“عثمان كافالا” الرجل الذي يُقلق إردوغان..

مدة القراءة 9 د

يقول عنه أصدقاؤه: إنّه متواضع، لكنّه عنيد. مهذّب، لكنّه صريح. متسلّط، لكنّه لا يستبدّ برأيه. وُلد في باريس عام 1957، من أسرة مسلمة مهاجرة من بلدة كافالا الساحليّة في شمال اليونان عقب اتفاق تبادل السكّان بين تركيا واليونان عام 1923، وهذه البلدة هي نفسها التي وُلد فيها مؤسّس الدولة الحديثة في مصر، الوالي العثماني محمد علي باشا (توفي عام 1849). درس في كلية روبرت الأمريكية في إسطنبول ?stanbul Özel Amerikan Robert Lisesi  في الجانب الأوروبيّ من إسطنبول، وهي المدرسة الأميركيّة الأقدم خارج الولايات المتحدة (تأسّست عام 1863)، وتتميّز بأنها مدرسة النخبة الأولى في تركيا، خرج منها طلبة متميّزون أصبحوا لاحقاً رجال أعمال، وسياسيّين، وفنّانين، وصحافيّين، من بينهم رؤساء وزراء أتراك وبلغار. درس الإدارة في جامعة الشرق الأوسط التكنولوجيّة في أنقرة، والاقتصاد في جامعة مانشستر في بريطانيا. وكان يعدّ أطروحة الدكتوراه في الكليّة الجديدة للأبحاث الاجتماعيّة في نيويورك، عندما علم بوفاة والده عام 1982، فعاد إلى إسطنبول. وهذه الكليّة تأسّست عام 1919 لاحتضان المفكّرين التقدّميّين في الولايات المتحدة والعالم.

ابتداء من 28 أيار من عام 2013، بدأ اسم عثمان كافالا يبرز، كمصدر قلق حقيقيّ لإردوغان. فقد أيّد كافالا أنصار البيئة في إسطنبول، المعترضين على مشروع إزالة حديقة غزي في منطقة تقسيم من أجل إعادة بناء ثكنة عثمانيّة قديمة هُدِمت عام 1940

من تجارة التبغ إلى بيع الكتب والأفكار

تولّى إدارة مجموعة شركات كافالا، وهو ينتمي إلى أسرة كانت معروفة بتجارة التبغ. انتقلت اهتماماته من مجال إلى آخر، عبر السنين. في الثمانينيّات، وعقب الانقلاب العسكريّ في 12 أيلول عام 1980، بقيادة الجنرال كنعان إيفرين تحت عنوان حماية مبادئ الجمهوريّة الأتاتوركيّة، وما رافق ذلك من قمع واعتقال، اهتمّ بقطاع النشر، فأسّس دار التواصل (?leti?im Publishing House) عام 1983، بهدف تسويق التغيير الاجتماعيّ الإيجابيّ. ومهمّة هذه الدار، بحسب الموقع الإلكترونيّ osmankavala.org، هو نشر الثقافة الديموقراطيّة وخدمة المسار الحضاريّ لتركيا. وفي عام 1985، شارك في تأسيس دار نشر أخرى، هي (Main Publishing Company) وقامت الدار بنشر نسخة تركية من موسوعة بريتانيكا. وهو حاليّاً عضو في مجلس إدارة (Aras Publishing). ومن اللافت أنّ دور كافالا كان أساسيّاً في نشر الكتاب المثير للجدل عام 2018 بعنوان: “طلعت باشا: أبو تركيا الحديثة، مهندس الإبادة Talaat Pasha: Father of Modern Turkey, Architect of Genocide، وطلعت باشا من أركان الاتحاد والترقّي، ومتّهم بالإشراف على عمليّة ترحيل الأرمن  من تركيا خلال الحرب العالميّة الأولى.

