مشكلة إدارة الرئيس جو بايدن مع الدول الرئيسية في الشرق الأوسط، أي السعودية ومصر والإمارات وإسرائيل، أنّ بايدن أدخل علاقته بهذا الرباعيّ في سياق معركتين داخليّتين أميركيّتين يخوضهما منذ اليوم الأوّل له في البيت الأبيض.
المعركة الأولى يخوضها بايدن مع سلفه دونالد ترامب، والترامبيّة بشكل عامّ، وهي تيّار أفصح عن نفسه كاتّجاه صلب وعريض داخل الحزب الجمهوري. كلّ ما يوحي بالابتعاد عن ترامب يتحوّل إلى أولويّة عند بايدن، ومنه الابتعاد عمّن اقترب منهم ترامب، وفي طليعتهم رباعي الدول الذي بدأت بالحديث عنه. لكن سرعان ما اصطدم بايدن بحدود هذه السياسة في ملفّيْ الصين واتفاق السلام الإبراهيمي، فتبنّى حيالهما سياسة سلفه كاملة.
ما يزيد من خطورة سوء الفهم بين واشنطن وعواصم الرباعيّ، أنّ الدبلوماسية الأميركية تعاني من شبه إفلاس على مستوى الرأسمال البشري في السفارات
المعركة الثانية يخوضها بايدن مع يسار الحزب الديموقراطي، الذي دفع الرئيس المنتخَب إلى انتحال صفة يساريّة ليست له ولا تشبه تاريخه، بغية امتصاص وترويض هذا الجناح الصاعد في صفوف الحزب الديموقراطي. منذ الأيّام الأولى اختار بايدن أن يكون “يساريّاً مزيّفاً” لإرضاء اليسار الديموقراطي، لكنّه سرعان ما عاد، بتفاوتٍ، إلى قواعد العلاقة الكلاسيكية مع الرباعيّ.
لقد بالغ الرئيس المنتخَب في رفع أولويّة حقوق الإنسان في العلاقة مع الرباعيّ، بشكل تعامى فيه عن مشروعات التحديث العميقة الجارية في المنطقة، التي تُعدّ بارقة الأمل الوحيدة في شرق أوسط حطّمته مغامرات المحافظين الجدد والانتهازية الإيرانية، وزاد عليه حطاماً الاختطاف الممنهج للربيع العربي من قبل مشروع الإخوان المسلمين الذي قادته عواصم محدّدة، وضمن رؤى كُشِف عنها في تسريبات صوتية وغير صوتية.
هاتان المعركتان، مع ترامبيّة الحزب الجمهوري ويسار الحزب الديموقراطي، أضرّت بشكل كبير بسلامة العلاقات بين واشنطن وعواصم الرباعيّ الذي يشكّل قاعدة الاستقرار في الشرق الأوسط. وأضرّت أيضاً بصورة واشنطن وهيبتها وتماسك سياستها، لأنّ “اليساريّ المزيّف” بدا كثير التردّد، بحيث لا يقدّم كثيراً في ما ينتحله من سياسات يسارية حقوقاً إنسانية، فيهدم أسس الاستقرار في الشرق الأوسط ولا يتراجع عن هذه السياسات بما يكفي لترميم الثقة بينه وبين عواصم الرباعي.
وقد خلق التردّد مناخات من الشكّ العميق، الذي شوّش على المعاني العميقة لبعض الخطوات السياسية التي أرادت منها إدارة بايدن إرسال رسائل إيجابية. أبرز تلك الرسائل الضائعة، زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي جايك سوليفان إلى المنطقة.
قبل وصول سوليفان إلى الرياض، كانت زيارة وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن للمملكة “تأجّلت” وسط ضجّة إعلامية كبيرة. وعندما سئل أوستن عن التطوّرات التي طرأت على خطّة زيارته للسعودية، وعمّا إذا كانت الزيارة قد تأجّلت أو أُلغيت، أجاب أوستن: “دعنا نقُل تأجّلت”، مضيفاً: “ليس لدينا موعد محدّد لزيارة متابعة. ما سأقوله هو أنّ السعوديّين حليف أساسيّ لنا. لدينا مصالح مشتركة في المنطقة. لقد عملنا معاً على حلّ القضايا الصعبة، وسنواصل القيام بذلك في المستقبل. وأنا أتطلّع إلى زيارة المملكة في وقت ما في المستقبل القريب”.
ما حدث بعد ذلك أنّ الرئيس الأميركي، وبدل الإقدام على أيّ انفعال سياسيّ ودبلوماسيّ، أوفد إلى الرياض أرفع موظّف سياسي في البيت الأبيض والأقرب في هرميّة النظام إلى الرئيس الأميركي للقاء الأمير محمد بن سلمان، في إشارة لا يشوبها الشكّ إلى أنّ واشنطن راغبة في العمل مع ولي العهد السعودي. سبق ذلك فتح أبواب العاصمة الأميركية للأمير خالد بن سلمان، نائب وزير الدفاع وشقيق وليّ العهد السعودي، في زيارة مباحثات مع مستشار الأمن القومي الأميركي جايك سوليفان وكبار المسؤولين بوزارة الدفاع الأميركية، صدر في إثرها بيان عن البيت الأبيض يتحدّث عن “الشراكة الطويلة الأمد بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، والأمن الإقليمي، والالتزام الأميركي بمساعدة السعودية في الدفاع عن أراضيها فيما تواجه هجمات من الجماعات المتحالفة مع إيران”.
