بدأ تنظيم داعش الحرب على طالبان، فيما ينتظر تنظيم القاعدة إشارة الحركة. على المستوى الفكري، القاعدة أقرب إلى داعش، وعلى المستوى السياسي القاعدة أقرب إلى طالبان. إنّها قصة طويلة ومعقّدة، وهذه قراءة في بحر الظلمات.
ديوبند.. احفظ هذا الاسم جيّداً
في شمال الهند تقع قرية “ديوبند” التي لم يسمع بها أحد. في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بدأت القرية رحلة الشهرة الواسعة في آسيا والعالم، بعدما استطاع مدرِّس واحد، لديه طالب واحد، أن يبدأ الطريق نحو انطلاق أكبر جامعة دينية في شبه القارّة الهندية.
بدأ تنظيم داعش الحرب على طالبان، فيما ينتظر تنظيم القاعدة إشارة الحركة. على المستوى الفكري، القاعدة أقرب إلى داعش، وعلى المستوى السياسي القاعدة أقرب إلى طالبان. إنّها قصة طويلة ومعقّدة، وهذه قراءة في بحر الظلمات
في القرن العشرين أصبحت “جامعة دار العلوم الإسلامية – ديوبند” ذات صيت واسع، ولمّا استقلّت باكستان عن الهند عام 1947، أُسِّست “جمعيّة علماء الإسلام” الباكستانية على منهج المدرسة الديوبندية، ثمّ انقسمت الجمعية إلى “جمعية علماء الإسلام – مجموعة فضل الرحمن”، و”جمعية علماء الإسلام – مجموعة سميع الحقّ”.
في عام 1977، وصل الجنرال محمد ضياء الحق إلى السلطة في باكستان، وفي عام 1979 قام الاتحاد السوفياتي بغزو أفغانستان، وخشي نظام الرئيس ضياء الحقّ أن تقوم موسكو بغزو إقليم “بلوشستان” الباكستاني على بحر العرب. وإزاء تصاعد الأفكار الشيوعية في هذا الإقليم، قام ضياء الحقّ بدعم الحركة الإسلامية لتعزيز المواجهة مع الاتحاد السوفياتي.
في تلك الأثناء لم تنضمّ “جمعية علماء الإسلام – مجموعة فضل الرحمن” إلى التحالف مع الجنرال ضياء الحقّ، فيما تحالفت معه مجموعة سميع الحق. وهنا زادت شهرة ومكانة “المدرسة الحقّانيّة” التي تنتمي إلى منهج وفكر “المدرسة الديوبندية”.
طالبان ليست سلفيّة
انتشرت المدارس الحقّانيّة في منطقة بيشاور الباكستانية الواقعة على حدود أفغانستان، وعلى الرغم من أنّ “الديوبندية” تتبع المذهب الحنفيّ في الفقه، والمذهب الأشعريّ في العقيدة، وينتمي كثيرون فيها إلى التصوّف، فإنّ تلك الحقبة شهدت تسلُّل المذهب السلفيّ إلى بيشاور، ومنه إلى أفغانستان.
لم تكن أفغانستان تعرف السلفيّة من قبل، ذلك أنّ الحنفيّة والأشعريّة هما عماد الفقه والعقيدة في البلاد. وقد جاءت حركة طالبان من المدارس الحقّانيّة في مناطق البشتون الباكستانية. وفي تجربة حكمهم الأولى (1996 – 2001)، انتشرت المدارس الديوبندية “الحنفيّة – الأشعريّة” في أفغانستان.
طبقاً للتقاليد الديوبندية يُطلَق على الطلاب، الذين يدرسون العلوم الدينية، اسم “طالبان”، ويُطلَق اسم “الملّا” على مَن قطع شوطاً في التعليم الديني، أو انتقل منه إلى الجهاد. وأمّا “المولوي” فهو من حصل على درجة علميّة شرعيّة، بعد إتمام التعليم الدينيّ.