 في التسعينيّات، شارك كافالا في تأسيس عدد من المنظمات غير الحكوميّة NGO، مثل TEMA المؤسّسة التركيّة لمكافحة تآكل التربة وإعادة التشجير وحفظ المحميّات الطبيعيّة، ومجلس مواطني هلسنكي، وهو يدعو إلى السلام والديموقراطيّة وحقوق الإنسان في أوروبا، ومركز الديموقراطية والمصالحة في جنوب شرقيّ أوروبا. وكان عضواً في مجلس إدارة TÜRSAK المؤسّسة التركية للسينما والثقافة المرئيّة والمسموعة، وTESEV مركز الدراسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة التركيّة، وKMKD جمعيّة المحافظة على الإرث الثقافيّ، ومركز ذاكرة العدالة والحقيقة، ومؤسّسة تاريخ تركيا. وكافالا عضو  مؤسّس في مؤسسة المجتمع المفتوح في تركيا، وهي شبكة دولية لتقديم المنح والمساعدات، أنشأها الملياردير الأميركي المجري جورج سوروس George Soros، عام 1993. وفي عام 2018، أوقفت المؤسسة جميع أنشطتها في تركيا. من أجل ذلك ، لُقّب كافالا بـ “سوروس الأحمر”، تشبيهاً له بجورج سوروس الذي دعم الثورة المخمليّة في تشيكوسلوفاكيا عام 1989. هو يساريّ، وسوروس يمينيّ. والاثنان استعملا أموالهما للتغيير الاجتماعيّ والسياسيّ، مع أنّ كافالا لا يوافق سوروس في كلّ توجّهاته وأنشطته في بلدان أخرى.

وكان الزلزال المدمّر في مرمرة عام 1999، محطة فاصلة في حياة كافالا، فقد اندرج في أعمال الإغاثة، وترك عالم إدارة الشركات، مكرِّساً وقته لأنشطة المجتمع المدنيّ حتى صار أحد أبرز العاملين في هذا المجال في تركيا. وفي عام 2002، قرّر التركيز على الفنون والثقافة، فأسّس مركز الأناضول الثقافيّ (Anadolu Kültür)، وهدفه صناعة ثقافة السلام في المجتمع من خلال المشاريع التي يرعاها. ويعتقد كافالا أنّ بإمكان الفنون والثقافة خدمة الحوار والسلام عقب النزاعات الشديدة. وتفرّع من المركز الرئيسيّ، مركز الفنون في ديار بكر (غالبيّة كرديّة) وآخر في قارص (كانت الغالبيّة فيها أرمنيّة خلال الحرب العالميّة الأولى والآن فيها غالبيّة كرديّة). هذان المركزان اجتذبا فنّانين من تركيا ومن أوروبا، وكذلك من أرمينيا وأذربيجان وجورجيا. وانتشرت أنشطة كافالا إلى مدن أخرى مثل أنطاكية، وجنق قلعة، وإسكيشهر، وغازي عنتاب، وفان، وباتمان. وفي عام 2010، إبّان الاستعدادات للمسار التفاوضيّ بين تركيا والاتحاد الأوروبيّ من أجل الانضمام إليه، طوّر مركز الأناضول الثقافيّ أنشطته بهدف إنشاء روابط بين المدن الأناضوليّة والمدن الأوروبيّة.

في 18 تشرين الأول من عام 2017، اُعتُقل عثمان كافالا عقب عودته من غازي عنتاب، حيث كان يشارك في مشروع مشترك مع مركز غوته الألماني ومع ناشطين أكراد

