يستمرّ لبنان في حروبه الأهليّة بمراحلها المختلفة، الباردة والحامية. لكلّ حرب سياقها الإقليمي والدولي وعواملها الداخلية المندفعة بفعل البحث عن تعزيز النفوذ أو تغيير موازين القوى. في لمحة سريعة وبسيطة وجردة للوقائع اللبنانية منذ الاستقلال إلى اليوم، يمكن الإشارة إلى ثلاث حقبات أساسيّة ومركزيّة:
المارونيّة السياسية.
والسنّيّة السياسية.
والشيعيّة السياسية.
دخل لبنان في مرحلة انتقالية وصراع سياسي وأمنيّ دامٍ أنتج أحداث 7 أيار في 2008، التي أراد حزب الله من خلالها تغيير موازين القوى والقفز فوق اتفاق الطائف إلى اتفاق الدوحة، الذي كان أوّل انقلاب على الدستور
أوّلاً: المارونية السياسية
كانت الحقبة الأولى تستمدّ قوّتها من بيئة اقتصادية اجتماعية وسياسية قائمة على مجموعة عوامل قوامها التحالف المركزي بين الإقطاع السياسي وأصحاب رأس المال. استمرّت تلك الحقبة منذ الاستقلال إلى أن سقطت في الحرب الأهليّة عام 1975. وقبلها مرّت بأحداث واشتباكات متوالية، بينها ثورة عام 1958، والأحداث والتطوّرات التي شهدها لبنان في الستينيّات.
قبل عام 1958، كان السنّة شركاء بدرجة أدنى أو كانوا عبارة عن مستلحقين سياسيّاً بالموارنة، فيما الشيعة كانوا في عداد المحرومين والمهمّشين. أمّا الدروز فكانوا أصحاب دور سياسيّ فعّال ومؤثّر، لكن من دون مكتسبات حقيقية داخل السلطة أو بنية النظام. وقد تجلّى تأثيرهم في تلك الفترة في محطّتين أساسيّتين، الأولى في أواخر عهد الرئيس بشارة الخوري عندما قامت الثورة الاشتراكيّة البيضاء ضدّ العهد وسياساته، ثمّ تطوّرت إلى عصيان مدنيّ دفع الخوري إلى الاستقالة. وقد أبرم الدروز تسوية مع كميل شمعون الذي كان شريكاً في الثورة الاشتراكية، واُنتُخب رئيساً للجمهورية.
كان شمعون زعيماً مسيحيّاً من “الأقوياء”. وقد مارس قواعد الحكم وفق قواعد الدستور التي تمنحه صلاحيّات واسعة، فأدّى ذلك إلى وقوع مشكلة كبرى بينه وبين حليفه السابق كمال جنبلاط على إيقاع انقسام سياسي إقليمي دولي. إذ ذهب شمعون باتّجاه حلف بغداد، فيما كان كمال جنبلاط مؤيّداً لعبد الناصر. دخل عهد شمعون في أزمة سياسية كبرى، خصوصاً بعد استدعاء الأسطول الأميركي السادس. فكانت الثورة أو “الحرب الأهليّة” الأولى، التي منعته من تجديد ولايته أو تمديدها. وهنا عُقِدت تسوية ثانية متوازنة، جاءت بقائد الجيش فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية.
لم يكن شهاب من الرؤساء “الأقوياء” بالمفهوم “الشعبويّ” للكلمة. لكنّ عهده وُصِف بـ”أفضل العهود” على صعيد دولة المؤسّسات وما تحقّق من إنتاج. السمة الأساسيّة لعهد شهاب أنّه أنتج طبقة جديدة فاعلة ومؤثّرة في المجتمع اللبناني، وهي الطبقة الوسطى، أي الموظّفون، بعد المؤسّسات التي تمّ بناؤها.
