سوريون ولبنانيون يموتون برداً وجوعاً في أوروبا

مدة القراءة 8 د

تصلني بشكل شبه يوميّ مناشدات تتضمّن رسائل نصّيّة وصوتيّة مرفقة بعدد من الصور عبر هاتفي من خلال أحد تطبيقات الاتّصال الرقميّ.

المشترَك في جميع هذه الرسائل أنّها تتضمّن عبارة واحدة: “هل يمكنك مساعدتنا؟ نحن عالقون، أجسادنا تتجمّد، لدينا أطفال ونساء”. وتنتهي تلك الرسائل بخريطة للموقع الحالي (GPS) للشخص المرسِل.

تصل المناشدات من الحدود البيلاروسيّة – البولنديّة الممتدّة على مسافة 400 كيلومتر، حيث تقطّعت السبل بآلاف المهاجرين من سوريا والعراق واليمن ولبنان وأفغانستان ودول إفريقية في أثناء رحلتهم صوب أوروبا الغربية، إذ يرفض الجيش البيلاروسيّ إعادتهم من حيث أتوا، فيما يقف الجيش البولندي أمامهم ويمنعهم من التقدّم باتجاه إحدى الدول الأوروبية.

عادة ما تكون إجابتي “أنا صحافي، يمكنني أن أكتب عمّا يحدث”.

وإلى اليوم لا تزال قضية المهاجرين العالقين على الحدود بين بولندا وبيلاروسيا، ومن بينهم لبنانيون، من دون حلول، مع تعنّت سلطات البلدين ورفض إدخالهم إلى إحدى الدولتين لأسابيع طويلة. وقد مُنِعَ الصحافيون والحقوقيون من أن يكونوا هناك. ولم يعد يحقّ للمنظّمات غير الحكومية أو وسائل الإعلام الدخول إلى تلك المنطقة.

حديث الصورة: لاجئون على الحدود البيلاروسية – البولندية يواجهون البرد والجوع والاعتقالات.

يحدث ذلك في ظلّ ظروف صعبة بسبب شدّة البرد وانخفاض درجات الحرارة إلى ما دون درجة الصفر، وعدم توافر الطعام في المنطقة الحدودية، واستمرار السلطات البولندية في صدّ المهاجرين عبر الحدود الشرقية مع بيلاروسيا.

 

البرد والجوع أهون من حكم الأسد

من بين العالقين يوسف وزوجته وطفلاه، الذين يبيتون في العراء بين حدود بولندا وبيلاروسيا. بصوت متقطّع يشرح الشاب البالغ من العمر 32 عاماً، في اتصال رقمي عبر الإنترنت، وضعهم الحالي بالقول: “نحن عالقون بين مجموعة أشجار في المنطقة العازلة بين حدود بيلاروسيا وبولندا، إنّها تجربة قاسية لا أتمنّاها لأيّ إنسان”.

ويضيف: “وضعنا يزداد سوءاً، لكنّني أفضّل وعائلتي العيش بين دولتين في منطقة معزولة عن العالم، على العيش تحت حكم بشار الأسد”.

وقد أعربت “مفوضيّة اللاجئين” و”منظمة الهجرة الدولية” عن قلقهما إزاء الوضع المتردّي على الحدود، وأصدرتا بياناً جاء فيه: “تقطّعت السبل بمجموعات من الأشخاص لأسابيع، بحيث إنّهم غير قادرين على الوصول إلى أيّ شكل من أشكال المساعدة أو طلب اللجوء أو الحصول على الخدمات الأساسية”.

وتتّهم الحكومة البولندية في العاصمة وارسو حاكم بيلاروسيا، ألكسندر لوكاشينكو، بنقل اللاجئين من مناطق الأزمات إلى الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي، وتنظيم عبور المهاجرين “ردّاً على العقوبات الأوروبية التي تستهدف مينسك بسبب تعاملها مع المعارضة”.

دفعت هذه التطوّرات بولندا إلى إعلان حالة الطوارئ على الحدود للمرّة الأولى منذ سقوط النظام الشيوعي فيها عام 1989. في ظلّ هذا الوضع، لقي عدد من اللاجئين مصرعهم جوعاً وبرداً، الأمر الذي دفع سلطات بيلاروسيا وبولندا إلى تبادل الاتّهامات بالمسؤولية الأخلاقية عمّا يحدث.

