في كلّ مرّة يرتكب مسؤول لبنانيّ خطيئة الإساءة إلى دولة عربيّة، يسارع المسؤولون في الدولة اللبنانية إلى الردّ على الإساءة بإساءة جديدة.
فماذا يعني القول إنّ الإساءة إلى هذه الدولة العربية أو تلك تُلحِق الضرر بالمصالح اللبنانية وبمستقبل عمل عشرات الآلاف من اللبنانيين الذين يعملون فيها؟
فماذا لو لم تكن هناك مصالح تجارية متبادلة، أو لم يكن هناك لبنانيون يعملون في هذه الدولة أو تلك، كالسودان مثلاً، أو لم تكن هناك مصالح اقتصادية معها، كموريتانيا مثلاً، فهل كانت تجوز الإساءة إليها أو السكوت عن الإساءة إليها؟ أيّ منطق هذا الذي يردّ على الإساءة المباشرة بإساءة مباشرة ثانية؟ هل الاحترام المتبادل بين الدول الشقيقة، وبين الدول الصديقة، يقوم على حجم التبادل التجاري بينها، أو على عدد الأيدي اللبنانية العاملة لديها؟ أين قيم الأخوّة والمحبّة والصداقة والوفاء؟
لم تمنّن الدول العربيّة الشقيقة لبنان بما قدّمته له. ولم تحاول ابتزازه أو استدراجه إلى مواقف تتناقض مع وحدته وسلامته ومصالحه
إنّ احترام المملكة العربية السعودية، مثلاً، لا يقوم على حجم التبادل التجاري معها، وهو كبير، ولا على عدد أفراد الجالية اللبنانية التي تستضيفها، وهو يبلغ مئات الآلاف. إنّ احترام المملكة يكون لذاتها، ولدورها البنّاء في العلاقات العربية – العربية، وفي العلاقات العربية – الدولية، التي وُظِّفت لمصلحة لبنان منذ بدايات أزماته، وما أكثرها. وما يُقال عن المملكة صاحبة الأيادي البيضاء في مساعدة لبنان، سياسياً وماليّاً واقتصادياً، قبل مؤتمر الطائف (1989)، وبعده، وما يُقال عن الكويت قبل بناء أهراءات بيروت، التي دمّرها تفجير المرفأ، والعديد من طرقها وجسورها، وما يُقال عن قطر قبل المساعدات الإنسانية لإعادة ترميم ما هدّمه العدوان الإسرائيلي في عام 2006 وبعده، وما يُقال عن دولة الإمارات العربية المتحدة قبل بناء مستشفى شبعا والمستشفى الميداني لمعالجة ضحايا كوفيد-19 في بيروت، وما قبلهما، وما يُقال عن العراق قبل تزويد لبنان بالنفط، وما يُقال عن الشقيقة الكبرى مصر التي وقفت إلى جانب لبنان في السرّاء والضرّاء، وحين انقطاع إمدادات الغاز، وما يُقال عن الأردن قبل قراره تزويد لبنان بالكهرباء، وما يُقال عن سلطنة عمان قبل تبرّعاتها السخيّة لبناء دار أوبرا وقصر للمؤتمرات الثقافية في بيروت إلخ… إنّ هذه المواقف الأخويّة الكريمة لا تُقابَل إلا بالشكر والامتنان والتقدير، وليس بالافتراء والتعالي الانتفاخي الفارغ، على غرار ما صدر عن وزير الخارجية السابق.. ثمّ عن وزير الإعلام الحالي.
لم تمتدّ هذه الأيدي العربية البيضاء إلى لبنان ليسبّح بحمد هذه الدول ويتغنّى بها. ولكنّها لم تقدّم له أيضاً لينكرها ويتنكّر لها.
لقد أحسنت الدول العربية إلى لبنان.. فهل على هذه الدول العربية أن تتّقي شرّه، أو شرّ من يدّعون التحدّث باسمه؟
لم تمنّن الدول العربيّة الشقيقة لبنان بما قدّمته له. ولم تحاول ابتزازه أو استدراجه إلى مواقف تتناقض مع وحدته وسلامته ومصالحه.
