من المبكر جزم مصير الاستحقاق الانتخابي النيابي، وخصوصاً لجهة تداعيات الخلافات على دستوريّة التعديلات الأخيرة على قانون الانتخابات النيابيّة، وإمكانيّة تأثير ذلك على موعد الانتخابات نفسها. ومن المبكر أيضاً التنبّؤ بإمكانيّة تعطيل انتخابات رئاسة الجمهوريّة، على النحو الذي حدث بعد انتهاء ولايتيْ الرئيسين إميل لحود وميشال سليمان.
لكنّ الأكيد حتّى اللحظة هو أنّ رئيس الجمهوريّة مهّد لكلّ أشكال التخبّط في تمرير هذه الاستحقاقات، من خلال حديثه عن رفضه توقيع أيّ مرسوم يدعو الهيئات الناخبة إلى الاقتراع في 27 آذار، وتمسّكه بالميغاسنتر واقتراع المغتربين لستّة نوّاب يُضافون إلى مقاعد المجلس الـ128. وبذلك بات من الواضح أنّه سيكون لدى لبنان عقدة إجرائيّة في ما يخصّ هذا الاستحقاق الانتخابي، إذا لم يحسم المجلس الدستوري الخلاف لمصلحة عون وتيّاره. وكان أشار عون أيضاً إلى سيناريوهات عدم انتخاب خلف له في سدّة الرئاسة، من خلال حديثه عن عدم تسليم “قصر بعبدا إلى الفراغ”.
من المبكر جزم مصير الاستحقاق الانتخابي النيابي، وخصوصاً لجهة تداعيات الخلافات على دستوريّة التعديلات الأخيرة على قانون الانتخابات النيابيّة
كلّ هذه الأحداث كانت تحت مجهر العواصم الأوروبيّة المتابعة لتطوّرات الملفّ اللبناني. فخلال الأيّام الماضية، نقل زوّار للعاصمة برلين عن كبار المسؤولين الألمان العاملين على خط متابعة الأزمة اللبنانيّة، بالإضافة إلى أعضاء في البرلمانيْن الأوروبي والألماني، نبرةً صارمةً في ما يخصّ الاستحقاقات الدستوريّة المقبلة في لبنان، وتحديداً في ما يتّصل بأثرها على جميع المعالجات الماليّة التي تعمل عليها الدولة اللبنانيّة. في تلك اللقاءات، تركّز حديث هؤلاء المسؤولين، ذو المضمون المتشابه، على نقاط محدّدة:
– أولاً: لا يمكن للبنان بأيّ شكل من الأشكال أن يتوقّع استكمال أيّ محادثات تمهيديّة أو رسميّة مع صندوق النقد الدولي في ظلّ وجود مؤسسات دستوريّة “مطعون بشرعيّتها”. تمثّل صدقيّة ومشروعيّة الجهة، التي يتفاهم معها الصندوق، نقطة أساسيّة بالنسبة إليه قبل قبول التزامها بأيّ برنامج قرض. من هذا المنطلق، سيؤثّر حتماً أيُّ مساس بالاستحقاقات الدستوريّة على قدرة لبنان على استكمال مسار هذه المفاوضات.
– ثانياً: من المعروف أنّ جميع الدول والمؤسسات الدوليّة انتقلت منذ مدّة إلى حصر الغالبيّة الساحقة من المساعدات الاجتماعيّة الممنوحة للبنان بالجمعيات والمؤسسات الأهليّة، فيما مثّلت بعض القروض الممنوحة لبرامج شبكات الحماية الاجتماعيّة استثناءات محدّدة. لكنّ دخول السلطة في مرحلة الطعن بمشروعيّتها الدستوريّة، سيزيد من الصعوبات التي ستواجهها الوزارات والمؤسسات العامّة عند طلب أيّ قروض مستقبليّة، بما فيها تلك المشمولة بهذه الاستثناءات.
– ثالثاً: على المسؤولين اللبنانيين الاتّعاظ من توسّع لوائح العقوبات الأميركيّة، وتوسّع التحقيقات الجنائيّة في المحاكم الأوروبيّة المتعلّقة بحاكم مصرف لبنان. وعليه، سيكون لأيّ عرقلة للعمليّة كلفة باهظة في المستقبل على الأطراف المتسبّبة بها، وتحديداً إذا وصلت المسألة إلى حدّ عرقلة استحقاقات دستوريّة من وزن الانتخابات النيابيّة التي يراهن عليها الخارج لتعديل موازين القوى داخل المؤسسات الدستوريّة.