وابتداء من 28 أيار من عام 2013، بدأ اسم عثمان كافالا يبرز، كمصدر قلق حقيقيّ لإردوغان. فقد أيّد كافالا أنصار البيئة في إسطنبول، المعترضين على مشروع إزالة حديقة غزي في منطقة تقسيم من أجل إعادة بناء ثكنة عثمانيّة قديمة هُدِمت عام 1940. وإثر قمع المعترضين هناك، انتشرت التظاهرات الصاخبة في 78 محافظة من أصل 81، وفي بلدان تعيش فيها جاليات تركيّة كبيرة، وشارك فيها أطياف من الاتجاهات السياسيّة اليمينيّة واليساريّة، والقوميّة التركيّة والكرديّة. وكادت التظاهرات أن تتحوّل إلى ربيع تركيّ على غرار الربيع العربيّ المشتعل في الوقت نفسه في عدد من الدول العربيّة، ولا سيّما في سوريا المجاورة. وفي عام 2015، شارك كافالا في إسطنبول في الذكرى المئوية لإبادة الأرمن. وفي مطلع عام 2017، دعا إلى مقاطعة الاستفتاء الدستوريّ على تعزيز صلاحيّات رئيس الجمهوريّة، أي إردوغان، وهي التعديلات التي حوّلت النظام البرلماني إلى نظام رئاسي.

 

أربع سنوات اعتقال دون إدانة

في 18 تشرين الأول من عام 2017، اُعتُقل عثمان كافالا عقب عودته من غازي عنتاب، حيث كان يشارك في مشروع مشترك مع مركز غوته الألماني ومع ناشطين أكراد. ولم يحاكم إلا في شباط عام 2020 مع ثمانية آخرين بتهمة قلب الحكومة أثناء اضطرابات حديقة غزي، وتمويله تلك الحركة. خرجوا جميعاً لعدم كفاية الأدلّة. لكنّه اُعتُقل بعد ساعات بتهمة المشاركة في انقلاب 15 تموز من عام 2016، وهو الانقلاب الذي اُتُّهمت به جماعة فتح الله غولن تحديداً. وهي جماعة إسلامية تعمل خاصة في المجال التربويّ، وكانت من الحلفاء الأساسيّين لحزب العدالة والتنمية في سنوات الصعود إلى السلطة، منذ عام 2002.

أبعد من الاتّهامات القضائيّة التي لم تجد أدلّة كافية حتى اليوم لإدانة كافالا، إثارة الشبهات حول تواصله مع الدبلوماسيّ الأميركيّ والاستخباريّ السابق هنري باركي (Henri Barkey)، المتخصّص في الشأنين التركي والكردي. يتّهمه أنصار حزب العدالة والتنمية بأنّه كان يدعم انقلاب عام 2016. بالمقابل، كان باركي خلال الانقلاب المذكور يشغل منصب مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز وودرو ويلسون بين عاميْ 2015 و2018. بعد ذلك، صار باحثاً مساعداً في مجلس العلاقات الخارجية، والبرنامج الذي يعمل عليه منذ ذلك الحين هو: مستقبل الأكراد. كان عضواً في فريق تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأميركيّة، وعمل في المقام الأوّل على القضايا المتعلّقة بالشرق الأوسط وشرق البحر المتوسط والاستخبارات من عام 1998 إلى عام 2000. وإحدى أبرز دراساته: مأزق تركيا في سوريا (Turkey’s Syria Predicament). ومقالاته في المجلّات البحثيّة تتناول القضية الكرديّة والإبادة الأرمنيّة، إلى جانب مسائل شرق أوسطيّة أخرى.

