منذ بداية الأزمة الدبلوماسية والسياسيّة مع الدول الخليجية، برز رأي داخليّ وخارجي، وبالأخصّ فرنسي، يقول إنّ تخلّي دول الخليج العربي، وفي مقدّمها السعودية، عن لبنان سيدفعه أكثر إلى الحضن الإيراني. أمّا التيار الوطني الحر فيذهب أبعد من ذلك بالقول إنّ رفض الدول الخليجية الحوار مع لبنان يدفعه دفعاً باتّجاه إيران.
تتمثّل خطورة هذا الرأي في أمرين.
1- أنّه يرمي مسؤولية الأزمة أو الخروج منها على عاتق الدول الخليجية، فيما تُعيد هذه الدول سبب الأزمة إلى هيمنة حزب الله على الدولة اللبنانية. وهو إذ يفعل ذلك إمّا يُقرّ بالعجز عن معالجة أسباب الأزمة الحقيقية، ويحاول المكابرة على عجزه، وإمّا يسعى إلى تبرئة الحزب من التسبّب بهذه الأزمة.
ها هي حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، التي كانت من حيث معطياتها السياسية بمنزلة إعادة إنتاج لتسوية 2016، قد تعطّلت بعد شهر على ولادتها
2- أنّه ينطوي على قبول ضمنيّ باندفاعة لبنان نحو المحور الإيراني. فيفترض أنّ شرط عدم وقوع لبنان كلّيّاً في القبضة الإيرانية هو عدم تخلّي الخليجيين عنه، فإمّا يحول هؤلاء دون اتجاه لبنان كليّاً إلى المحور الإيراني، وإمّا لا مناص من اتّجاهه هذا… وكأنّ عدم سيطرة إيران على لبنان هو مسؤولية خليجية لا لبنانية.
هذا لا يعني أنّ مشكلة حزب الله بسيطة يمكن حلّها بين عشيّة وضحاها، لكنّ الواقع أنّنا أصبحنا في لبنان أمام مشكلتين لا واحدة: فمن ناحية، توجد مشكلة الحزب بوصفه حزباً مسلّحاً تدعمه دولة إقليمية تحمل مشروعاً توسّعيّاً في المنطقة العربية، وحتماً الحزب هو جزءٌ من هذا المشروع. ومن ناحية ثانية، تبرز مشكلة كبرى في كيفيّة مقاربة القوى السياسية الرئيسية لمشكلة الحزب هذه.
فلو افترضنا أنّ الدول الخليجية “رمّمت” علاقاتها مع لبنان، فهل يكون ذلك كافياً لوضع حدّ لسيطرة الحزب، ومن ورائه إيران، على القرار السياسي للدولة اللبنانية؟ أو إذا صغنا السؤال بطريقة مختلفة: هل انخراط الدول الخليجية في الوضع اللبناني حال دون انحرافه الاستراتيجي نحو محور الممانعة الإيراني؟
لنعد إلى 2016
لقد قامت تسوية العام 2016 على نظريّة قوامها أنّ اتجاه الرئيس سعد الحريري إلى ربط النزاع مع حزب الله وإلى انتخاب الرئيس ميشال عون مرشّح الحزب لرئاسة الجمهورية من شأنه أن يحدّ من توسّع نفوذ الحزب وإيران في لبنان، باعتبار أنّ الحزب وعون سيكونان مضطرّين إلى احترام توازن معيّن ضمن التسوية السياسية الجديدة.
لكن تبيّن أنّ الطرفين أخذا ما يريدانه من التسوية، أي انتخاب عون ثمّ قانون الانتخابات، ولم يقدِّما أيّ تنازل للحريري أو لسواه من أفرقاء 14 آذار سابقاً. والأهمّ أنّ الحزب الطرف الأقوى أو الأكثر استقواءً في المعادلة الداخلية استغلّ التسوية لإحكام سيطرته أكثر على الدولة وبرضى أو عدم ممانعة جدّيّة من جانب شركائه في التسوية.
ربّ قائلٍ إنّ الحزب ما كان يمكن أن يقبل بغير ذلك، فإمّا تسوية بشروطه أو لا تسوية من الأساس. هذا الكلام يحيلنا إلى نظرية “الواقعية السياسية” التي تمّ الترويج لها بالتزامن مع التسوية المذكورة، باعتبار أنّه ما دامت معالجة مشكلة حزب الله غير ممكنة، فلا بأس أو لا بدّ من مشاركته في السلطة. بحسب هذه النظرية، فإنّ مشكلة الحزب إقليمية ولا قدرة داخلية على حلّها. وبالانتظار يبقى ملء السلطة أفضل من فراغها بدءاً من رئاسة الجمهورية. لكن تبيّن أنّ ملء السلطة بالشكل الذي تمّ فيه ألغى الحدود بين الحزب والدولة، فضلاً عن أنّ الحزب لا يتوانى عن تعطيل المؤسسات الدستورية حتّى وهي مكتملة النصاب.
