في عام 2005، انضمّت روسيا إلى منظّمة التعاون الإسلامي. كان انضمامها بصفة مراقب، على الرغم من أنّ الرئيس فلاديمير بوتين أعلن يومئذٍ أنّ روسيا “دولة إسلامية”، ذلك أنّ عدد المسلمين الروس يزيد الآن على 22 مليوناً. ويُقال بأنّ العلاقة الوثيقة بين بوتين والرئيس الشهيد رفيق الحريري توطّدت، تقديراً للدور الذي لعبه الحريري لدى المسؤولين السعوديين في الموافقة على انضمام روسيا إلى المنظمة.
دخل الإسلام العالم الروسي (تاتارستان مثلاً) في عام 1100، وطُبِع أوّل مصحف في عاصمتها فازان في عام 1803. وبدأت العلاقة بين روسيا والسعودية قبل 95 عاماً، وكان كريم حاكيموف أوّل مبعوث روسي إلى السعودية، وسيُحتفل هذا العام بذكرى ولادته الثلاثين بعد المئة.
وفي بولغار الروسيّة يوجد ألف مسجد و90 مؤسسة تعليمية إسلامية و620 منظّمة تُعنى بالشؤون الإسلامية العامّة. وبُنِي أوّل مسجد هناك في عام 736.
في ظلّ هذا الواقع، عُقِد في جدّة المؤتمر السعودي الروسي حول العلاقات الإسلامية – الروسية.
يتمسّك المسلمون الروس بعقيدتهم الدينية على تعدّد قوميّاتهم، الأمر الذي أعطى الرئيس بوتين المفتاح للدخول من البوّابة العريضة إلى منظّمة التعاون الإسلامي.
لكنّ للرئيس بوتين مآرب أخرى. فزعيم الكرملين يثق بأنّ “القطبيّة الأحادية”، التي مارستها الولايات المتحدة منذ انتهاء الحرب الباردة، في طريقها إلى الزوال، وأنّ القطبيّة المتعدّدة تشقّ طريقها لإعادة رسم خريطة القوى في العالم. من هنا أهمّيّة العالم الإسلامي (من أندونيسيا حتى المغرب)، من حيث إنّه قوّة سياسية معنوية، في أيّ تحالف دولي. وبانضمامه إلى منظمة المؤتمر الإسلامي، وبانفتاحه على المملكة العربية السعودية خصوصاً، سيستقوي بوتين في لعبة الأمم الجديدة. لقد دعا الرئيس الروسي العلماء المسلمين الروس، للمرّة الأولى، إلى أن يرفعوا أصواتهم في المحافل والمؤتمرات الدولية.
لم تخرج روسيا من الشيوعية فقط، لكنّها عادت إلى المسيحية الأرثوذكسية. وتظهر الإحصاءات الروسية الرسمية أنّ 77 في المئة من الروس يقولون إنّهم يؤمنون بالله. وهي ضعف النسبة المتداولة في أوروبا الغربية مثلاً. والرئيس فلاديمير بوتين نفسه، الشيوعي السابق، عاد إلى الأرثوذكسية، وأعاد للكنيسة صدقيّتها التي تعرّضت للتشويه في الفترة السوفياتية السابقة، وجدّد لها دورها الديني والاجتماعي الذي حُرِمت منه، بل وحُرِم منها، لعقود طويلة.
لم تعد الكنيسة الأرثوذكسية الآن خصماً للدولة الروسية، كما كانت في الفترة الشيوعية، ولا ندّاً لها كما كانت في الفترة القيصرية. أصبحت الكنيسة متكاملة مع الدولة. ولا يقتصر هذا التكامل على الداخل الروسي فقط، لكن يتعدّاه، وهذا مهمّ جدّاً، إلى حيث توجد كنائس أرثوذكسية في العالم كلّه، ومن بينه منطقة غرب آسيا والعالم العربي. فالكنيسة الأرثوذكسية العربية تلعب في العديد من الدول العربية دوراً وطنياً، ليس في الإطار السياسي حصراً، بل وفي الإطار الثقافي والتربوي والاجتماعي أيضاً.
إنّ العلاقات المتبادلة بين بطريرك موسكو كيريل والكنائس الأرثوذكسية العربية من جهة أولى، وانخراط هذه الكنائس العربية في صميم النسيج العربي من جهة ثانية، يعطيان الدور الروسي الجديد في العالم العربي أبعاداً مهمّة ومعاني بارزة وأدواراً جديدة.