الآن ما هو مغزى افتعال أزمة دوليّة من أجل ناشط واحد هو عثمان كافالا؟ فالبيان المشترك الصادر في أنقرة في 18 تشرين الأول، لسفارات الولايات المتحدة، وألمانيا، والدانمارك، وفنلندا، وفرنسا، وهولندا، والسويد، وكندا، والنرويج، ونيوزيلندا، يمثّل سابقة دبلوماسيّة حين يطالب بإطلاق سراح الناشط التركيّ عثمان كافالا. فلماذا تتضامن كلّ هذه الدول فيما بينها انتصاراً لقضيّة تركيّ مسجون بتهم خطيرة، منها الإسهام في محاولة الانقلاب على النظام مرّتين عاميْ 2013 و2016 على التوالي؟ هل بات كافالا هو رمز الديموقراطيّة وسيادة القانون في تركيا، بل معيار وجودها أصلاً، حتى تحاكم أوروبا ومعها الولايات المتحدة الدولة التركيّة ممثَّلةً برجب طيب إردوغان؟ ومن هو عثمان كافالا؟ وهل يشكّل خطراً حقيقيّاً على النظام، وعلى إردوغان، وهو كما يبدو من سيرته على مواقع إلكترونيّة تابعة له أو مناصرة له، مجرّد ناشط ثقافي وبيئي يحاول تجسير الروابط بين مكوّنات الشعب، ولا سيّما بين الأتراك والأقلّيّتين الكرديّة والأرمنيّة، ورعاية الفنون بوصفها أداة علاج من آثار النزاعات المسلّحة، بعدما تخلّى عن عالم البيزنس، وعن إدارة شركات العائلة؟ وما هو رهان الغرب أوّلاً وآخراً؟

إقرأ أيضاً: تركيا: عثمان كفالا.. لماذا كلّ هذا الضجيج؟

هل هو رأس حربة في طريق تغيير النظام في بلد تهيمن فيه شخصيّة كاريزماتيّة طاغية مثل إردوغان؟ قد يكون عثمان كافالا هو البديل النقيض، رمز المقاومة، كما هو حال المعارض الروسي ألكسي نافالني (وُلد عام 1976)، وهو محامٍ وناشط ومدوِّن، ظهر عام 2009 عندما تحدّى الرئيس فلاديمير بوتين. بشّر بربيع روسيّ منذ ذلك الحين. تعرّض للتسميم عام 2020، وعولج في ألمانيا. فلمّا عاد اُعتُقل بتهمة أخرى هي الاحتيال. وبسببه، كادت أن تقع أزمة دبلوماسيّة بين روسيا والاتحاد الأوروبيّ.

محمد علي باشا (الكافاليّ الألبانيّ) استقلّ بمصر ما بين عامي 1805 و1848، وهزم الجيوش العثمانيّة ووصل إلى قلب الأناضول لولا تدخّل الدول الأوروبيّة. وهو معطى تاريخيّ قد لا تكون له أيّ دلالة حاليّاً، لكنّه، من الناحية الرمزيّة، له أكثر من مغزى. ابن الدولة، الذي لا ينتمي إلى عمق الأناضول، ينقلب عليها بدعم من أوروبا، فلِمَ لا يتكرّر التاريخ؟

مواضيع ذات صلة

فتح الله غولن: داعية… هزّ عرش إردوغان

ثمّة شخصيات إسلامية كثيرة في التاريخ توافَق الناس على تقديرها واحترامها، مع ظهور أصوات قليلة معترضة على نهجها أو سلوكها أو آرائها، لكنّها لم تتمكّن…

مصرع السنوار في مشهد لا يحبّه نتنياهو

مات يحيى السنوار، رئيس حركة حماس منذ اغتيال سلفه إسماعيل هنية في 31 تموز الماضي، وهو يقاتل الجيش الإسرائيلي، في إحدى أسخن جبهات القتال في…

الحزب بعد “السّيّد”: الرأي الآخر… ومشروع الدّولة

هنا محاولة لرسم بورتريه للأمين العامّ للحزب، بقلم كاتب عراقي، التقاه أكثر من مرّة، ويحاول في هذا النصّ أن يرسم عنه صورةً تبرز بعضاً من…

الياس خوري رحل إلى بيروته وتركنا لأشباحها

عن 76 عاماً، قضاها بين الورق والحبر والكتب والنضال من أجل تحرير فلسطين والإنسان العربي، غادرنا الروائي والقاصّ والناقد والأكاديمي الياس خوري، تاركاً فراغاً يصعب…