إن لم تكن الانتخابات المقبلة فرصة لتغيير جذري لهذا الواقع فلتشكّل المنطلق لتغييره من خلال استنهاض نواة سياسيّة تطرح مشكلة الحزب ومشكلة التعايش السلبي معه
كيف الخلاص إذاً؟
كان إجهاض الحزب لانتفاضة 17 تشرين، وبكلّ الوسائل الممكنة، دليلاً مبكراً على أنّه لن يسمح بأيّ تغييرات أساسية في الستاتيكو السياسي القائم منذ 2016. حتّى إنّ تفاقم الأزمة الاقتصادية إلى حدود قياسية لم يدفع الحزب وحليفه الرئيس عون إلى تقديم أيّ تنازل مقابل إنتاج حكومة قادرة على القيام بالإصلاحات الضرورية، ومفاوضة صندوق النقد الدولي بغية وقف الانهيار الحاصل. بل على العكس فقد كانت أولويّتهما تحصين مواقعهما في معادلة الحكم حتّى لو أدّى ذلك إلى تأخير الإصلاحات وتعثّر المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وبلوغ نسبة اللبنانيين الذين يقبعون تحت خط الفقر 82 في المئة، بحسب “الإسكوا”.
وها هي حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، التي كانت من حيث معطياتها السياسية بمنزلة إعادة إنتاج لتسوية 2016، قد تعطّلت بعد شهر على ولادتها. وإذا عادت للاجتماع فإنّها ستكون عاجزة عن إجراء إصلاحات أساسية، فضلاً عن التفاوض مع صندوق النقد، بسبب تناقضاتها الداخلية، وبسبب الدخول في زمن الانتخابات، وسيتحوّل تركيزها عن المعالجة الجدّيّة للأزمة، وحتّى عن إدارتها بشكلٍ فاعل.
إذاً تؤكّد تجربة الحكومة الميقاتية المؤكّد لجهة أنّ أيّ تسوية مع الحزب في ظلّ الظرف الإقليمي الحالي ستمكّنه أكثر من الإمساك بقرار الدولة والقضم أكثر من سيادتها، ولا سيّما عندما يدفع شركاؤه في التسوية بشعار الواقعية السياسيّة إلى أقصاه، فلا يعدو الاعتراف بالأمر الواقع مدخلاً إلى التسليم به فحسب، بل وإلى الاستفادة منه لتحسين مواقع “الواقعيين” في السلطة.
والحال هذه فإنّ تعاطي أفرقاء السلطة مع الأزمة الخليجية أعاد تأكيد نزوعهم إلى الاستفادة من الستاتيكو الحالي أيّاً تكن تداعياته على البلد. فأيّ من هؤلاء لم يسعَ إلى معالجة جدّيّة للأزمة، وإنّما سعى إلى التنصّل من أيّ مسؤولية اتّجاهها، ويحاولون جميعهم الاستفادة منها أو في أقلّ تقدير تجنيب أنفسهم التعرّض للضرر بسببها، كما هي حال الرئيس ميقاتي. وأمّا الرئيس عون والنائب جبران باسيل فجدّدا التأكيد أنّ أولويّتهما هي التحالف مع الحزب مهما تكن خياراته الإقليمية من دمشق إلى اليمن.
يتصرّف هؤلاء جميعاً على قاعدة أن لا حلّ قريباً للأزمة مع الدول الخليجية. ولذلك هم يتعاملون مع هذا الواقع الجديد لا على أساس الضرر اللاحق بلبنان واللبنانيين من جرّاء هذه الأزمة، بل على قاعدة تحويل هذه الأزمة إلى ما يخدم مصلحتهم السياسية والانتخابية عشيّة الانتخابات المقبلة.
يحيل هذا التواطؤ إلى المعضلة السّياسية الداخلية المتمثّلة في قبول قوى سياسيّة رئيسية للتعايش السلبي مع الحزب لكي تضمن وصولها إلى السلطة. وفي المقابل، يستفيد الحزب من تغطيتها السياسية والدستورية له، وكلّ ذلك بشروط الحزب.
لذلك يُفترض أن يرتكز أيّ أمل بالتغيير من خلال الانتخابات النيابية على تغيير هذا الواقع بالذات، أي واقع التعايش السلبي مع الحزب داخل السلطة بشروط الحزب على الرغم من ارتدادات هذا التعايش على لبنان واللبنانيين.
فإن لم تكن الانتخابات المقبلة فرصة لتغيير جذري لهذا الواقع فلتشكّل المنطلق لتغييره من خلال استنهاض نواة سياسيّة تطرح مشكلة الحزب ومشكلة التعايش السلبي معه بوصفهما مشكلتين أدّتا إلى ابتلاع الحزب للدولة ورهن قرارها للأولويّات الإيرانية. وذلك من خلال جبهة سيادية تواجه الاحتلال السياسي الإيراني لقرار الدولة اللبنانية، سعياً إلى “الاستقلال الثالث”.
من دون ذلك لا رجاء بالتغيير، إذ لا تغيير في ظلّ هيمنة حزب مسلّح على قرار الدولة اللبنانية. وهذه مشكلة لبنانية بالدرجة الأولى، وإقليمية بالدرجة الثانية، وأيّ حلّ لها يجب أن يكون نتاج مسار سياسي لبناني بالدرجة الأولى.
إقرأ أيضاً: فليحكمْ الحزب لوحده!
فهل تشكّل الانتخابات المقبلة بدايةً لهذا المسار؟ أي هل تشكّل بدايةً لإحياء وسط سياسي لبناني يطرح المشكلة اللبنانية ويحاول إيجاد حلول سياسيّة لها، خصوصاً في لحظة التفاوض الدولي والإقليمي حول المنطقة؟
ما عدا ذلك سينمّ رهان القوى المعارضة على الانتخابات عن قبول مسبق بالواقع الحالي واستعداد للتعايش معه من جديد!