كان أمير طالبان الأوّل “الملّا محمد عمر”، الذي قاد الحركة من عام 1994 حتى عام 2013، طالباً في العلوم الشرعية. وكان أميرها الثاني “الملّا أختر منصور”، الذي قاد الحركة من عام 2013 حتى عام 2016، طالباً أيضاً. وأمّا الأمير الثالث فكان بدرجة “مولوي”، وهو “المولوي هبة الله أخونه زاده” الذي أنهى دراسته، ثمّ قاد الحركة عام 2016، وفي عهده سيطرت الحركة مرّة أخرى على أفغانستان عام 2021.
يحوز “المولوي أخونه زاده” مكانة دينية كبيرة، ويحوز رئيس المكتب السياسي لطالبان “الملّا عبد الغني بردار” مكانة سياسية أكبر، ويُعدّ “الطالب الثالث” الذي يقود السلطة السياسية في الحركة.
أمراء الحرب
على وجه العموم، كان طلاب المدارس “الحقّانيّة – الديوبنديّة” هم مَن أسّسوا وقادوا حركة طالبان. ويروي السفير عبد السلام ضعيف، آخر سفير لأفغانستان في باكستان في نهاية عهد طالبان 2001، في كتابه “حياتي مع طالبان”، الذي يتضمّن مذكّراته السياسية، أنّ السبب الأوّل في اتّجاه طلاب المدارس الدينية إلى العمل العسكري هو مواجهة عصابات الجريمة التي سادت البلاد في أعقاب الخروج السوفياتي، واندلاع حرب المجاهدين ضدّ المجاهدين.
ويذكر عبد السلام ضعيف أنّ البلاد كانت مقسَّمة إلى آلاف القطع الصغيرة، فكانت الحواجز في كلّ مكان، وكانت بعض المناطق لا تتجاوز السيطرة فيها مساحة كيلومتر واحد فقط!
وقد اجتمع 33 طالباً، وقرّروا مواجهة العصابات التي باتت تقطع الطريق، وتنهب الأموال، وتخطف النساء والأطفال. ثمّ كان الاجتماع التأسيسي الذي حضره 40 طالباً أقسموا على السمع والطاعة، ومحاربة العصابات، أمام قائدهم الملّا عمر.
انهالت التبرّعات على الحركة، بحسب ضعيف، وبينما أطلق رجال العصابات عليها اسم “أصحاب العمائم المتوحّشون”، أطلق عليهم الإعلام الغربي اسم “حركة طالبان”. وقد نجحت الحركة في السيطرة على 90% من البلاد، فيما سيطر “تحالف الشمال” بقيادة أحمد شاه مسعود على 10% منها.
أوهام وحدة البشتون
ينتمي كلّ قادة طالبان إلى قوميّة البشتون، وتنتمي الأسرة المالكة الأفغانية السابقة، والرئيس الشيوعي نجيب الله، والرئيسان في ظلّ الاحتلال الأميركي حامد كرزاي وأشرف غني، جميعهم إلى قبائل البشتون.
يمثِّل البشتون نحو 40% من سكّان أفغانستان، وهي أكبر قوميّة في البلاد، وهم يمثّلون في باكستان ثاني أكبر قوميّة بعد البنجابيّين.
يرى “القوميّون البشتون” أنّه يجب عدم الاستسلام للحدود الفاصلة بين قبائل البشتون في أفغانستان وباكستان، ويتحدّث بعضهم عن ضرورة تأسيس “البشتون الكبرى”.
كانت بريطانيا قد رسمت خطّ الحدود المسمّى “خطّ دوراند”، الذي تمّ بموجبه ضمّ إقليم بلوشستان الأفغاني إلى باكستان، وهو الإقليم الذي كان يمثّل إطلالة أفغانستان على بحر العرب.
أصبحت أفغانستان دولة حبيسة، وانقسم البشتون في دولتين. وفي عام 1947، رفضت أفغانستان الاعتراف باستقلال باكستان، وكانت هي الدولة الوحيدة في العالم التي عارضت انضمام باكستان إلى الأمم المتّحدة، وقامت بالتصويت ضدّه.