التوازن في عهد شهاب
تحقّق في عهد شهاب بعضٌ من التوازن ما لبث أن سقط بحسابات الداخل والإقليم. خصوصاً مع “اتفاقيّة القاهرة” عام 1969، التي فتحت الجنوب أمام الكفاح الفلسطيني المسلّح فكانت نهاية الشهابيّة التي استمرّت مع الرئيس شارل حلو. وفي العام 1970، اتّفق المسيحيّون على سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية، ففُرِضت مجدّداً معادلة الرئيس القوي التي أوصلت إلى صراعات سياسية أنتجت الحرب الأهليّة. استمرّت الحرب 15 سنة، إلى أن جاءت لحظة الطائف إثر توازنات دولية وإقليمية، وثبّتت المدى الحيويّ العربيّ للبنان. في تلك الفترة، وتحديداً بين العامين 1988 و1990، كان البطريرك نصر الله صفير يتمسّك عن قناعة بضرورة استقطاب العرب والاستناد إليهم في حماية المسيحيين في لبنان ومرتكزات الدولة اللبنانية، لأنّه لو لجأ إلى القوى الدولية لذهبت هذه القوى إلى مفاوضة العرب، وقد تكون النتيجة على حساب المسيحيين. وقد نجح البطريرك صفير في ما رمى إليه، وكان اتفاق الطائف الذي ثبّت المناصفة و”أوقف العدّ” وركّز حاجة لبنان إلى المسيحيين سياسيّاً واجتماعيّاً، على الرغم من أنّ أزمة سياسية بقيت قائمة في البيئة المسيحية بسبب نفي الجنرال ميشال عون وسجن الدكتور سمير جعجع، إلا أنّ مواقع المسيحيين بقيت محفوظة.
كان السُنّة ولا يزالون ينطلقون من فكرة الدولة الوطنية وضرورة الانخراط فيها، وهم لم ينطلقوا يوماً من كونهم طائفة في تعاطيهم مع الآخرين، بخلاف القوى الأخرى التي انطلقت من حسابات ومنطلقات طائفية ضيّقة سعياً وراء تحقيق المزيد من المكاسب السياسية
ثانياً: السنية السياسية
كانت هذه بداية فترة السنّيّة السياسيّة التي نشأت في ظروف دولية وعربية عنوانها الرئيس رفيق الحريري. وقد شهد خلالها لبنان نهضة اقتصادية واستقراراً سياسيّاً ووفرة ماليّة بعد إعادة الإعمار. ولم تتخلّل تلك الفترة توتّرات طائفية أو مذهبية ولا حروب، وارتكزت تلك الحقبة على مبدأ تعزيز مؤسسات الدولة، بخلاف أيّ مشروع طائفي.
كان السُنّة ولا يزالون ينطلقون من فكرة الدولة الوطنية وضرورة الانخراط فيها، وهم لم ينطلقوا يوماً من كونهم طائفة في تعاطيهم مع الآخرين، بخلاف القوى الأخرى التي انطلقت من حسابات ومنطلقات طائفية ضيّقة سعياً وراء تحقيق المزيد من المكاسب السياسية.
كانت مرحلة السنيّة السياسية أقرب إلى “الازدهار” المالي والاقتصادي، مع هامش أمني انحصر في جنوب لبنان ضمن “تفاهم نيسان” بعد عدوان 1996 الإسرائيلي، وبضمانة فرنسية – دولية قادها الرئيس الحريري منحازاً إلى لبنان وحقّ الجنوبيين بمقاومة الاحتلال.
وسريعا طُوِيت حقبة السنّيّة السياسيّة مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري، في سياق مشروع دولي كبير اتّضحت معالمه بعد رفع شعار محاربة الإرهاب بعد أحداث الحادي عشر من أيلول. وقد كان الهدف من وراء ذلك الذهاب إلى حقبة جديدة من الاستقرار في المنطقة.
مشروع بدأ بإسقاط صدام حسين في العراق، واغتيال ياسر عرفات في فلسطين، واغتيال رفيق الحريري في لبنان. حينئذٍ لم يتحوّل السُنّة إلى طائفة، بل رفعوا شعار “لبنان أوّلاً” في تأكيد للقناعة المستمرّة بأنّ الملاذ هو الدولة الوطنية.
دخل لبنان في مرحلة انتقالية وصراع سياسي وأمنيّ دامٍ أنتج أحداث 7 أيار في 2008، التي أراد حزب الله من خلالها تغيير موازين القوى والقفز فوق اتفاق الطائف إلى اتفاق الدوحة، الذي كان أوّل انقلاب على الدستور، وثبّت معادلة التعطيل الجديدة، بثلث وزاري يوازي حقّ الفيتو لحزب الله وحده. واستمرّت المعادلة إلى أن تمكّن حزب الله من فرض سيطرته على القرار السياسي اللبناني، وهو ما تجلّى في تسوية 2016 التي جاءت بحليف حزب الله المسيحي ميشال عون رئيساً للجمهورية.
