انتهى الأسبوع الفائت بخطاب تحريضيّ مُفلس. وبدأ الأسبوع الحالي بخطاب تهديديّ متوجّس. الخطاب الأوّل ألقاه رئيس التيار الوطني الحرّ النائب جبران باسيل. وهو خطاب تحريضيّ كاذب ضدّ حزب القوات اللبنانية. إنّه خطاب الإفلاس السياسيّ في ذكرى الهزيمة. هزيمة مؤسّس التيّار العماد ميشال عون في 13 تشرين الأوّل 1990. الخطاب الثاني هو للسيّد حسن نصرالله. كان الجميع ينتظر أن يثير في كلمته (يوم الإثنين الفائت) قضيّة القاضي طارق البيطار، وأن يتّهم حزب القوات اللبنانية بافتعال أحداث الطيّونة. لكنّ المفاجئ كان كلامه التهديديّ بمئة ألف مقاتل ليس فقط للقوّات، وإنّما للمسيحيّين بل وللبنانيين كلّهم.
يؤكّد الخطابان وجود حملة منظّمة ضدّ القوّات يقودها التيار والحزب. وهي كانت قد بدأت بحملة إعلاميّة كبيرة بدأت بـ”خزّانات الصقر” وحدها دون غيرها من الخزّانات، ثمّ محاولة تركيب ملفّ “نيترات الصقر”. لماذا هذه الحملة ضدّ حزب القوّات ورئيسه، وفي هذا الوقت بالذات؟
تراجع شعبيّة التيار الوطني الحرّ على الساحة المسيحية لمصلحة حزب القوات اللبنانية والمجتمع المدني يُقلق حزب الله. فمنذ تفاهم مار مخايل 2006، وفّر زعيم التيّار ميشال عون الغطاء المسيحي للحزب
تهدف الاتّهامات الكاذبة، التي ساقها جبران باسيل ضدّ سمير جعجع، إلى “شيطنة” القوّات في بداية حملة انتخابية مفصليّة بالنسبة إليه، خاصّةً أنّه يطمح إلى أن يكون الرئيس المقبل للجمهورية الذي يفترض أن ينتخبه البرلمان الجديد. فهو يريد تحسين شعبيّته المسيحيّة بعدما تراجعت كثيراً بسبب فشل عهد الرئيس ميشال عون الذي يختصر بثلاث نقاط:
1- الفشل في تحقيق أيّ إصلاح أو تغيير. فقد وصل ميشال عون إلى قصر بعبدا رافعاً شعار “الإصلاح والتغيير”. وها هو العهد يُطفئ شمعته الخامسة من دون تحقيق أيّ شيء في الإصلاح، ولم يُغيِّر شيئاً في ذهنيّة الحكم والإدارة، لا بل أصبح العهد، من خلال “الصهر” وغيره، شريكاً مضارباً في الفساد. أضف إلى ذلك أنّ الحكومات في عهد ميشال عون لم تكتفِ بالاستمرار في سياسة المحاصصة والفساد، إنّما صمّت آذانها عن مطالبات المجتمع الدولي بإجراء الإصلاحات للحصول على أموال مؤتمر “سيدر”. ولو فعلت لَما وقع الانهيار الكبير، والسقوط في “جهنّم”.
2- الفشل في أن يكون “الرئيس الحَكَم”. فمنذ وصوله إلى بعبدا، أطلق فريق ميشال عون الاستشاريّ عليه لقب “بَيّ الكل”. فإذا به يختلف مع كلّ الأطراف السياسية، ومن بينها حزب الله. حتى إنّه اختلف مع أفراد عائلته. ولا شكّ أنّ وجود جبران باسيل بشكل لصيق به كان سبباً أساسيّاً. لكن في الأساس هناك شخصية ميشال عون الصداميّة والاستفزازيّة وشغفه بخوض معارك وهميّة.
3- الفشل في التعامل مع “حراك 17 تشرين”. في البداية أنكره الرئيس عون. طلب قمعه. اعتقد بأنّهم “مجموعة شلاعيط”. وعندما أدرك حجم الحراك، توجّه إليه بكلمة يمكن توصيفها بأنّها كانت فشلاً ذريعاً. فقد “ولّع” الشارع. وهذا أيضاً ليس بغريب. في ذاك الحديث التلفزيوني المباشر عادت وظهرت من جديد شخصيّة الجنرال عون الصداميّة والاستفزازيّة. وقد اشتهر من حديثه ذاك: “الي مش عاجبو يفلّ”. وكانت تلك الجملة إيذاناً بحملة تهجير قسري من لبنان.
أما جبران باسيل الذي راح ينبش ملفات الحرب، من قبرشمون ودمائها إلى محاولته دخول طرابلس، وغيرها… فقد ارتدّت عليه. لأنّ الجنرال عون كان طرفاً في تلك الحرب، وهو أيضاً مرتكب:
1) بحقّ المسيحيين: لأنّ حروبه قتلتهم ودمّرت مناطقهم وهجّرتهم، كما قتلت مدافعه الأطفال والأبرياء في بيروت الغربية والجبل.
2) بحقّ الجيش، إذ حوّل ألوية التي كانت بإمرته إلى ميليشيا خاض بها “حرب التحرير” العبثيّة وحرب الإلغاء المدمّرة، فقط من أجل انتخابه رئيساً للجمهورية.
