“آبي أحمد”: غورباتشوف إثيوبيا

مدة القراءة 7 د

تؤيّد مصر وحدة إثيوبيا، وتدعم استمرار الدولة واستقرار المجتمع. وعلى الرغم من الموقف الإثيوبي غير القانوني وغير الأخلاقي في ملفّ سدّ النهضة، فإنّ النخبة المصرية لم تبدِ أيّة شماتة في الأحداث التي تعصف بالبلاد منذ العام الماضي.

تدرك الدولة المصرية أنّها يمكنها حماية مياه النيل في كلّ وقت، وتدرك النخبة أيضاً أنّ انهيار إثيوبيا يشبه زلزالاً عنيفاً من شأنه أن يؤدّي إلى انهيارات اجتماعية وأمنيّة في مناطق شاسعة من القارّة.

في إثيوبيا قرابة مئة وعشرين مليون نسمة، وفي حال اتّساع نطاق الحرب، وعدم التوصّل إلى حلّ سياسي، فإنّ أكثر من خمسين مليوناً من السكّان سيصبحون لاجئين في بلدان تعاني هي نفسها من كوْن بعض مواطنيها لاجئين في دول أخرى، وسيزاحِم الفقراء الفقراء، وسينال الضعفاء من الضعفاء، فيزدادون فقراً على فقر وجوعاً على جوع.

لا يعدّ رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد” رئيس حكومة فحسب، بل هو منظِّر صاغَ رؤيته لبلاده عبر كتابه الشهير “معاً”، الذي صدر عام 2019

اسم مستعار

لا يعدّ رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد” رئيس حكومة فحسب، بل هو منظِّر صاغَ رؤيته لبلاده عبر كتابه الشهير “معاً”، الذي صدر عام 2019.

في حفل إصدار الكتاب، قال آبي أحمد: “لقد سبق لي أن ألّفت أربعة كتب، لكنّها صدرت باسم مستعار، وهذا هو الكتاب الأوّل الذي يحمل اسمي”.

يتشكَّك البعض في صحّة كلام رئيس الوزراء، إذ لم يكن ما يمنع من نشر اسمه طوال السنوات الفائتة، فلم يكن من تضييق على النشر، أو ضغوط على الكتّاب. لكنّ اللافت أنّ آبي أحمد استخدم اسماً مستعاراً غير واضح الأسباب، وهو “دراز”. والمثير أنّ العديد من المؤلّفات الفكرية في مصر يحمل مؤلّفها اسم “دراز”، ذلك أنّ عائلة دراز المصرية، التي تعود أصولها إلى قرية محلّة دياي في مركز دسوق بمحافظة كفر الشيخ، قد قدّمت عدداً من مشاهير الفكر الإسلامي، مثل الشيخ محمد عبد الله دراز.

لا وجه صلة بين الاسمين على الرغم من تطابقهما، لكنّ وجه الصلة الثقافي هو إلحاح الشيخ دراز في مصر على موضوع القيم والمجتمع، وإلحاح الزعيم “دراز” في إثيوبيا على موضوع القيم والمجتمع.

كتاب “معاً”.. لآبي أحمد

صدر كتاب “معاً” لمؤلّفه آبي أحمد في 280 صفحة، تضمّ 4 أبواب و16 فصلاً. عنوان الكتاب هو “Medemer”، وهي كلمة غير محدّدة المعنى، ذلك أنّها تعني التوافق، والتكافل، والوحدة، والدمج. أمّا آبي أحمد في كتابه فيقول إنّ لها ثلاثة معانٍ في القاموس الأمهري، وهي: “معاً”، “لنتّفق معاً”، “لنندمج معاً”.

وقد أثارت فلسفة الاندماج هذه غضباً في أوساط إثيوبية عديدة، وذلك خوفاً على النظام الفدرالي من الانهيار، وقلقاً من سطوة قوميّة واحدة على باقي القوميّات، ولا سيّما استمرار حالة العنصرية والاستعلاء لدى بعض القوميّات في مواجهة القوميّات الأخرى.

