لم يجد “حزب الله” ما يردّ به على القرارات السعودية في حقّ لبنان سوى ربطها بمجريات الحرب في اليمن. غير أنّ الرابط بين الساحتين لا تنفيه الرياض، بل إنّها نصّت عليه بصريح البيان الذي وضع “النقطة على السطر”، وفي تصريح وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان.
لم تكن السعوديّة مَن ربَط الملفّ اللبناني بأيٍّ من ملفّات المنطقة، ولم تعرض أيّة مقايضة تتعلّق بالنفوذ فيه، بل إنّ المعروف في الدوائر الدبلوماسية، منذ سنوات، أنّ الرياض تواجه ما تلاقيه من بيروت باللامبالاة، ولا شيء غير اللامبالاة، وليس بإعلان الحرب ولا بالعقوبات ولا بقطع العلاقات. طلب الربط يأتي من إيران و”حزب الله”، وبصريح القول والفعل الحربيّ في الساحة اليمنيّة، لاستدراج الاعتراف بالحزب بوصفه واحداً من الجيوش الإيرانيّة الستّة في الإقليم.
يزعم رئيس كتلة “حزب الله” محمد رعد أنّ قرارات السعودية هي ردٌّ على الهجوم الحوثي على مأرب اليمنية، في ما يشبه الإقرار بأنّه طرف ضالع في ذلك الهجوم، بكلّ ما يعنيه ذلك من توريط شعب لبنان بكامله في حرب لم يقرّرها ولا مصلحة له فيها
يزعم رئيس كتلة “حزب الله” محمد رعد أنّ قرارات السعودية هي ردٌّ على الهجوم الحوثي على مأرب اليمنية، في ما يشبه الإقرار بأنّه طرف ضالع في ذلك الهجوم، بكلّ ما يعنيه ذلك من توريط شعب لبنان بكامله في حرب لم يقرّرها ولا مصلحة له فيها. لم يقُل رعد شيئاً عن علاقة حزبه بذلك الهجوم وتوقيته: لماذا الهجوم بعد أسابيع من التهدئة غير المعلنة؟ ولماذا ينخرط في المجهود الحربيّ والإعلاميّ بكلّ ما أُوتي من إيران؟ ولماذا تتنصّل طهران من أيّة قدرة على “التأثير” في الملفّ اليمنيّ في غرف الحوار المغلقة، فيما يتبنّاه “حزب الله” ضمناً، وفي بعض الأحيانا علناً؟
تحدّث الأمين العامّ لـ”حزب الله” حسن نصر الله في خطابه الأخير عن مئة ألف مقاتل لبناني في الهيكل العسكري لحزبه، وأتبع ذلك باستعراض القدرة على “التأثير” على مستوى الإقليم. ما الذي يدفعه إلى إعلان الرقم الآن؟! هو لم يفعلها حين واجه إسرائيل في 2006، ولم يفعلها حين خاض حرب الإلغاء ضدّ قوى 14 آذار في عزّها، ولم يفعلها حين اجتاح بيروت في 7 أيار 2008، بعد زعمه أنّ الحكومة اللبنانية “اعتدت” على سلاحه، ولم يفعلها حين خاض الحرب في سوريا. هل إشكال الطيّونة يستدعي ما لا تستدعيه كلّ تلك الحروب؟!
لم يكن إعلان الرقم موجّهاً إلى “القوات اللبنانية” على الأرجح، بل إلى دول الخليج. وهو بذلك يؤازر سعي إيران إلى فرض مقعد له على طاولة التفاوض الإقليمي، من باب ترتيب الأوراق وفرز الملفّات. فمنذ انتخاب إبراهيم رئيسي رئيساً، تتمسّك طهران باستئناف التفاوض في الملفّ النووي من حيث مزّق الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الاتفاق النووي، وترفض وضع “جيوشها” الستة في المنطقة على طاولة التفاوض في فيينا. وبالمثل، تريد طهران للتفاوض مع السعودية أن يتناول الملفّات الثنائيّة وملفّ البحرين حصراً، من دون أن تقدّم أيّ تنازل في الملفّ اليمني. وهكذا يصبح ملفّ لبنان مرتبطاً بملفّ اليمن.
