يبدو أنّ المؤسسة العسكرية لحرس الثورة، وبعدما نجحت في عقد مؤتمر دول الجوار الأفغاني، بمشاركة روسيا والصين، في إطار مجموعة 6+1، ووضع الأسس لتفاهمٍ على آليّات التعامل مع الوضع الأفغاني وشروط اعتراف هذه الدول بشرعيّة سلطة طالبان من بوّابة تشكيل حكومة شاملة لكلّ المكوّنات السياسية والقومية والعرقية والمذهبية، سيكون أمامها تحدّي التعامل مع المستجدّات التي تشهدها الساحة العراقية واليمنيّة واللبنانية، والبحث عن تسويات تمنع انزلاق هذه الساحات إلى صراعات وحروب داخلية ستُعقِّد المشهد أمامها، وتنعكس تداعياتها على مسار العلاقة مع دول الجوار العربي، خصوصاً الخليجي.
لذلك لجأت دائرة التوجيه السياسي في قوات حرس الثورة الإسلاميّة في إيران للإجابة عن سؤال يتعلّق بمدى تراجع النفوذ الإقليمي لإيران، وكشفت عن حجم النقاشات الداخلية التي تدور في أروقة وكواليس النظام ومراكز القرار فيه حول حجم التصدّع الذي لحق بهذا النفوذ في العامين الماضيين.
يتّخذ النقاش حول الدور والنفوذ الإيرانيَّيْن في الإقليم من لحظة اغتيال قائد قوّة القدس الجنرال قاسم سليماني في العاصمة العراقية بغداد منطلقاً لتقويم هذا النفوذ، وميزاناً لمعرفة حجم التراجع، إذا وُجِد، أو التقدّم، إذا حدث، على اعتبار أنّ سليماني كان يشكّل رأس المشروع الإقليمي للنظام في المنطقة، وكان الممسك بكلّ تفاصيل المشهد والعلاقة مع القوى المتحالفة أو الموالية لإيران، والأكثر معرفةً ومتابعةً لكلّ ما يخدم المصالح الاستراتيجيّة لطهران وحلفائها.
قد لا يكفي مسؤولي النظام ومؤسّس حرس الثورة، المعنيّين بهذا المسار الإقليمي للنفوذ الإيراني في المنطقة، إطلاق الاتّهام والهروب إلى الأمام بإحالة توصيف ما يجري على بعض الأصوات السياسية الدولية والإقليمية المعادية التي تسعى إلى ترويج فكرة تراجع هذا النفوذ وتراخي القبضة الإيرانية على ساحات نفوذها. وقد لا يكفي أيضاً التأكيد أنّ تغييب سليماني عن المشهد الإقليمي لم يترك أثراً ولم يساهم في زعزعة القبضة الإيرانية، وأنّ خليفته الجنرال إسماعيل قاآني استطاع الإمساك بكلّ الأوراق وبالفاعليّة نفسها التي كانت أيام سيلماني، وإن كانت بأسلوب مختلف، لكنّها لم تحدث أيّ خلل في التعامل مع هذه الملفّات، من أفغانستان فالعراق فاليمن، وليس انتهاءً بلبنان.
تأتي مبادرة دائرة التوجيه السياسي في حرس الثورة لتقديم إجابات على الأسئلة المطروحة حول الدور والنفوذ وحجم تراجعهما في الإقليم، استجابةً للأصوات الداخلية التي ارتفعت في الأشهر الأخيرة
في الحقيقة، تأتي مبادرة دائرة التوجيه السياسي في حرس الثورة لتقديم إجابات على الأسئلة المطروحة حول الدور والنفوذ وحجم تراجعهما في الإقليم، استجابةً للأصوات الداخلية التي ارتفعت في الأشهر الأخيرة منتقدةً سياسات النظام في التعامل مع الملفّات المصيرية، خصوصاً الملفّ النووي، والتعنّت الذي يمارسه في رفض الدعوات المتكرّرة لإعادة إحياء الاتفاق النووي، ولا سيّما في ظلّ الأوضاع الاقتصادية المتردّية التي تعيشها إيران، والانعكاسات السلبية للحصار على الحياة اليوميّة للمواطنين، فضلاً عن العزلة الدولية التي تواجهها إيران وتزيد من تفاقم الأزمات.