في كتابه “معاً” يكرّر آبي أحمد كلمة “القيم الإثيوبية” باستمرار، وهو إذْ يذهب هنا وهناك، سرعان ما يعود إليها من جديد. ويرى ناقدون أنّ آبي أحمد لم يشرح ما هي القيم الإثيوبية، ولا ما الذي يميّزها عن غيرها من القيم الإفريقية أو الإنسانية، لكنّ آبي أحمد على الرغم من ذلك قد نجح في ترويج مفهوم “القيم الإثيوبية” التي تختلف عن قيم الآخرين، والتي يجب التمسّك بها من أجل قوّة الدولة.

حتى لا تختفي إثيوبيا

في كتابه “معاً” يطرح آبي أحمد العديد من الأفكار، فيرى الزعيم الإثيوبي أنّ بلاده قد فشلت فيها الإيديولوجية الليبرالية، كما فشلت فيها الإيديولوجية الاشتراكية، وأنّ استيراد الأفكار والإيديولوجيات من الخارج كان هو سبب الصراع السياسي والثقافي في البلاد، ولذا يجب أن يكون الفكر السياسي الإثيوبي نابعاً من الداخل، لا مستورداً من الخارج.

يقول آبي أحمد في كتابه إنّ “إدخال الليبرالية إلى شعب جاهل وجائع.. هو أمرٌ خاطئ”. وهو إذْ يطرح “البديل الإثيوبي”، يرى أنّ ذلك لا يمكن أن يتحقّق بدون الوحدة واجتماع كلّ إثيوبيا “معاً” في إطار واحد، ذلك أنّ الفردية هي أخطر ما يواجه إثيوبيا، وقد تجرف البلاد باتجاه الانحلال.

يُلحّ آبي أحمد على قضية عدم استيراد الإيديولوجية من الخارج، ووضع إيديولوجية إثيوبية تنبع من المعطيات السياسية والاجتماعية الداخلية. لكنّ أخطر ما في رؤية آبي أحمد هو اعتقاده أنّ نظريّته هي الفلسفة الوحيدة القادرة على حماية إثيوبيا وتقدّمها، فهو يقول بوضوح واستعلاء: “لقد ألّفت هذا الكتاب من أجل حماية إثيوبيا من الاختفاء”.

المسيح الإثيوبيّ

ينتمي آبي أحمد إلى قوميّة الأورمو، وهي أكبر قوميّة بالبلاد، لكنّها تعاني التهميش والازدراء، وتنتمي زوجته إلى قوميّة الأمهرة، وهي القومية التي ترى نفسها أصل البلاد، وأساس قوّتها وتاريخها. وتمتلك نخبة الأمهرة معظم وسائل الإعلام والنشر والمؤسسات المالية والاقتصادية.

آبي أحمد هو أوّل زعيم لإثيوبيا ينتمي إلى الأورمو. وقد بدأ في إطار مثالي، فهو القائد الذي أطلق الحريّات، وأنهى الحروب، واستعاد تماسك الدولة.

وضع الناس صور آبي أحمد على السيارات والمنازل، وارتدى الشباب ملابس عليها صورة الزعيم الجديد، وكان الآلاف يحتشدون في المسيرات التي يقودها، حتى إنّ صحافيّاً بريطانيّاً قال لموقع “سي إن إن” في صيف عام 2018 إنّ “بعض الفقراء يتحدّثون عنه وكأنَّهُ نبيّ، أو “المسيح الجديد” الذي جاء لخلاص إثيوبيا”.

حزب الرخاء من دون رخاء

مضت ثلاث سنوات على صدور كتاب آبي أحمد “معاً”، ومضت أوقات أخرى على تأسيسه حزب الرخاء، وعلى انتشار صوره في ربوع إثيوبيا وبين الجاليات الإثيوبية في الخارج.

