كانت بكركي بالأمس واضحة على لسان سيّدها، ومن خلال المقرّبين منها، أنّها ترفض المساواة بين حزب الله وحركة أمل من جهة، وحزب القوّات اللبنانية من جهة مقابلة. فلا يتساوى مَن دافع عن كرامته وأمن بيئته، ودفع الثمن من أجل السيادة، ومَن يتعدّى على الآخرين، وينتهك السيادة كلّ آن. “الدولة سائبة، لكنّ الطائفة غير سائبة”. كلام خطير ينزع القناع عن الأوهام، أوهام الدولة الحاكمة بالقانون، وينسف أيّ رهان سابق أو لاحق على العدالة. فلِمَ لا تُقال الأشياء كما هي؟ وإذا قيلت أخيراً، فلِمَ لا يُبنى على الشيء مقتضاه، من أجل السير معاً نحو دولة القانون حقّاً؟ الإقرار بالواقع كما هو، بداية طريق الإصلاح. والإصلاح طريق طويل وشاقّ. يبدأ من الالتزام بالقانون، وعلى رأسه الدستور. وهذا ما طالب به تحديداً المجلس الشرعيّ الإسلاميّ الأعلى في بيانه الصادر في 18 أيلول الماضي، أي “احترام الدستور اللبناني والتوقّف عن تجاوزه في محاولات بائسة لفرض سوابق تنسف قواعد الوفاق الوطني والاستقرار السياسي”، لأنّ “هذا الاحترام يشكّل المدخل إلى الإصلاح وإعادة بناء الثقة”. ودعا البيان في سياق قضيّة المرفأ إلى “رفع كلّ الحصانات من دون استثناء من خلال إصدار قانون جديد في المجلس النيابي، ولمنع إدخال هذا الملفّ في الاستنساب والانتقام السياسي… وأيّ ملاحقة انتقائية لرؤساء أو وزراء أو غيرهم تجعل عمليّة هذه المحاكمة في حالة خلل جوهريّ، وتصبح عملاً من أعمال الاستهداف والانتقام، وتجاهلاً للآليّات الدستوريّة والقانونيّة… “المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء” المنصوص عليه في الدستور اللبناني… وبهذا تسلك العدالة طريقها الصحيح”. وخلص البيان إلى قاعدة جوهريّة، وهي “أنّ الانتقاء والاستنساب لا يصنعان عدالة، ولا يُنتجان حقّاً أو حقيقة”، وهذه الفقرة لا تتطابق تماماً مع كلام البطريرك الراعي أخيراً.
كانت بكركي بالأمس واضحة على لسان سيّدها، ومن خلال المقرّبين منها، أنّها ترفض المساواة بين حزب الله وحركة أمل من جهة، وحزب القوّات اللبنانية من جهة مقابلة
كلمات بليغة وسياق آخر
ثمّة كلمات مفتاحيّة ذات وَقْع كبير جاءت على لسان البطريرك المارونيّ بشارة الراعي يوم السبت الماضي خلال افتتاح مسيرة سينودوس الأساقفة على مستوى الكنيسة المارونيّة، لمناسبة استدعاء رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع للاستماع إلى شهادته في قضيّة أحداث الطيّونة وعين الرمّانة، لعلّ أبرزها: “غياب دولة القانون”، “إخضاع العدالة للنافذين”، “أخْذ البريء وتحييد المذنبين”، “مبدأ القانون والأخوّة، لا مبدأ الفوضى والثأر والعداء”، “ترك العدالة تأخذ مجراها في أجواء طبيعيّة ومحايدة ونزيهة”، “عدالة تحمي الحقوق والواجبات بالمساواة بين المواطنين”، “الظلم يولّد القهر، والقهر يولّد الانفجار”، “إنّ الجميع تحت القانون حين يكون القانون فوق الجميع”.
