صحيح أنّ “ثورة 17 تشرين” لم تنجح في قلب الطاولة على المنظومة الحاكمة، لكنّها نجحت في “خلخلة” أسس قوّتها. هذا ما تظهره الانتخابات النقابية الأخيرة، حيث تراجعت شعبيّة الأحزاب فيها. وهذا ما يدفع العديد منها إلى تقديم مرشّحين “بلبوس” مستقلّين أو إلى الإحجام عن خوض الاستحقاق كلّيّاً. يعطي هذا الواقع فرصة للنقابيّين الفعليّين والمستقلّين أن يتّحدوا ويناضلوا من أجل تحرير نقاباتهم من سيطرة الأحزاب عليها، فيحرّروا العمل النقابي ويعيدوا له دوره. لا يقلّ هذا النضال أهميّةً عن النضال من أجل تحرير البلاد من الاحتلال السياسي الإيراني، ومن سطوة سلاح حزب الله على الدولة بكلّ مؤسساتها. لا بل يجب أن يترافق النضالان معاً، خاصة أنّ سلاح الحزب هو الذي يحمي المنظومة الفاسدة في السلطة، وهو الذي قمع الحركة المطلبية لـ”ثورة 17 تشرين”، وهو الذي لم يسمح، منذ سنتين، بتشكيل حكومة اختصاصيين مستقلّين لكبح الانهيار والخروج منه.
لا مشكلة في القانون إنّما المشكلة في هيمنة الطبقة السياسية على النقابات وتعطيلها الحياة النقابية
لهذه الأسباب يصير تحرير النقابات أكثر من ضرورة للحفاظ على ما تبقّى من سلطات قضائية وإعلامية وقطاعات استشفائية وتربوية واقتصادية وغيرها. فتحرير نقابة المحامين من سطوة السلطة السياسية يساهم في حماية القضاء واستقلالية قراره، خاصة أنّه يتعرّض اليوم لهجمة غير مسبوقة من قبل حزب الله. وتحرير النقابات من سطوة المال السياسي يحافظ على استقلالية السلطة الرابعة لتقوم بواجبها في كشف الحقائق وتصويب المسار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتربوي… في البلاد.
لا يقلّ أهميّة تحرير الاتحاد العمّالي العام من سطوة الأحزاب عن أهميّة تحرير لبنان من الاحتلال السياسي لقرار الدولة. ليس فقط لأنّ الانهيار كبير، بل لأنّ الحكومة تقرّ خطط ما يُسمّى “التعافي الاقتصادي”، وتعدّ ملفّاتها للتفاوض مع صندوق النقد الدولي، الذي سيفرض شروطاً اقتصادية وضرائبية واجتماعية لتقديم المساعدات. لذلك سيكون حضور الاتحاد العمالي العام المستقلّ حول طاولة النقاشات أمراً ضرورياً كي لا تأتي الخطط والحلول المقترحة على حساب العامل المعدوم.
هذه ليست دعوة لتبنّي النظريات الاشتراكية أو الشيوعية، بل للتمسّك بالاقتصاد الليبرالي الحرّ، وليس ذاك الجشِع الذي يُلغي الطبقة الوسطى ويستغلّ العامل. وهي دعوة إلى التمسّك بالنظام المصرفي، إنّما ضدّ تحالف رأس المال والسياسة على حساب المواطن العامل. نظام مصرفي يدعم القطاع الخاص لإعادة إطلاق العجلة الاقتصادية في البلاد، لا مع نظام يرهقه بالفوائد لتكديس الأرباح.
وعلى المنوال نفسه، من الضروري تحرير نقابات الأطباء والممرّضين على اختلافها، كي تكون قادرة على النضال من أجل الحفاظ على الطبيب والممرّض والممرّضة، وتوقف هجرتهم إلى الخارج التي بدأت تشكّل خطراً كبيراً على القطاع الاستشفائي. ومثلها عملية تحرير روابط الأستاذ الجامعي والمعلّم للدفاع عن حياة كريمة تسمح لهما بأداء مهامّهما السامية في تربية الأجيال وفي صناعة الطبيب والمهندس والمحامي والمصرفي ورجل الأعمال… لا بدّ من حدّ أدنى من مقوّمات الحياة يشجّعهم جميعاً على العدول عن فكرة الهجرة والبقاء في لبنان.
هي دعوة إلى إعلاء المعارك النقابية فوق الحساسيات الشخصية التي فرّقت مجموعات “17 تشرين” في نقابة المحامين، وأعادتها إلى أحضان الأحزاب. لأنّ معركة “الاستقلال الثالث” تمرّ من هناك.