لقد تغيّر كلّ شيء. فشل حزب الرخاء في تحقيق الرخاء. وبدلاً من الوفرة التي تحدّث عنها آبي أحمد، يواجه أكثر من خمسة ملايين إثيوبي الجوع. أمّا الوحدة التي تحدّث عنها فسرعان ما أصبحت حرباً أهليّة، قُتل فيها الكثير، وخلّفت أعداداً كبيرة من الجرحى والنازحين.

وبات السياسي الحائز جائزة نوبل للسلام مطلوباً للقضاء الدولي. فتقارير منظمة العفو الدولية وتحقيقات المؤسسات الغربية توصي بإحالة آبي أحمد إلى المحكمة الجنائية الدولية بتهم تتعلّق بالإبادة الجماعية وارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

إقرأ أيضاً: أين تتجه إثيوبيا؟

تدعو الولايات المتحدة إلى الحوار في إثيوبيا، وتخشى أوروبا من أنّ الانهيار الإثيوبي قد يدفع بتوابع زلزاله إلى الشواطئ الأوروبية، وتخشى الإنسانية من إزاحة أكثر من مئة مليون إثيوبي نحو المجهول.

ولا تمثّلُ حلّاً رؤية آبي أحمد أنّ الحسم يكون بالسلاح. الحلُّ، كما هو في عنوان كتابه، أن يكون الإثيوبيون “معاً”، وأن يتوقّف النظام الإثيوبي عن تسييس سدّ النهضة، وحشد المؤيّدين على قاعدة الكراهية والخداع. وبالتالي فإنّ ارتداء رئيس الوزراء للزيّ العسكري في جبهات القتال قد أجهز على أفكار كتابه الوحيد، وإذا لم يلجأ آبي أحمد إلى الحوار في الداخل، والمسؤولية في الخارج، فإنّه قد يصبح “غورباتشوف إثيوبيا”، وبدلاً من أن يكون هو مَن يمنع إثيوبيا من الاختفاء، بحسب قوله، فقد يصبح هو مَن يدفع بلاده نحو الاختفاء.

أراد آبي أحمد بكتابه أن يضع فلسفة للبقاء، لكنّه بسياساته ربّما يكون قد أسّس لبريسترويكا إثيوبية، تشبه تلك التي وضعها الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، وسبقت السقوط بقليل.

لقد أصبحت صورة آبي أحمد في الإعلام الأميركي نموذجاً للسياسي الفاشل، وكلّ ما تخشاه القارّة السمراء أن تصبح إثيوبيا نفسها نموذجاً للدولة الفاشلة.

* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور..

له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.

عضو مجلس جامعة طنطا، وعضو مجلس كليّة الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.

مواضيع ذات صلة

تشدّد الرّياض: عودة عربيّة إلى نظام إقليميّ جديد؟

توحي نتائج القمّة العربية – الإسلامية بأوجه متعدّدة لوظيفة قراراتها، ولا تقتصر على محاولة فرملة اندفاعة إسرائيل العسكرية في المنطقة. صحيح أنّ القمّة شكّلت حاضنة…

الحرب الأهلية: هواجس إيقاظها بصورٍ كريهة

 اللغو اللبناني حول حظوظ البلد بارتياد آفاق حرب أهلية جديدة، ارتفع. قد يكون هذا الارتفاع على وسائل التواصل الاجتماعي سببه “شامت” بالوضع أو رافض لـ”الرفق”….

الرياض: حدثان اثنان لحلّ لبنانيّ جذريّ

في الأيّام القليلة الماضية، كانت مدينة الرياض مسرحاً لبحث جدّي وعميق وجذري لحلّ أزمات لبنان الأكثر جوهرية، من دون علمه، ولا علم الباحثين. قسمٌ منه…

الحزب بعد الحرب: قليل من “العسكرة” وكثير من السياسة

هل انتهى الحزب؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما هو شكل اليوم التالي؟ وما هي الآثار السياسية المباشرة لهذه المقولة، وكذلك على المدى المنظور؟ وما هو…