3) بحقّ مستقبل المسيحيين في السلطة، لأنّ حروبه أضعفت موقف النواب المسيحيين على طاولة المفاوضات التي مهّدت لإقرار اتفاق في الطائف.
تهدف الاتّهامات الكاذبة، التي ساقها جبران باسيل ضدّ سمير جعجع، إلى “شيطنة” القوّات في بداية حملة انتخابية مفصليّة بالنسبة إليه، خاصّةً أنّه يطمح إلى أن يكون الرئيس المقبل للجمهورية
كلمة نصر الله
بالانتقال إلى خطاب السيّد حسن نصرالله، سنجد خلف لهجة التهديد والوعيد العالية النبرة وغير المسبوقة توجّساً ما. يمكن اختصار أسبابه في ثلاث نقاط أيضاً هي التالية:
1- وقوف أهل عين الرمّانة (المسيحيين) وردّهم بشكل عنيف ومسلّح على تعدّيات واستفزازات جمهور الثنائي الشيعي الذي اعتاد منذ عام 2008 أن يحتلّ العاصمة ويستفزّ جماعات في وسطها ويعتدي على معتصمين مدنيين من أنصار 17 تشرين من دون أن يردعه أحد. خاصّة أنّ أحداث الطيّونة سبقتها أحداث خلدة، حيث كانت ردّة فعل سنّيّة ضدّ الحزب وسقط له عناصر بين قتيل وجريح على أيدي عناصر العشاير العربية، انتقاماً لقتل مراهق قبل أعوام في المكان نفسه. وفي شويّا جنوباً، رفض أهالي البلدة الدروز أن يُطلق عناصر الحزب الصواريخ من بلدتهم على إسرائيل، وأوقفوهم مع راجمتهم في مشهد أعلن بداية زمن جديد في السياسة والأمن جنوب لبنان.
2- عودة الخطاب السياسي المعارض له في الداخل. فبعد انفراط عقد 14 آذار ارتاح حزب الله لعدم وجود معارضة متماسكة لسلاحه غير الشرعي. ومنذ انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية اطمأنّ إلى إحكام قبضته الحديدية على البلد من دون أيّ معارضة داخلية تُذكَر. لكن اليوم عاد الخطاب المعارض لسلاحه غير الشرعي وتبعيّته لإيران، محمّلاً إيّاه المسؤوليّة عن عزل لبنان عن محيطه العربي وعن العالم، خاصة في زمن الانهيار هذا. لا يصدر هذا الخطاب عن رئيس القوات فقط، إنّما أيضاً عن البطريرك الماروني بشارة الراعي الذي طالب بـ”الحياد” وبتصالح لبنان مع العرب والعالم. ويعلم حزب الله خطورة استمرار هذا الخطاب ضدّه، خاصة أنّه عايش معارضة البطريرك الراحل نصرالله صفير للوصاية السورية وثباته فيها حتى خروج الجيش السوري من لبنان. إضافة الى ذلك، انزعج الحزب من طرحَيْ “الحياد” و”المؤتمر الدولي”. رغم أنّ الطرحَين بعيدَيْ المنال، لكنّهما دخلا قاموس الأدبيّات السياسيّة اللبنانيّة.
3- تراجع شعبيّة التيار الوطني الحرّ على الساحة المسيحية لمصلحة حزب القوات اللبنانية والمجتمع المدني يُقلق حزب الله. فمنذ تفاهم مار مخايل 2006، وفّر زعيم التيّار ميشال عون الغطاء المسيحي للحزب. وهذا الغطاء كان مهمّاً جدّاً له بعد اغتيال رفيق الحريري و”الهجوم” الداخلي والخارجي ضدّ سلاحه. لذلك توجّه السيّد نصرالله إلى المسيحيين بالقول إنّ “أكبر تهديد للوجود المسيحي في لبنان وأمن المجتمع المسيحي هو حزب القوات”، آملاً تحسين شعبيّة جبران باسيل في الوسط المسيحي.
إقرأ أيضاً: نصرالله وجعجع يتّفقان على “تحجيم” باسيل!
إنّ خطاب السيّد التهديديّ للقوات ورئيسها هو تهديد للمسيحيين ولمرجعيّاتهم الدينية أيضاً. يبدو أنّه لا يعلم أو نسِي أنّ الكنيسة المارونية، القائدة للمسيحيين في لبنان، هي كنيسة مقاوِمة منذ مئات السنين، ويرفض أبناؤها الذمّيّة والحماية من أحد سوى القوى الشرعية اللبنانية، وأنّ بطاركتها وأساقفتها قاوموا عدّة احتلالات، وأنّ الجبهة اللبنانية أُسِّست في جامعة الكسليك التابعة للرهبانية اللبنانية المارونية، وكان الرئيس العامّ للرهبانيّة عضواً فيها، وأنّ حزب القوات اللبنانية هو الذي يجسّد اليوم روح المقاومة هذه. لذلك أتت نتيجة التهديد عكس ما أراد. فالمئة ألف مقاتل لا يُخيفون المسيحيّين، والهجوم على حزب القوات ورئيسه لن يؤثّر على شعبيّته. بل ربّما ستزيد.
* أستاذ في الجامعة اللبنانيّة