وأعلنت الحكومة البولندية إرسال ستّة آلاف عسكري جديد إلى المنطقة الحدودية مع بيلاروسيا، “لمساعدة حرس الحدود على وقف تدفّقات المهاجرين”. وقد جاء الإجراء وسط حالة من الترقّب، خاصّة بعد اتّخاذ الحكومة في بولندا سلسلة قرارات من شأنها جعل الهجرة إلى أراضيها شبه مستحيلة.

وقد انتقد الاتحاد الأوروبيّ طريقة تعامل بولندا مع الموقف، معتبراً أنّ “السلطات يجب أن تحفظ أمن الحدود، من دون أن يكون ذلك على حساب حياة المهاجرين”.

وعبّر كثير من المهتمّين بحركة اللجوء عن مخاوفهم من تفاقم أزمة اللاجئين على الحدود بين بيلاروسيا وبولندا خلال الأشهر المقبلة مع زيادة أعداد المهاجرين واشتداد حدّة البرد وتشدّد أجهزة الأمن في تعاملها مع المهاجرين.

لكن ما سرّ التدفّق الكبير للّاجئين صوب بيلاروسيا التي أصبحت “بلد عبور”؟

جاءت الخطوة البيلاروسيّة، ردّاً على العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على العاصمة البيلاروسية مينسك عقب حملة قمع المتظاهرين المناهضين للحكومة الذين طعنوا في أواخر عام 2020 في نتائج انتخابات، اعتبرها العديد من الدول مزوّرة، وسمحت للحاكم ألكسندر لوكاشينكو بالبقاء في السلطة.

قال فاديم موجيكو، الخبير في “المعهد البيلاروسي للدراسات الاستراتيجيّة”، في تصريحات صحافية، إنّ “الرئيس ألكسندر لوكاشينكو ينتقم من دول الغرب التي رفضت فوزه في الانتخابات الرئاسية في آب 2020، ودعمت حراك المعارضة ضدّه، وهذا ما فعله حين أعلن صراحة، في تموز الماضي، السماح بتدفّق المهاجرين”.

وتابع أنّ “تدفّق المهاجرين على بيلاروسيا ازداد لأنّ السلطات فيها، ببساطة، سمحت بدخولهم عبر منافذها الحدودية بصورة رسمية، مستفيدة من تحصيل رسوم التأشيرات والإقامة في بعض الفنادق، قبل توجّههم إلى الحدود، ولهذا أصبحت بيلاروسيا فجأة وجهة مريحة بعيدة عن مخاطر خوض البحر مثلاً”.

في المقابل شهدت العاصمة البولندية وارسو، الأسبوع الماضي، تظاهر آلاف البولنديين احتجاجاً على صدّ المهاجرين الذين يحاولون دخول البلاد بطريقة غير قانونية عند الحدود مع بيلاروسيا. ورفع المتظاهرون وسط العاصمة البولندية لافتات كُتب عليها: “أوقفوا التعذيب عند الحدود”.

ولوّح بعض المتظاهرين بلافتات مصنوعة من الأغطية التي يوزّعها رجال الإغاثة على المهاجرين عند الحدود، محذّرين من أنّ الإعادة القسريّة ستحكم على هؤلاء بالتجمّد حتى الموت بسبب الصقيع.

حديث الصورة: اتّهم المتظاهرون السلطات البولندية بصدّ المهاجرين على الحدود.

الأزمة تتفاقم

في الأسابيع الأخيرة، أرسلت بولندا آلاف الجنود وبنت سياجاً من الأسلاك الشائكة على الحدود مع بيلاروسيا لمنع المهاجرين من العبور. وفي شهر أيلول، صدر مرسوم وزاريّ بولنديّ ينصّ على أنّه يجب إعادة أولئك الذين يتمّ اعتراضهم في منطقة الحدود إلى خارج الدولة.

ومع ازدياد التوتّر بين بيلاروسيا وبولندا، لا يزال معظم المهاجرين عالقين بين الغابات وسط الحدود بين الدولتين منذ أسابيع. ويقول حقوقيون إنّ المهاجرين تحوّلوا إلى جدار مساومة وسلاح سياسيّ بين بيلاروسيا ودول جوارها في الغرب في مسعى إلى إنهاء العقوبات المفروضة على العاصمة مينسك.

حكومة بولندا عمدت إلى بناء سياج من الأسلاك الشائكة، يبلغ ارتفاعه 2.5 متر، على الحدود مع الجارة بيلاروسيا، في محاولة لصدّ المهاجرين. وقالت إنّ الإجراء “ضروريّ للحفاظ على حدود بولندا والاتحاد الأوروبي” أمام موجات المهاجرين.

