تقاعساً عن الدفاع والذود عن الوطن. فكلّ الدساتير الحيادية وقوانينها تقدّس حقّ الدفاع المشروع عن الدولة. ولو عدنا إلى الأمم المتحدة وإلى المواثيق والعهود الدولية (باريس 1856، لاهاي 1899، واشنطن 1871)، لوجدناها ممتلئة بالموادّ والمبادئ التي تكفل حقّ الدول المحايدة بالدفاع عن نفسها.

الحياد ركن أساسيّ في ميثاق 1943 ووثيقة الوفاق الوطني. فهو التحرّر من الشرق والغرب، وهو الاتحاد والعصمة لبنانياً والتأكيد أنّ لبنان نهائيّ، وأنّه ليس بممرّ ولن يكون مستقرّاً

لا يتطلّب الدفاع والمقاومة الانحياز السلبي خارج الحدود بتحالفات غير حميدة، وشراكات تتخطّى الدولة وتخرق الدساتير والأعراف والمواثيق، بل الانحياز إلى الحياد الإيجابي للبنان ومن كل اللبنانيين، واتّحادهم لإعلاء المصلحة العامّة والعليا للدولة والدفاع عنها وحمايتها، وهو أعلى مراحل الوطنية وأسماها، ففي اتحادهم تتحقّق لبنانيّتهم. فالدفاع عن لبنان ليس خروجاً عن الحياد بل تحصين له، ذلك أنّ المقاومة تتطلّب الانحياز إلى السيادة والاستقلال والروح الوطنية الصرفة. ذلك هو الحياد.

فالمقاومة والدفاع عن لبنان والانحياز إليه ليست بحاجة إلى دولة فاشلة، ولا دويلة داخل الدولة، ولا سلاح خارج إطار الدولة والمؤسسات، ولا حالات انقلابية على الدستور وتمرّد على القانون.

أين الاستفادة من هذا الانحياز الخبيث إذا كان ذلك يعني انهياراً في النظام المالي والاقتصادي، وفقداناً لقيمة العملة من بعد ما كانت من أقوى عشر عملات عالمية في السابق، وإبعاداً للبنان عن إخوته وبيئته العربية، وعزله مكروهاً عن المجتمع الدولي، وشطبه عن الخريطة الصحية والتعليمية والسياحية؟!

وما الحكمة من هذا الانحياز إذا كان هدفه تفتيت الصيغة اللبنانية والالتفاف عليها مع التهديد أو التهويد لنموذج العيش المشترك والديموغرافيا؟ ما هو هذا الانحياز العبقري الذي شلّ النظام السياسي وعطّل الديموقراطية وطمس وهجنا الدبلوماسي وحجبنا عن ذاتنا؟

كيف نقبل بهذا الانحياز الذي جعل من رئيس الجمهورية منتخباً اسميّاً فقط وغير متسلّم، ومديراً لحملة توريث، ومن رئيس الحكومة رئيساً للخلوات الوزارية من دون دعوة مجلس الوزراء إلى الاجتماع (فالحكومة ماشية، لكنّ مجلس الوزراء مش ماشي)، ومن رئيس المجلس النيابي أسيراً للثنائية الإذعانية استراتيجيّاً، ناهيك عن السلطة القضائية التي تحوّلت إلى سلطة قدرية، فليس في لبنان سوى القدر من دون القضاء؟

إذاً ينبغي أن لا تتحرّر أو تتنصّل الكلمات من مفاهيمها، وأن لا تنقلب وتشوّه مقصدها. فهي تنتصر لمعناها فقط في مدلولها، وبأن نعيد النظر في هذا الانحياز الخرابي الذي أدخل لبنان في صراعات هدّامة دمّرت الهيكل فوق الرؤوس، وبأن نفهم الحياد من الوجهة الصحيحة والإيجابية.

إنّ نداء الحياد واضح كالشمس وغير محتاج إلى تفسيرات. وإليه يعود بصدق أصل وجود هذا البلد. وهو أحد مبادئه. فلينصرفوا إلى فهمه أوّلاً لأنّهم هم الذين نسوا بلدهم وتنكّروا لثوابته. فلا حياد مع أيّ تهديد يطول الشرعية الكيانية وصيغة الدولة والجمهورية، ولا حياد مع الإرهاب، ولا حياد أمام العدوان، ولا حياد أمام الحروب والاعتداءات، ولا حياد مع الفساد والمحسوبيّة، ولا حياد مع قضم الأرض والثروات، ولا حياد أمام تصحيف الاتفاقيّات وابتلاع الحدود، ولا حياد في معركة حماية الحرّيات، وخاصة حرّية الفكر قبل حرّية التعبير، ولا حياد في الغلوّ والغلبة لأيّ طرف من أطراف الدولة، ولا حياد في واجب حماية النظام الاقتصادي والمالي الليبرالي الحرّ، ولا حياد في معركة الحفاظ على جوهر وجود لبنان وكرامته، ولا حياد أمام انحيازكم.

إقرأ أيضاً: بكركي هي الحلّ: الحياد والمؤتمر الدولي

فالحياد ركن أساسيّ في ميثاق 1943 ووثيقة الوفاق الوطني (الطائف). فهو التحرّر من الشرق والغرب، وهو الاتحاد والعصمة لبنانياً والتأكيد أنّ لبنان نهائيّ، وأنّه ليس بممرّ ولن يكون مستقرّاً .

 

*- أستاذ محاضر في كلية باريس للأعمال والدراسات العليا.

 خبير قانوني في المفوضية الأوروبية.

 مستشار قانوني واستراتيجي في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس – سويسرا.

مواضيع ذات صلة

هل طوي ملف الصفقة؟

بالتأكيد طوي الملف، أولاً بفعل الخوف الأمريكي من فشلٍ جديد في الأسابيع المتبقية على الانتخابات، وثانياً بفعل عدم التوصل إلى صيغة أكثر توازناً من سابقاتها،…

ما لم يواجهه الحزب من قبل

كان لافتاً غياب الأمين العامّ للحزب عن أربعين القيادي فؤاد شكر. تُركت منصّة الخطابة لرئيس المجلس التنفيذي في الحزب هاشم صفي الدين. الخطابان اللذان ألقاهما…

بزشكيان والعراق: تراجع تكتيكيّ للميدان الكردي.. لمصلحة السّياسة

هل سلّم الميدان الإيراني بحقيقة أنّه غير قادر على إدارة الموقف الإيراني بمفرده؟ وأنّه انطلاقاً من رؤيته الحصرية للأمور، حان الوقت لتقاسم أو توزيع الأدوار…

غزّة: ناخب أساسيّ في الأردن.. ومهمّ في أميركا

تقدّمت جبهة العمل الإسلامي في الانتخابات النيابية الأردنية على كلّ قوائم الأحزاب التي شاركت في انتخابات البرلمان العشرين. وإلى جانب اعتبارات تنظيمية، تميّزت بها الجبهة…