– رابعاً: إذا كانت السلطة تريد استقدام أيّ استثمارات خارجيّة في سياق الشراكات ما بين القطاعين العامّ والخاصّ، كإحدى أدوات التعافي المالي، فمن الأكيد أنّها ستكون في وضعيّة تفاوضيّة سيّئة جدّاً، إذا دخلت في هذا المسار من موقع الطرف المطعون في شرعيّته دوليّاً. وخطة التعافي الماليّ الجديدة التي تعمل عليها الحكومة تراهن على هذا النوع من الشراكات في العديد من القطاعات، وخصوصاً الكهرباء والاتصالات وإعادة إعمار وتشغيل المرفأ، فيما يستهدف الرئيس ميقاتي الشركات الألمانيّة والفرنسيّة تحديداً لهذه المهمّة.
نقل زوّار للعاصمة برلين عن كبار المسؤولين الألمان العاملين على خط متابعة الأزمة اللبنانيّة، بالإضافة إلى أعضاء في البرلمانيْن الأوروبي والألماني، نبرةً صارمةً في ما يخصّ الاستحقاقات الدستوريّة المقبلة في لبنان
سيناريو تطيير الانتخابات
في النتيجة، سيضع سيناريو تطيير الانتخابات السلطة اللبنانيّة في موقع المواجهة مع المجتمع الدولي على المستوى السياسي، وسيفاقم حتماً جميع مؤشّرات الانهيار المالي ما إن يُرفع الغطاء الدولي كلّيّاً عن الممسكين بالقرار السياسي في البلاد. وخلال هذا الوقت الضائع، سيكون تصعيد الضغوط الدوليّة بهذا الشكل الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن يتمّ استخدامها لفرض تجديد نصاب المؤسسات الدستوريّة وإعادة شرعيّتها.
على أيّ حال تتعدّد الأسباب التي تدفع المسؤولين الأوروبيين إلى التوجّس من نوايا مبيّتة لدى الطبقة السياسيّة لتطيير استحقاق الانتخابات النيابيّة بالتحديد. فقد أظهرت نتائج تسجيل الناخبين غير المقيمين زيادةً في عدد هؤلاء إلى أكثر من 244 ألف ناخب مسجّل، في مقابل 92,810 ناخبين مسجّلين في الدورة الماضية. وعلى الرغم من تأييد الكثير من هؤلاء للأحزاب التقليديّة التي لطالما هيمنت على المشهد الانتخابي، كان من الواضح أنّ الزيادة الكبيرة في أعداد المسجّلين نتجت عن دعوات واسعة قادتها المجموعات التي تدور في فلك الحالة الاعتراضيّة. ولهذا السبب بالتحديد، ثمّة ما يكفي من المؤشّرات التي تدلّ على وجود حالة تململ شعبيّ كبيرة ستنعكس حتماً في صناديق الاقتراع، ومن الطبيعي أن يكون تيّار العهد، الذي يقود البلبلة المرتبطة بتعديلات قانون الانتخاب، في طليعة المتضرّرين منها.
إقرأ أيضاً: انتخابات الحزب: أمل أوّلا.. ثم التيار الوطني والآخرين
خلال الأسابيع المقبلة، يُتوقّع أن تتوضّح تداعيات الخلاف على موعد الانتخابات وآليّات اقتراع المغتربين، ثمّ سيتبيّن مدى تأثيرها على إمكانيّة إجراء الانتخابات نفسها. ومن الأهميّة بمكان الإشارة إلى أنّ قبول المجلس الدستوري لطعن التيار الوطني الحر بالقانون لن يحلّ هذه الأزمة بشكل حاسم، نظراً إلى ضرورة اتفاق أقطاب الحكم على الآليّات التطبيقيّة لاقتراع المغتربين لستّة مقاعد نيابيّة جديدة، وتحديداً لجهة كيفيّة توزّعها على القارّات والمذاهب الستّة في الوقت نفسه. بمعنى آخر، تقودنا جميع الأبواب مجدّداً إلى التوجّس والقلق على مصير الاستحقاق الانتخابي.