وتصف “مجموعة الإنقاذ الموحّد”، المتخصّصة في متابعة شؤون طالبي اللجوء، واقع هذه العائلات، بالقول إنّ الجيش البولندي يعيد طالبي اللجوء إلى الحدود أو إلى بيلاروسيا، فيما ترفض السلطات البيلاروسية استقبال هؤلاء الذين تتمّ إعادتهم، وبذلك يصبحون عالقين في المنطقة العازلة بين الدولتين في العراء لعدّة أسابيع.

لا تزال قضية المهاجرين العالقين على الحدود بين بولندا وبيلاروسيا، ومن بينهم لبنانيون، من دون حلول، مع تعنّت سلطات البلدين ورفض إدخالهم إلى إحدى الدولتين لأسابيع طويلة

ومنذ بداية العام، منع حرس الحدود البولندي أكثر من 20 ألف محاولة لعبور الحدود البيلاروسية – البولندية بشكل غير قانوني، منها أكثر من 6 آلاف محاولة عبور خلال الشهر الحالي. في حين تمكّن بعضهم من العبور باتّجاه عمق الاتّحاد الأوروبي.

في حين تعهّدت الحكومة الألمانية بنشر مزيد من قوات الأمن على طول حدودها مع بولندا، لمنع وصول لاجئين تمكّنوا من عبور الحدود البولندية. وأعربت وزارة الداخلية الألمانية عن قلقها إزاء تزايد عدد المهاجرين بشكل غير قانوني، ممن يدخلون البلاد عبر أنحاء أخرى من الإتحاد الأوروبي. ويظهر هذا القلق بشكل واضح من خلال فرض أكبر دول الاتحاد الأوروبي ضوابط على الحدود لضبط حركة المهاجرين.

 

وتيرة اللجوء

وفقاً للمفوّضيّة الأوروبية، شهد الاتحاد الأوروبي خلال عام 2020 “انخفاضاً في أعداد طلبات اللجوء بنسبة 33 في المئة على أساس سنويّ”. وأضافت المفوضيّة أنّ عبور المهاجرين بشكل غير قانوني عبر المعابر الحدودية انخفض بشكل غير مسبوق منذ 2013. ويعود ذلك إلى بدء تفشّي وباء كورونا قبل عام ونصف العام. حينها أثّرت القيود وحالة الإغلاق العامّ في البلدان الأوروبية على موجات تدفّق المهاجرين وطالبي اللجوء، وقلّل غلق الحدود وقيود السفر وتدابير احترازية أخرى من عمليات الهجرة إلى أوروبا بشكل كبير.

إقرأ أيضاً: هل عودة اللاجئين السوريّين من لبنان إلى بلادهم طوعيّة حقّاً؟

أما في ما يتعلّق بالعام الجاري، فقد رسمت البيانات الحديثة الصادرة عن “الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل – فرونتكس”، صورةً مغايرة عن أرقام العام المنصرم. فقد أشارت إلى ارتفاع وتيرة الهجرة غير النظامية إلى أوروبا بنسبة 64 في المئة من شهر كانون الثاني إلى آب مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.

مواضيع ذات صلة

خشية غربيّة من جولة تصعيد جديدة

إذا لم تُثبت التطوّرات عكس ذلك، فإنّ الأوساط الدبلوماسية الغربية لا ترى في مسوّدة الاتّفاق الذي صاغة الموفد الأميركي آموس هوكستين وقدّمته السفيرة الأميركية لدى…

قيس عبيد: شبحُ مغنيّة الذي حملَ الجنسيّة الإسرائيليّة

منذ أن افتتحَت إسرائيل سلسلة اغتيالات القيادات العسكريّة للحزبِ في شهرَيْ حزيْران وتمّوز الماضيَيْن باغتيال قائد “قوّة الرّضوان” في جنوب لبنان وسام الطّويل وبعده قائد…

بين لاريجاني وليزا: الحرب مكَمْلة!

دخلت المرحلة الثانية من التوغّل البرّي جنوباً، التي أعلنها الجيش الإسرائيلي، شريكة أساسية في حياكة معالم تسوية وقف إطلاق النار التي لم تنضج بعد. “تكثيفٌ”…

هل تملأ مصر فراغ التّسليم والتّسلّم؟

يترنّح المسار التفاوضي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية تحت وطأة الضغوط العسكرية التي تمارسها الحكومة الإسرائيلية في عدوانها الوحشي بحقّ لبنان. في الأثناء، يواظب الموفد…