لم يكن البحث عن أجوبة ليكون لو لم يصدر موقف صريح وواضح عن أحد المراجع التقليديّين في الحوزة الدينية في مدينة قم، والذي يُعتَبر مقرّباً من النظام، أو بتعبير أدقّ لا يُصنّف في عداد المراجع المنتقدين له، وهو آية الله صافي كلبايكاني الذي طالب الدولة والنظام بـ”إنهاء حالة الخصومة مع العالم، وتحسين علاقاتهما مع دول العالم التي تمرّ في مرحلة سيّئة أثّرت على أوضاع وحياة المواطنين”، وذلك خلال استقباله لرئيس البرلمان الجنرال محمد باقر قاليباف قبل أيام. وهو موقف دفع العديد من أوساط التيار المحافظ المؤيّد للنظام وحكومة إبراهيم رئيسي إلى توجيه انتقادات لاذعة له، خرج بعضها عن اللياقة المفترَضة في التعامل مع المراجع الدينية، واتّهمته بالوقوف في الصفّ المعارض للمرشد الأعلى الذي وصف الذين يربطون تراجع الأوضاع الاقتصادية بالمسائل الخارجية.
يمكن القول إنّ الاستعراض، الذي لجأت إليه هذه الدائرة في حرس الثورة، هو استقراء ناقص للتطوّرات التي شهدتها ملفّات ومناطق نفوذ إيران في الإقليم، فهي لم تقدّم قراءة واضحة للتطوّرات التي أنتجتها الانتخابات العراقية، وللتراجع، إلى حدّ الهزيمة، الذي تكبّدته أكثر القوى والفصائل الموالية لها في السلطة (تحالف الفتح، منظّمة بدر، وعصائب أهل الحقّ)، وما أدّت إليه من تقدّم التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر، وتنامي نفوذه، وتكريس وجود القوى العلمانية والتشرينية المعادية بشكل واضح للنفوذ والدور الإيرانيّيْن في العراق. وهذا ما دفعها إلى التراجع والعمل من الخلف في محاولة لاستيعاب هذا المتحوّل وإعادة تقويم قدراتها في التعامل معه، خصوصاً مع ظاهرة مقتدى الصدر الذي يبدو حتى الآن أنّه خرج بشكل شبه كامل من تحت عباءة مراعاة أو الأخذ بعين الاعتبار المصالح الإيرانية، وانتقل إلى الفضاء العراقي المُطالِب بالسيادة وكفّ يد التدخّلات الخارجية، ولا سيّما الإقليمية، في الشؤون الداخلية العراقية.
إقرأ أيضاً: إيران وعجزها عن “فهم” العراق
كثيرة هي الملفّات التي تجعل المؤسسة العسكرية عرضةً للانتقاد، والتي حرصت في استعراضها على الردّ عليها. وهي تحمل اعترافاً مباشراً بمسؤوليّة “قوّة القدس” في حرس الثورة عن التعامل مع الملفّ الأفغاني والتطوّرات التي تشهدها أفغانستان بعد الانسحاب الأميركي، وذلك على حساب الدبلوماسية الإيرانية التي تحوّلت إلى منفّذ للخطط والاستراتيجيات التي ترسمها قيادة هذه المؤسسة ويشرف عليها الجنرال قاآني من منطلق مسؤوليّته السابقة عن الملفّ الأفغاني، ولذا رفض كلّ الدعوات المطالِبة بإخراج المسألة الأفغانية من دائرة صلاحيّات الحرس “الميدان”، ونقلها إلى الإدارة الدبلوماسية، على اعتبار أنّ هذا التوجّه هدفه التشكيك وإضعاف دور الحرس وموقع ونفوذ إيران الإقليميّين، بعدما استطاعت هذه المؤسسة، بناءً على المعطيات الميدانية والسياسية والأمنيّة والعسكرية، أن تعزّز الدور والموقع الإيرانيّين في المنطقة، خاصة في الموضوع الأفغاني، الذي تصفه بأنّه أصعب وأعقد بكثير من الملفّ السوري والعراقي واللبناني، وحيث نجحت في تفويت الفرصة على الإدارة الأميركية التي كانت تأمل أن يؤدّي انسحاب قواتها من أفغانستان إلى مواجهات بين إيران وحركة طالبان.