لنَعُد إلى تاريخ الحركات النقابية
منذ تسعينيّات القرن الماضي وقبل كلّ انتخابات نقابية يكثر الكلام: فلان مرشّح هذا الحزب. وعلتان مرشح الحزب الآخر. وبعد صدور الانتخابات يتحوّل الكلام: هذا الحزب فاز بمقعد النقيب. وذاك فاز بعضويّتين أو ثلاث أو أربع. فهل هي انتخابات نقابية أم انتخابات حزبية؟
تحرير النقابات أكثر من ضرورة للحفاظ على ما تبقّى من سلطات قضائية وإعلامية وقطاعات استشفائية وتربوية واقتصادية وغيرها
سيطرة الأحزاب على النقابات في لبنان جعلتها شبيهة إلى حدّ بعيد بتلك في الأنظمة الديكتاتورية حيث النقابيون ينتمون إلى الحزب الحاكم ويصفّقون للحاكم “الإله”. الفارق أنّ في تلك الأنظمة ديكتاتوراً واحداً. أمّا في لبنان فعندنا مجموعة ديكتاتوريين. هم رؤساء الأحزاب “أنصاف الآلهة”، الحاكمون بأمرهم في أحزابهم، لا يُنتخبون ولا نهاية لولايتهم. حتى بعد مماتهم، يُكملها الوريث. النقابيون يأتمرون بهم، يقدّمون الطاعة لهم قبل الانتخابات وبعدها.
لا يختلف اثنان على أنّ سيطرة السلطة السياسية على النقابات تعطّل الحياة النقابية وتلغي مبرّر وجودها. فهي أُسِّست لتكون قوّة ضغط على السلطة السياسية، ومهمّتها هي النضال من أجل تحسين شروط العمل، وتقاضي العمّال راتباً يتناسب مع إنتاجيّتهم، وتوفير الحماية الاجتماعية لهم. هو نضال تخوضه النقابة بوجه السلطة السياسية وأرباب العمل، لكن بالتنسيق من تحت الطاولات معهما، لأنّ مصالحهما تلتقي.
والتحالف المعلَن أو غير المعلَن الذي كان ينشأ بين السلطة السياسية ورأس المال على حساب العامل، بخاصة بعد الثورة الصناعية وبروز الطبقة البورجوازية الجديدة، هو الذي دفع بالعمّال إلى الاتّحاد. انتزعوا هذا الحق أوّلاً في بريطانيا في ثلاثينيّات القرن التاسع عشر، ثمّ في فرنسا في الستّينيّات منه، وأجبروا السلطة السياسية على تغيير القوانين التي لم تكن تسمح بتجمّع العمال في جمعيّات ونقابات. ثمّ فرضوا عليها سنّ قوانين تنظّمها وتنظّم عملها، حتى أصبحت النقابات شريكاً في الحوارات، التي تُعنى بقانون العمل وشؤون العمال، إلى جانب السلطة السياسية وأرباب العمل.
وهنا تجدر الإشارة إلى الدور المهمّ، الذي أدّته الكنيسة الكاثوليكية في الغرب “المسيحي”، من خلال الرسائل البابوية، في تصويب العمل النقابي منذ بداياته والعلاقة بين رأس المال والعمل، بتقديم مبادئ عامّة تتعلّق بحقوق وواجبات العامل ورَبّ العمل والدولة. وأولى تلك الرسائل وأبرزها “Rerum Novarum“ التي أصدرها البابا لاون الثالث عشر في العام 1891.
ماذا عن لبنان؟
في لبنان، يعيد البعض جذور العمل النقابي إلى “العامّيّات” في القرن التاسع عشر التي ناضلت للدفاع عن حقوق الفلاحين بوجه الإقطاع. ولكنّ النقابات بشكلها الحالي نشأت بعد الاستقلال. وقد نظّم قانون العمل الصادر في العام 1946، بتوقيع الرئيس الأول بعد الاستقلال بشارة الخوري، طريقة تأسيسها وعملها، وأعطاها الحقّ في مناقشة القوانين والقرارات المختصّة بالعمّال مع السلطة السياسية وأرباب العمل على غرار مثيلاتها في الديموقراطيات العريقة. القانون بحدّ ذاته جيّد. فهو مقتبس عن القانون الفرنسي. يعطي للاتّحاد العمّالي العامّ، الذي أُسِّس في العام 1970، دوراً في كلّ ما يختصّ بالعمال والدفاع عن حقوقهم، على غرار مثيله في فرنسا الذي أُسِّس في العام 1895. ويعطي الدور ذاته لباقي النقابات والروابط ، كلّ منها في قطاعه.
إقرأ أيضاً: الحياد و”الاستقلال الثالث”
إذاً لا مشكلة في القانون. إنّما المشكلة في هيمنة الطبقة السياسية على النقابات وتعطيلها الحياة النقابية. فكيف لرئيس اتحاد أو نقيب أن يمارس الضغوط على رئيسه الحزبي الممسك بزمام السلطة السياسية أو المشارك فيها؟ وكيف لمجلس نقابة مشكّل من حزبيين أن يخوض معارك مطلبية بوجه حكومة يتمثّل فيها رفاقه في الحزب؟ إنّها هرطقة في الحياة الديموقراطية وفي الحياة العامّة وفي العمل النقابي. إنّها مهزلة في الحياة النقابية في لبنان تفاقمت منذ تسعينيّات القرن الماضي. وللمفارقة أنّ أولى الأحزاب السياسية التي عطّلت العمل النقابي في لبنان منذ ثلاثة عقود هي تلك التي ترفع شعار الدفاع عن المحرومين. فسياساتها ضاعفت ظلم المظلوم وحرمان المحروم.
* أستاذ في الجامعة اللبنانيّة