يلتقي التوجّه الروسي الجديد مع الدور الجديد أيضاً الذي تلعبه المملكة العربية السعودية داخل العالم الإسلامي وفي العالم من خلال رابطة العالم الإسلامي التي يرأسها الدكتور محمد عبد الكريم العيسى (وزير العدل السعودي السابق). فقد انفتحت الرابطة على نطاق واسع، ليس على الفاتيكان ومجلس الكنائس العالمي فقط، لكن على الكنيسة الروسيّة أيضاً، وصدرت عن الرابطة الإسلامية وثيقة مكّة التي وافق عليها العلماء المسلمون من كلّ الأقطار.
لم تخرج روسيا من الشيوعية فقط، لكنّها عادت إلى المسيحية الأرثوذكسية. وتظهر الإحصاءات الروسية الرسمية أنّ 77 في المئة من الروس يقولون إنّهم يؤمنون بالله. وهي ضعف النسبة المتداولة في أوروبا الغربية مثلاً
لقد أكّدت الوثيقة في الفقرتين الثالثة والرابعة على أنّ:
“الاختلاف بين الأمم في معتقداتهم وثقافاتهم وطباعهم وطرائق تفكيرهم قدَر إلهي قضت به حكمة الله البالغة. والإقرار بهذه السُنّة الكونيّة والتعامل معها بمنطق العقل والحكمة بما يوصل إلى الوئام والسلام الإنساني خير من مكابرتها ومصادمتها”.
ونصّت على أنّ “التنوّع الديني والثقافي في المجتمعات الإنسانية لا يبرّر الصراع والصدام، بل يستدعي إقامة شراكة حضارية إيجابية، وتواصلاً فاعلاً يجعل من التنوّع جسراً للحوار والتفاهم والتعاون لمصلحة الجميع، ويحفّز على التنافس في خدمة الإنسان وإسعاده، والبحث عن المشتركات الجامعة، واستثمارها في بناء دولة المواطنة الشاملة، المبنيّة على القيم والعدل والحريّات المشروعة، وتبادل الاحترام، ومحبة الخير للجميع”.
وفي التراث الإسلامي أنّه عندما أرسى رسول الله محمّد عليه السلام قواعد دولة المدينة المنوّرة، لم يلغِ الآخر المختلف دينياً أو قبليّاً، ولم يحاول أن يُصهره في مجتمع المدينة الجديد في بوتقة المؤمنين برسالته، بل أقرّ له بخصوصيّاته العقديّة والقبلية المختلفة على قاعدتين أساسيّتين:
القاعدة الأولى هي اللاإكراهيّة : “لا إكراه في الدين”}سورة البقرة، الآية 256{، والقاعدة الثانية هي اللااحتكاريّة : “لكم دينكم ولي دينِ”}سورة الكافرون، الآية 6{. ثمّ إنّ الله يحكم بيننا يوم القيامة في ما كنّا فيه مختلفين. أي ليس لأيٍّ منّا الحقّ في أن يدّعي أنّ له سلطة الحكم على ما في ضمير الآخر.
ولذلك رأت وثيقة مكّة أنّ “تحقيق معادلة العيش المشترك الآمن بين جميع المكوّنات الدينية والإثنية والثقافية على اتّساع الدائرة الإنسانية، ومن بينها روسيا طبعاً، يستدعي تعاون القيادات العالمية والمؤسسات الدولية كافّة. ومن هنا جرى فتح بوّابة العلاقات الإسلامية – الروسية على مصراعيها: الإعلان الروسيّ بأنّ روسيا دولة إسلامية، والإعلان الإسلامي حول التعدّد والاختلاف.
إقرأ أيضاً: روسيا تتحسّس من “ديانِت” تركيا: ملامح خلاف سياسيّ؟
ودعت الوثيقة أيضاً إلى التآزر لوقف تدمير الإنسان والعمران، فالتعاون على خير الإنسانية ونفعها يتحقّق بعقد حلف عالمي فاعل يتجاوز التنظيرات والشعارات المجرّدة، وذلك لإصلاح الخلل الحضاري الذي يُعتبر الإرهاب فرعاً من فروعه، ونتيجة من نتائجه.
تفتح هذه الاجتهادات الفقهية الإسلامية الجديدة والجريئة آفاقاً واسعة لإعادة بناء جسور من علاقات الودّ والاحترام والتعاون الإنساني، وخاصة مع روسيا ومع الكنيسة الروسيّة على قاعدة “لكم دينكم ولي دينِ”}سورة الكافرون، الآية 6{، من جهة أولى، وعلى قاعدة أنّ الإنسان، الإنسان بالمطلق، هو خليفة الله في الأرض، ومؤتمَنٌ على المحافظة عليها وإعمارها، من جهة ثانية. أمّا الاختلاف الديني فإنّ لله وحده أمر الحكم فيه يوم القيامة.