حسب “الموسوعة البريطانية”، يزيد عدد البشتون في باكستان على ضعف عدد البشتون في أفغانستان. وفي مدينة مثل كراتشي الباكستانية يقارب عدد البشتون مليونيْ نسمة. وتُعدّ مدينة “قندهار” في أفغانستان، ومدينة “بيشاور” في باكستان، أكبر معاقل الوجود البشتونيّ.
في عام 2020، شهدت باكستان تظاهرات جرت تسميتها “مسيرة وحدة البشتون”. وقد ألقت السلطات الباكستانية القبض على العديد من قادتها، لأنّها حركة انفصالية تعمل ضدّ وحدة باكستان.
الطاغوت الملتحي
كانت وحدة الانتماء العرقي والديني والمذهبي إلى قبائل البشتون في أفغانستان وباكستان، وراء نجاح الحرب الأفغانية ضدّ الاتحاد السوفياتي. لكنّ الأفغان العرب كانوا قد جاؤوا بأفكار جديدة، وسرعان ما ظهر الخلاف الشرعي بين المدرسة الديوبنديّة وامتداداتها في المدارس الحقّانيّة، وبين المدرسة السلفيّة التي جاءت بها القاعدة، ثمّ داعش.
في كتابه “أفغانستان وطالبان ومعركة الإسلام” يوجّه “أبو مصعب السوري”، أحد أبرز منظّري تنظيم القاعدة، انتقادات عديدة لحركة طالبان: فالحركة، برأيه، متعصِّبة للمذهب الحنفيّ، والصوفيّة منتشرة بين أعضائها، ويقول كثير من شخصيّاتها الدينية بتفسيق وتبديع أبي الأعلى المودودي وسيّد قطب وحسن البنّا. ثمّ إنَّ الحركة تؤمن بالنظام العالمي والأمم المتحدة، وهو ما لا يستقيم مع صحيح الدين.
يرى تنظيم داعش أنّ حركة طالبان هي حركة مرتدّة. ولمّا دخلت الحركة كابول في صيف 2021، قال التنظيم إنّ “أميركا صنعت الملالي لضرب الحركة الجهاديّة العالمية، وما حدث هو أنّ “الطاغوت الملتحي” حلّ محلّ “الطاغوت الحليق”.
الوصايا العشرون
لم يكن الصراع بين طالبان وداعش غريباً، لكنّ انتقادات القاعدة لطالبان كانت هي الأكثر إثارةً، ولقد وصل الأمر إلى أن هاجم قادة القاعدة قادة آخرين من القاعدة، لتنشأ معادلة جديدة: القاعدة ضدّ القاعدة.
كان “سليمان أبو غيث” و”مصطفى حامد” و”أبو حفص الموريتاني” من قادة القاعدة الذين هاجموها، وانتقدوا زعيمها أسامة بن لادن.
نشر “سليمان أبو غيث” كتاباً بعنوان “الوصايا العشرون”. ونشر مصطفى حامد كتاباً بعنوان “صليب فوق سماء قندهار”، وكتب أبو حفص الموريتاني مقدّمة لكتاب “سليمان أبو غيث”.
عمل “سليمان أبو غيث”، وهو صهر أسامة بن لادن، متحدّثاً رسميّاً باسم تنظيم القاعدة، وكان الأعلى صوتاً في وقت الشهرة العالمية للتنظيم. كان “أبو غيث” هو مَن أعلن في ربيع 2002 مسؤوليّة القاعدة عن هجمات 11 أيلول 2001، وحذَّر من هجمات أخرى قبل اعتقاله في ذلك العام، ثمّ حُكِم عليه بالسجن المؤبّد. وفي المحاكمة تراجع “أبو غيث”، وقال إنّه لا يعرف شيئاً عن هجمات 11 أيلول، وإنّه كان يقرأ ما يأتيه من التنظيم.