ثالثا: الشيعية السياسية
حينذاك بدأت تتوضّح معالم حقبة الشيعيّة السياسية التي تمكّنت من فرض معادلات السلطات والرئاسات. ولم تكتمل إلا في انتخابات 2018 النيابية، بعدما وقّع الرئيس سعد الحريري على قانون انتخابات نسبيّ، فُصّل على قياس شعبية عون وجبران باسيل وتيارهما، وعلى قياس الاختراقات التي سجّلها حزب الله في البيئات السنية والدرزية. فكان مجلس النواب الجديد وفيه “74 نائباً لإيران”، بحسب تصريحات مسؤولين إيرانيين.
النتيجة المباشرة كانت الانفجار السياسي والاجتماعي والماليّ الذي أوصل لبنان إلى درك الانهيار الكبير في مختلف القطاعات. إذ انهار القطاع المصرفي، والطبي، والتربوي، وانهارت مميّزات القطاع الخاص، بالإضافة إلى انهيارٍ كبيرٍ في كلّ قطاعات الدولة. ووصل الاستنفار المذهبي والطائفي إلى أوجه، وذلك ضمن سياق تعمل عليه مجموعات تؤمن بـ”حلف الأقلّيّات” أو الدفاع عن حقوق الطوائف، التي عندما تحضر يغيب أيّ مرتكز له علاقة ببناء الدولة.
الفوارق بين المراحل الثلاثة
كان شعار السنّيّة السياسية هو الانخراط في مشروع الدولة الوطنية.
في المقابل، انطلق الشيعة في مسارهم السياسي من مشارب مختلفة أبرزها: المطالبة بـ”العدالة الاجتماعية” في مراكمة على “ثورة المحرومين”. وقد نجح هذا الشعار في شدّ أواصر الحزب وتعزيز شعبيته وصولاً إلى تنامي نزعة مذهبية تماهت مع شعار “المقاومة للدفاع عن الوجود”. وهو مسار لا يزال مستمرّاً إلى اليوم في مسار التقدّم السياسي الذي تحقّقه الشيعيّة السياسية.
أمّا المسيحيون فعادوا يرفعون شعارات المطالبة بالصلاحيّات السابقة على اتفاق الطائف تحت عنوان “الدفاع عن حقوق المسيحيين” و”استرجاعها”، ويكرِّس بعضهم منطق الابتعاد عن العرب وعن السُنّة أيضاً من خلال إعلان الذهاب إلى “لتحالف المشرقيّ” أو “تحالف الأقليّات” الذي يلتقي بشكل ما، أو بناءً على تقاطع مصالح سياسية، مع مشروع الشيعيّة السياسية.
إقرأ أيضاً: تجريف السُنّة
وسط هذه المعادلة ثمّة غياب قاتل للوجه السياسي والاجتماعي والثقافي والفكري للسُنّة، الذين يحتاجون انطلاقاً من بعدهم الوطني وانفتاحهم التاريخي وإيمانهم بمنطق الدولة إلى خلق شعار جديد يشكّل عنواناً سياسياً يستحقّ النضال من أجله في المرحلة المقبلة، ويجري من خلاله تأكيد التمسّك بعروبة لبنان في مواجهة مشاريع التفتيت أو مشاريع الطموحات الأقلّويّة، وإلى مشروع يتثبّت فيه مبدأ الحفاظ على الأمن الاجتماعي للشباب ومستقبلهم في مواجهة نزعات التطييف أو الترهيب أو الغرق في مشاريع ذات بعد عسكري.
إنّه مشروع وطني في مواجهة تفتيت مرتكزات الدولة الوطنية التي يعيشها لبنان بعد سوريا والعراق واليمن، يقوم على قناعة راسخة لا لبس فيها بالحفاظ والتمسّك بالتنوّع الطائفي والمذهبي السياسي والاجتماعي والثقافي والفكري.