يبدو المشهد سورياليّاً. القوى نفسها، التي ظلّت سنواتٍ طوالاً تتّهم السعودية بالتدخّل في الشأن اللبناني، لم تترك وسيلةً لاستدراج عودتها إلى الساحة اللبنانية، وظلّ إعلامها على مدى عام كامل يكيل الاتّهام للسعودية بأنّها العقدة التي تمنع تشكيل حكومة بعد استقالة حسان دياب في آب 2020، لمجرّد أنّ الرياض لا تعطي رأياً في أيّ مرشح لرئاستها أو في أسماء وزرائها. ثمّ بعدما شكّل نجيب ميقاتي حكومته، بدا واضحاً أنّ المهمّة الموكلة إليه من “حزب الله” وحلفائه استجداء المساعدات من السعودية ودول الخليج، واستجداء الوساطات الغربيّة لفتح أبواب السعودية أمام ميقاتي.
يريد “حزب الله” من دول الخليج حضوراً على طراز عام 2006، حين قدّمت مليارات الدولارات لإعمار الجنوب والضاحية الجنوبية إلى الدولة اللبنانية بعد حرب تموز، فتحوّل الحزب في ليلة صيفٍ من مقاومٍ إلى مقاولٍ يستحوذ على أموال التعويضات عبر مشروع مؤسسات مثل “وعد” و”جهاد البناء”. هكذا قبض الناس الذين تهدّمت بيوتهم أموال الخليج من الدولة، وسدّدوها إلى الدويلة، لتوزّعها بدورها على المقاولين من خاصّتها (للمناسبة، كان من بينهم رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل). ويُراد من ميقاتي اليوم أن يلعب الدور الشكلي الملائم لتكرار اللعبة نفسها. وإلّا فكيف يُفَسَّر الرهان الذي ضربه رئيس الجمهورية ميشال عون في مطلع عهده للزميل نديم قطيش، حين واجهه بالسؤال الجوهري عن إمكان جذب المال الخليجي في وجود “حزب الله” بحالته الخارجة عن الدولة. لم يُجِب الرئيس حينها بأطروحة سياسية مُقنعة أو غير مقنعة، بل اكتفى بعبارة يتبادلها المراهقون: “بتشارط؟!”
كان عون “يشارط” على أنّ وجود سعد الحريري على رأس الحكومة الأولى في عهد التسوية الرئاسية كافٍ لتوفير “الشكل” الذي يستدرج الخليج إلى اللعبة، وهو في ذلك في قلب رهان “حزب الله”، ومن ورائه إيران. فما يريده الحزب ليس واجهة السلطة بمعناها الشكلي، بل “السلبطة”، لأنّ السلطة ببساطة تعني الحكم، والحكم يعني المسؤوليّة، وهو لا يريد أن يُسأل أو يُساءَل عمّا يفعل. إيران منشغلة بإعداد مئة ألف مقاتل لبناني لحروبها في المنطقة، ولا وقت لديها لإدارة الشأن الحياتي العامّ. تلك مهمّة يُترَك للسلطة أن تأتي لها بالتمويل من دول الخليج، ولا ضير ما دامت السلطة كلّها خاضعة لسلبطتها وسلطبة حزبها في لبنان. فلتمطر الصناديق العربية حيثما شاءت، فإنّ خراجها “السياسي” والاقتصادي يعود إليهما.
في المقابل، كان العديد من “الحلفاء الطبيعيّين” للخليج في الساحة اللبنانية عالقين في وهم الفصل بين ما هو محلّيّ وما هو إقليميّ، فسوَّقوا لمقولة إخراج سلاح “حزب الله” من النقاش الداخلي، باعتبار أنّه موضوع حوار إقليميّ أو دوليّ، و”لا طاقة لنا به”. وقد وضعوا أنفسهم بذلك تحت سقف “السلبطة”.
انفجرت الأزمة مع السعودية والخليج لأنّ “السلبطة الحاكمة” في لبنان لم تتحمّل اللامبالاة أو ما تُسمّيه “إدارة الظهر”، ولأنّها لا تستطيع إدارة دولة، ولأنّه ليس بوسعها أن تقف في وجه الناس لتتحمّل مسؤوليّة خياراتها وسياساتها الإقليمية، وقد بدا أنّ أقصى ما يمكن أن تصل إليه في الأزمات لا يعدو تهريب المازوت عبر المعابر غير الشرعية، وتوزيع كوبونات الإعانات الإيرانية.
إقرأ أيضاً: الحزب وقرداحي: إنّها معركة المنطقة.. وليس لبنان
ردّ الفعل السعودي تعبيرٌ في مكان ما عن رفض الابتزاز، ولعلّه تذكير للبنان بأنّ الفصل الشكلي بين السلطة والسلبطة ما عاد ممكناً، وبأنّ التعامل مع لبنان كدولة مستقلّة يقتضي ألّا يبقى نصر الله وعبد الملك الحوثي “جنديّين صغيرين” في جيش وليّ أمرٍ واحد.