هذه الكلمات البليغة، لو نُزِعت من سياقها الزمانيّ والمكانيّ، وقيلت في مناسبات سابقة، تعرّض فيها لبنانيّون كُثُر للظلم، وغالبهم لا يزال يعاني من هذا الظلم حتى اللحظة، مسجونين بلا محاكمة سنوات طويلة، أو مُدانين بمحاكم استثنائية لم يتوافر فيها للمتّهمين أدنى مقوّمات الدفاع عن النفس، لَما أخطأت هدفها إطلاقاً. لبنان لا تغيب فيه دولة القانون وحسب، بل الدستور، الذي هو فوق القوانين، وهو عنوان الاجتماع اللبناني على مبادئ عامّة لا تقبل النقاش، غير محترم، بل لعبة بأيدي العابثين. وإذا كان هذا هو حال قانون القوانين، فلا عجب أن تكون القوانين الأقلّ مرتبة غير محترمة أيضاً، وأحياناً على أيدي مَن يريدون تطبيق القانون، تحت ذرائع شتّى، ولا سيّما تطبيق العدالة. دولة لا تحترم الدستور ولا القوانين. من البديهيّ إذاً أن نكون في بلد يحكمه الأقوياء والنافذون، وأن لا تكون فيه عدالة ولا مساواة. هذا ما يشعر به أهل السُنّة عموماً في هذا البلد منذ عقود، ويطالب قادة الرأي فيهم، من سياسيّين ودينيّين، بتطبيق القانون وإنجاز العدالة، ولا مُجيب.
تطبيق القانون بانتهاكه؟
السؤال المركزيّ الذي على خبراء القانون أن يجيبوا عنه بشجاعة: هل من قبيل احترام القانون وبناء دولة القانون، انتهاك الدستور والقانون ولو بذريعة تطبيق القانون والعدالة، كما يفعل القاضي طارق البيطار؟ وهل الواقع السياسيّ والطائفيّ لأحد أكبر الأحزاب المسيحيّة، كما قيل أخيراً، يبرّر وحده الاستعصاء بإزاء استدعاء القضاء له، كما هو الحال مع رئيس حزب القوّات اللبنانية في قضيّة الطيّونة بغضّ النظر عن الظروف وعن كلّ الشعارات؟ ألا نلمح هنا الاستنجاد بالنفوذ أيضاً للاستقواء على القانون مجدّداً باسم الحفاظ على دولة القانون؟
إن كان القضاء غير مؤتمن على تحقيقاته، والدولة بلا قانون ولا دستور، وقانون القويّ هو النافذ، والضعيف أو المستضعَف هو فقط مَن يقع عليه عبء القانون، فنحن إذاً في حالة دستوريّة وسياسيّة هجينة، لم يسبق لها نظير، تستدعي التوضيح وإعادة التعريف من جديد. أمّا المضيّ بهذه اللعبة، ومنها ازدواجيّة المعايير، فلن يقيم لنا دولة. لم ننجح عام 2005، ولن ننجح مستقبلاً، فضلاً عن أن تكون حقّاً دولة قانون ومؤسّسات.
لم يُطالب المجلس الشرعيّ بحماية أحد. دعا فقط إلى احترام الدستور والقوانين. كيف كان الردّ؟ حملة إعلاميّة وسياسيّة منسّقة تضمّنت شتّى الاتّهامات والتلويحات، ليس أقلّها أنّ المسلمين يريدون التمسّك بالحصانات السياسيّة والنيابيّة لتعطيل التحقيق وحماية أبنائهم، فيما البيان واضح عكس ذلك، حين طالب برفع كلّ الحصانات. وذهب بعضهم إلى أنّ هذا بمجمله يهدّد العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيّين. فهل مساءلة رئيس الجمهوريّة، وهو الحاكم الفعليّ في البلاد، أي de facto governor، أو الحاكم الانقلابيّ، تهدّد العيش المشترك؟ قبل ذلك، شُنّت حملة أخرى ضدّ النواب الذين طالبوا بإصدار قانون يرفع الحصانات كلّها، فأطلقوا عليهم ألقاباً قبيحة مثل “نوّاب العار” و”نوّاب النيترات”. هل هذه هي العدالة التي يكفلها القانون؟
الانتقاء والاستنساب لا يصنعان عدالة، ولا يُنتجان حقّاً أو حقيقة”، وهذه الفقرة لا تتطابق تماماً مع كلام البطريرك الراعي أخيراً
وبعد سيلان الدم في الطيّونة وعين الرمّانة، قيل كثيراً إنّ القانون يكفل للمعترضين من المدّعى عليهم تقديم دعاوى ردّ وارتياب مشروع، فلِمَ اللجوء إلى التظاهر والتلاعب بالسلم الأهليّ، ولِمَ التهديد لاحقاً باستخدام القوّة وعدّ البنادق؟ لكنّهم يُغفلون أنّه قبل الحادثة، كانوا يدعمون تظاهرات ضحايا المرفأ، بعدما زوّدوهم بعناوين محدّدة لشخصيّات معيّنة، فكأنّ هناك محاكمتين، واحدة في الشارع، وأخرى يرسم صورتها طارق البيطار في مكتبه، حتّى قبل الاستماع إلى إفادة المدّعى عليهم، ولمّا يصدر القرار الظنّيّ!