اتّهمَ “أبو غيث” في كتابه أسامة بن لادن بالغرور والاستبداد، وعدم القدرة على القيادة، والفشل في اتّخاذ القرارات المصيريّة الصحيحة. حسب كتاب أبو غيث، فإنّ 9 من 11 عضواً في قيادة القاعدة ممّن يمثّلون “مجلس الشورى” العالمي، قد رفضوا القيام بهجمات 11 أيلول، وإنّ الملّا عمر رفض ذلك، وكان رأيه أنّ مثل هذا الهجوم سيقود إلى الغزو الأميركي لأفغانستان، لكنّ أسامة بن لادن “المغرور” رأى غير ذلك، وقد أدَّت قراراته الكارثيّة إلى إضاعة الجميع.
يرى تنظيم داعش أنّ حركة طالبان هي حركة مرتدّة. ولمّا دخلت الحركة كابول في صيف 2021، قال التنظيم إنّ “أميركا صنعت الملالي لضرب الحركة الجهاديّة العالمية، وما حدث هو أنّ “الطاغوت الملتحي” حلّ محلّ “الطاغوت الحليق”
تأشيرة الدخول وعهد الأوهام
تجاوز كتاب “صليب فوق سماء قندهار”، لمستشار أسامة بن لادن “مصطفى حامد” أو “أبي الوليد المصري”، الهجوم على ابن لادن إلى السخرية منه. حسب “مصطفى حامد”، فإنّ ابن لادن قد طار فرحاً من الجماهير الغوغائيّة، التي حملت صورته التي طبعها على نفقته الخاصّة في باكستان.
كان ابن لادن، برأي حامد، لا يملك مشروعاً، بل ما يريده هو الإعلام. ومن أجل شهوة الشهرة، قاد القاعدة وطالبان نحو حرب غير متكافئة أدّت إلى انهيار الجميع.
وفي مقدّمته لكتاب مصطفى حامد يقول “محفوظ ولد الوالد”، مفتي تنظيم القاعدة، والمعروف باسم أبي حفص الموريتاني، إنّ “الذين قاموا بتنظيم هجمات 11 أيلول قد اقترفوا مخالفة شرعيّة، لأنّهم خالفوا عهد الأمان الممنوح لهم من قبل الولايات المتحدة، وعهد الأمان شرعاً هو تأشيرة الدخول للبلاد”.
ثمّ هاجم مفتي القاعدة زعيم القاعدة، وقال إنّ “أسامة بن لادن قد جلب الشقاء على التنظيم والعالم أجمع بطائراته الانتحاريّة”.
هكذا أُسِّست “الديوبنديّة”، ومنها جاءت “الحقّانيّة”، ومنها جاءت “طالبان”. ولمّا وصل السلفيّون العرب لم يفصحوا عن خلافاتهم مع الأحناف البشتون في أفغانستان وباكستان، حتى صار لهم التمكين الموازي. ولمّا تمَّ لهم ما أرادوا، بدأوا ينتقدون الأحناف والأشاعرة، ويطعنون في الفقه والعقيدة.
إقرأ أيضاً: أفغانستان: طالبان قوّة جاذبة لمسلمي الصين وروسيا..
ثمّ كان صراع القاعدة والقاعدة، وهو ليس انشقاقاً للبعض في الصفوف الدنيا، بل هو محاولة انقلاب سياسي قاده صهر الزعيم، ومستشار الزعيم، ومفتي الزعيم.
حمقى يصارعون حمقى، وكلّ جماعة تلعن أختها. ظلمات بعضها فوق بعض، ومن وراء ذلك كلّه ترسم الأيدي الخارجيّة خريطة الظلام، ومسارات الدماء.
* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً لرئيس الجمهورية المصرية السابق عدلي منصور..
له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.
عضو مجلس جامعتيْ طنطا ومطروح، وعضو مجلس كليّة الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.