أمّا مع مصر فقد طغى في الإعلام خبر حجب إدارة بايدن لـ 130 مليون دولار من المساعدات العسكرية عن مصر ما لم تُحسِّن سجلّ حقوق الإنسان، وهو ما أغفل أمرين:
1- أنّ المعونة العسكرية الأميركية لمصر البالغة 1.3 مليار دولار، سُدِّدت بالكامل، ما عدا الـ 130 مليون دولار، وهو الحد الأدنى الذي لا يستطيع بايدن تجاوزه في التجاوب مع ضغوط الكونغرس.
2- في حين اشترط الكونغرس تجميد 300 مليون دولار، أي ما يعادل ربع المعونة العسكرية، اختارت وزارة الخارجية الأميركية الاستفادة من بعض بنود قانون الموازنة التي تسمح لها بتجاوز نسبيّ لاشتراطات الكونغرس، فأفرجت عن 170 مليون دولار إضافية من حزمة الـ 300 مليون التي أوصى بها المشرّعون الأميركيون.
ولو قُدِّر لبايدن أن يكتفي بتجميد أموال أقلّ لفعل. لا ننسى أنّ بايدن الذي تأخّر عمداً في أيّامه الأولى في إجراء اتصال بالرئيس عبد الفتاح السيسي، اتّصل مرّتين بالرئيس المصري في سياق دعم جهود الأخير لوقف الحرب في غزّة في أيار الماضي، وأبدى في أحد الاتّصالين تفهّماً لموقف مصر في موضوع الأمن المائي والخلاف حول سدّ النهضة مع إثيوبيا.
منذ تلك اللحظة، وخلال خمسة أشهر تقريباً، زار القاهرة كلٌّ من وزير الخارجية أنتوني بلينكن، قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال كينيث ماكينزي، مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ويليام بيرنز، وأخيراً مستشار الأمن القومي جايك سوليفان.
مع إسرائيل كان تمويل القبّة الحديديّة هو العثرة الأبرز، وإن لم تدُم سوى ساعات قليلة. فبعد اعتراضات من بعض النواب الديموقراطيين اضطرّت الرئيس إلى سحب بند تمويل القبّة الحديدية بمبلغ مليار دولار من نصّ قانون الموازنة، عاد مجلس النواب الأميركي وصوَّت على التمويل في قانون منفصل، بواقع 420 صوتاً مقابل 9، أي أنّ تسعة أصوات (8 نواب ديموقراطيين وواحد جمهوري) اختطفوا بضجيجهم سلامة العلاقات الأميركية الإسرائيلية وعزّزوا الأسباب الوهمية لانعدام الثقة بين واشنطن وحلفائها، وكلّ ذلك بسبب خضوع بايدن لأسر الصراعات السياسية الداخلية في أميركا.
هذا الخضوع هو ما دفع مسؤولاً إماراتيّاً إلى أن يقول لجايك سوليفان: “أنتم تفكّرون في خيارات ونتائج لأربع سنوات. نحن مضطرّون إلى التفكير لخمسين سنة، ولا نملك ترف أن نكون أسرى تقلّبات الدورات الانتخابية الأميركية” في عصر يزداد فيه خضوع الدولة الأميركية ومؤسّساتها وصناعة القرار فيها لمنطق “الترندينغ” و”الهاشتاغ“.
لهذا ذهب وليّ عهد أبوظبي، الشيخ محمد بن زايد، إلى رأس النبع، في لقائه مع سوليفان، بالقول إنّ علاقة بلاده المستقبليّة مع واشنطن ستكون أكثر استقراراً إذا تمّ ترسيخها بموجب اتّفاق أمنيّ رسميّ يحمل ختم الكونغرس بالموافقة.
ما يزيد من خطورة سوء الفهم بين واشنطن وعواصم الرباعيّ، التي باتت أكثر علنيّة في مغازلة الصين وروسيا، وتدبير علاقاتها البينيّة مع لاعبين آخرين في الإقليم، أنّ الدبلوماسية الأميركية تعاني من شبه إفلاس على مستوى الرأسمال البشري في السفارات.
منذ وصول بايدن إلى السلطة، تمّ تعيين 19 موظّفاً فقط في وزارة الخارجية، فيما ينتظر 77 مرشّحاً حاليّاً موافقة مجلس الشيوخ، ويخضعون لحرب الابتزاز بين بايدن وعضو الكونغرس الجمهوري عن تكساس تيد كروز، الذي يفرمل تعيينات الرئيس من خلال موقعه في لجنة العلاقات الخارجية.
تشمل السفارات، التي بلا سفراء، سفارات أميركا في الصين والهند وكندا والاتحاد الأوروبي وفرنسا وألمانيا واليابان وتركيا والسعودية والإمارات وغيرها!!