تعبنا من ملاحقة قطار التطبيع الذي ما إن يتوقّف للتزوّد بالوقود في محطّة ما حتى تستعدّ المحطات التالية لاستقباله.
ومع أنّ أصحاب المحطّات التالية يعلّقون صعودهم إلى القطار على شروط تبرّر ما قد يفعلون، إلا أنّ الذين أنهوا الأمر لم يضيّعوا وقتاً في استثمار تطبيعهم، سواء كان قديماً حيث مصر والأردن اللتين وقعتا اتفاقيتي سلام دون تطبيع كامل، أو حديثاً حيث المغرب والسودان والإمارات والبحرين.
وفي وسعنا إضافة الفلسطينيين إلى اللائحة، ولكن بين قوسين “كاستثمار متعثّر”.
في بؤرة الضوء هذه الأيام حدثان يجسّدان تطوّراً نوعيّاً في مسار التطبيع. الأوّل في المشرق، ويتمثّل في اتفاق الماء مقابل الكهرباء، وهو اتفاق ثلاثيّ بين قدماء المطبّعين والجدد منهم وإسرائيل. أمّا الثاني ففي المغرب، حيث أنتج التطبيع اتفاقات وتفاهمات أمنيّة ذات شأن شكّلت تطوّراً نوعياً في العلاقات المغربية الإسرائيلية، مع وعد بتطوّرات أكثر، وربّما أعمق على صعد حيويّة أخرى.
أهل التطبيع القدماء والجدد ماضون في استثمار العلاقة مع إسرائيل، كلٌّ وفق مصالحه واحتياجاته وأجنداته، وهم جميعاً لا يعملون في الخفاء، ولا يمارسون تطبيعهم على استحياء، غير أنّ ما يبدو مريحاً لدول التطبيع أنّ المعارضة الداخلية له لم تصل حدّ تعطيله، وأغلب الظنّ أنّها لن تصل، وحتى لن توقف الاندفاع فيه لبلوغ مستويات أعمق وأهمّ تقترب من تغيير مكانة إسرائيل في السياسات، من علاقة أمر واقع كما بُرِّرت في البدايات إلى علاقة ضرورة كما تبرِّرها الاحتياجات.
الفلسطينيون في هذه الحكاية مضطرّون إلى القيام بعملين، كلٌّ منهما أصعب من الآخر، مَثَلهم في ذلك مَثَل مَن في حلقه سكّين لا يقوى على إخراجه ولا ابتلاعه، وإنّ أيّ خيار يفكّرون فيه، وهم في “لجّة التطبيع”، سيكون ثمنه المدفوع أكبر بكثير من المزايا المكتسبة منه، ذلك أنّ أهل التطبيع هم حلفاؤهم التقليديون وحاضنتهم السياسية والجغرافية والمصلحية، فإن استقلّوا القطار أو باركوا مسيرته فإنّهم بذلك ينكصون على أعقابهم ويتخلّون عن شعاراتهم وأدبيّاتهم وبرامجهم وتضحياتهم، وإن صعّدوا مواقفهم ضدّه حدّ الاختلاف الأعمق مع المطبّعين فأين المفرّ في حالة كهذه وحالتهم مع الإمارات تجسيد لذلك.
أهل التطبيع القدماء والجدد ماضون في استثمار العلاقة مع إسرائيل، كلٌّ وفق مصالحه واحتياجاته وأجنداته، وهم جميعاً لا يعملون في الخفاء، ولا يمارسون تطبيعهم على استحياء
غير أنّ ممرّاً إجباريّاً في غاية الضيق يجد الفلسطينيون أنفسهم مضطرّين إلى المضيّ فيه على مضض، قوامه التغاضي عن العملية من أوّلها إلى آخرها، مثلما يفعل الرئيس عباس، مكتفين بالإعلانات العربية التي تواصل تبنّي حقوقهم، إذ لا دولة من دول التطبيع تخلّت عن تبنّيها التقليدي لحقوقهم وفق قرارات القمم والأمم المتحدة والالتزام القومي مضافاً إليه اعتمادهم على دور مصر والأردن اللتين تلحّان على أنّ السلام الحقيقي لن يتكرّس من دون حلّ الدولتين، ولا تتوقّفان عن الضغط على إسرائيل لاستكمال حلقات السلام بالحلقة الفلسطينية.
يمارس الإسرائيليون سياسة تنطوي على إحراج المطبّعين والفلسطينيين في الوقت ذاته بدءاً بالإكثار من الإعلان أنّهم في غير وارد التفاوض مع الفلسطينيين، الذين ليس لهم لدى إسرائيل سوى الحلّ الاقتصادي، إضافة إلى أنّ كلّ خطوة تطبيعية مع أيّ طرف عربي تقابلها خطوات واسعة على صعيد التهام القدس وتوسيع الاستيطان في الضفة وتضييق الحصار على غزّة.
إقرأ أيضاً: أميركا وإسرائيل… لا شهر عسل ولا شهر بصل
هذه هي الصورة بخطوطها وألوانها الحقيقية، ويبدو أن لا مخرج منها سوى أن يوفّر الفلسطينيون رافعةً لجهود أصدقائهم وأشقّائهم وحلفائهم على أرض وطنهم، وأن يلتقط العرب الخيط ليمارسوا ضغوطاً جدّيّة، وتحديداً على الأميركيين، لعلّهم يتخلّون عن خمولهم المهلك إزاء المسار الفلسطيني الإسرائيلي الذي تتغذّى عليه إسرائيل في كلّ ما تفعل. في حالة كالتي نحن فيها يوجد مخرجان: حرب واسعة، وهذه ليست مستبعدة بل مستحيلة، أو مبادرة سلام جديدة، وهذه لن تكون ما دامت أميركا وإسرائيل لا تريدانها. وبين المستبعَد والمستحيل ينصرف الجهد للحفاظ على ما تبقّى.