لقد قدّمت له على مدى عقود طويلة من الدعم المعنوي ومن المساعدات المادّيّة ما مكّنه من تجاوز المحن التي مرّ بها، سواء تلك التي فُرِضت عليه من خارج (سلسلة الاعتداءات الإسرائيلية) أو تلك التي سنّها بنفسه ولنفسه. وكانت هذه الدول العربية خير معين له، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية.
لم يعد ثوب العلاقات اللبنانية العربية يصلح لمزيد من الترقيع. فالخرق أصبح خروقات. واتّسعت هذه الخروقات إلى حدّ يتعذّر معه أيّ ترقيع. يحتاج لبنان إلى ثوب جديد خاطته أيدٍ عربية
لم تطلب المملكة ولا دولة الإمارات ولا مصر ولا الأردن ولا الكويت ولا قطر، من لبنان أيّ إجراء أو أيّ موقف يتناقض مع مصالحه أو يعرِّض وحدته الوطنية للخطر. بل كلّ هذه الدول الشقيقة للبنان كانت تتنافس على تقديم الدعم المعنوي والمادّي لتمكينه من تجاوز المحن التي يمرّ بها أو تمرّ به ولا تزال. لذلك عندما تصدر عن مسؤولين لبنانيين (؟) مواقف تشويهية مسيئة إلى هذه الدول الشقيقة، كما حدث مراراً حتى داخل مؤتمرات الجامعة العربية (كموقف وزير الخارجية الأسبق جبران باسيل نموذجاً)، فإنّ من حقّها أن تنتفض لكرامتها ولمصالحها على حساب أخوّة ينكرها أو يتنكّر لها مَن هو في حاجة إلى الاحتماء والاستقواء بها.
لا ليس صحيحاً أنّ احترام وتقدير المملكة العربية السعودية هو من أجل الدفاع عن أعمال الجالية اللبنانية الكبيرة في المملكة، أو عن مصالح لبنان التجارية الواسعة معها. إنّ هذا الاحترام هو تعبير عن تقدير مواقفها وسياساتها، وبصورة خاصة تلك المتعلّقة بلبنان في سرّائه وضرّائه. حتّى إنّه يمكن القول إنّ سلامة لبنان هي من سلامة المملكة ومن سلامة الأسرة العربية التي ينتمي إليها.
لم يطلب أيٌّ من هذه الدول العربية الشقيقة شكراً من لبنان. كلّ ما هو مطلوب منه أن يحفظ وحدته وأن يصون أمنه وأن يدير شؤونه بنفسه ولنفسه. ولكن على العكس من ذلك كان لبنان يأخذ المساعدة العربية باليمين ويطعن ظهر الأخوّة العربيّة باليسار.
كانت الدول العربية تسكت على الإساءة على اعتبار أنّ لبنان مغلوب على أمره بحكم معادلة إيران – حزب الله. ولكن مع تكرار الإساءات باتت الإساءة من ثوابت السياسة اللبنانية وظاهرة متكرّرة من ظواهر عدم الوفاء والتنكّر لقواعد الأخوّة والصداقة. وهكذا تحوّل الطعن في الظهر إلى الطعن في الصدر.
وهكذا وصلنا إلى الدرك الأسفل في علاقات الدولة اللبنانية مع الدول العربية الأخرى. ولبنان يقف اليوم فوق أطلال هذه العلاقات يضرب كفّاً بكفّ نادباً ومتباكياً.
لم يعد ثوب العلاقات اللبنانية العربية يصلح لمزيد من الترقيع. فالخرق أصبح خروقات. واتّسعت هذه الخروقات إلى حدّ يتعذّر معه أيّ ترقيع. يحتاج لبنان إلى ثوب جديد خاطته أيدٍ عربية.
إقرأ أيضاً: المؤسّسات والاستقرار السياسيّ
لا توجد هويّة اسمها نصف عربيّ، فإمّا يكون لبنان عربيّاً كما نصّ اتفاق الطائف، أو لا يكون.
إنّ أسوأ ما يمكن أن تتعرّض له أيّ دولة، مثل لبنان، هو أن يُوكل الأمر فيها إلى غير أهلها. وآخر دعوانا: ربّنا لا تولّي علينا شرارنا.