الأسوأ على الإطلاق، في هذا السياق، أنّه عندما لجأ النوّاب والوزراء السابقون إلى القنوات القانونيّة فقدّموا الدعاوى لتنحية البيطار، طلع الخطاب الإعلامي التحريضيّ بأوصاف مستجدّة لإجراءات قانونيّة معروفة، فظهرت عبارات مثل “الردّ الإجراميّ المرتكب بحقّ الشعب” لتصوير دعوى الردّ التي قدّمها النائب نهاد المشنوق، و”محاولة عرقلة العدالة وسير التحقيق”، لوصف دعاوى الارتياب المشروع. ولمّا ردّت الغرف القضائيّة التي أُحيلت إليها دعاوى الاعتراض دون غيرها، وذلك بسرعة لم يألفها القضاء الكسول عادةً، ومن دون اتّباع إجراءات التبليغ، طلعت عناوين من قبيل “انتصار البيطار مرّة بعد مرّة”. فهل هذا تحقيق قضائيّ جادّ أم مباراة رياضيّة ترفيهيّة؟
مقايضة تحقيق بتحقيق
هذا السياق برمّته، من تحريض، وتجاوز، واستثمار، شوّه التحقيق، ويكاد يُضيع الحقيقة، بل كنّا قبل أيّام على وشك الدخول في حرب أهليّة. أمّا محاولة المقايضة قضائيّاً وسياسيّاً بين تفجير المرفأ وأحداث الطيّونة – عين الرمّانة، فهي أحد الهواجس الرئيسة للبطريرك بشارة الراعي، وقد أعرب عنها صراحة يوم السبت الماضي. وذلك لِما تعنيه هذه المعادلة الافتراضيّة من التخلّي عمليّاً عن متابعة المسار القضائيّ للمجلس العدليّ ومحقّقه طارق البيطار في قضيّة انفجار المرفأ، ومعظم الضحايا مسيحيّون، مقابل إيقاف المسار التحقيقيّ في تظاهرة قصر العدل، والسائر راجحاً نحو اتّهام جهة مسيحيّة حزبيّة واحدة وتحميلها مسؤوليّة سقوط الضحايا، مع أنّ المجرى التفاعليّ للحادثة انطوى على مظاهر مسلّحة وقتال شوارع من طرفين متقابلين، والضحايا هنا مسلمون شيعة.
هذه المعادلة لو وجدت طريقها إلى التنفيذ بطريقة غير مباشرة طبعاً، فستكون بالضرورة نقيض العدالة. هي نفي لصلاحيّة القضاء، وسيادة القانون، ولمنطق الدولة، بل نكوص إلى ما قبل الدولة، إلى منطق العشائر والثأر والانتقام أو دفع الدِيّة وتقديم التنازلات المتبادلة (المقايضة بمعنى ما)، بما يحفظ السلام المجتمعيّ بين متنازعيْن مختلفيْن إلى حدّ الاستعداد لسفك الدم بينهما، في حين أنّ القوّة الذاتيّة لكلّ طرف هي ما يحفظ حقوقه ويضمن القِصاص لضحاياه، سواء أكان التعويض معنويّاً أو ماديّاً، وليس الدولة الكيان الجامع لكلّ مكوّنات المجتمع، الذي يتولّى حصراً تسوية المنازعات وفق القوانين، وتحصيل الحقوق العامّة والخاصّة.
إقرأ أيضاً: أعان الله البطريرك بشارة الراعي…
كي يكون القانون قانوناً واجب الالتزام، فضلاً عن صدوره عن جهة شرعيّة، فلا بدّ أن يكون شموليّاً في تطبيقه من دون تمييز، وهذا هو مصداق كلام الراعي: “إنّ الجميع تحت القانون حين يكون القانون فوق الجميع”. والنتيجة النظريّة والعمليّة هي أنّ: “القانون ليس فوق الجميع”. نحن في قانون الغابة، فلا تسأل عن عدالة.