لم تكن الصّفعة التي تلقّاها محافظ أذربيجان الشّرقيّة في إيران على رقبته من عقيدٍ في لواء “عاشوراء” في الحرس الثّوريّ، في مقطع الفيديو الذي انتشر عبر وسائل التّواصل الاجتماعيّ، إلّا نموذجاً مُصغّراً عن التّعاطي الإيرانيّ مع الدّاخل، فكيف مع دول المنطقة وأميركا؟
هو السّلوك الذي ترفضُ إيران رفضاً قاطعاً المساس به في أيّ مفاوضات نوويّة. وهو السّلوك الذي خرجَت به من أرضها نحو المشرق العربيّ. وهو السّلوك الذي تعتقدُ إدارة الرّئيس الأميركيّ جو بايدن عبثاً أنّها تستطيع تغييره بالإغراءات المادّيّة.
دأبَت إيران خلال الأسابيع الأخيرة على إرسال صفعاتٍ، من لبنان إلى اليَمن مروراً بالعراق، أكّدت خلالها أنّها غير معنيّة بمُناقشة سلوكها العدواني في أيّ بقعة من المشرق العربي، وفي أيّ جلسةٍ مُحتملة من المفاوضات النّوويّة في العاصمة النّمساويّة فيينا
هذا هو فحوى سياسة التفاوض الاستباقي الذي تمارسه إيران، بتأكيد أن أذرعها العسكرية وجيوشها في الدول العربية ليست محل نقاش، بل هي التي تفرض النقاش وإيقاع التفاوض.
فقد دأبَت إيران خلال الأسابيع الأخيرة على إرسال صفعاتٍ، من لبنان إلى اليَمن مروراً بالعراق، أكّدت خلالها أنّها غير معنيّة بمُناقشة سلوكها العدواني في أيّ بقعة من المشرق العربي، وفي أيّ جلسةٍ مُحتملة من المفاوضات النّوويّة في العاصمة النّمساويّة فيينا.
1- نبدأ من لبنان، حيث كانَ الأمين العامّ لحزبِ الله السيّد حسن نصرالله يُطلِقُ رسالةً من الضّاحية الجنوبيّة لبيروت وصلَ صداها إلى العواصم الأوروبيّة، وبطبيعة الحال إلى عاصمة القرار واشنطن: 100 ألفِ مُقاتلٍ أعلَنَ الأمين العامّ لفيلق حزب الله بالحرس الثّوريّ الإيرانيّ أنّهم جاهزون للانقضاض على الدّاخل اللبنانيّ، وربّما أبعد، متى دعت الحاجة. لم تكُن رسالةُ نصرالله داخليّة أكثر ممّا هي للخارج، إذ جاءَت بعد أسابيع قليلة من قوافل المازوت الإيرانيّ العابرة للحدود تحت عنوان “كسر الحصار الأميركيّ”.
تكمُن الرّسالة الواضحة في كلام نصرالله، التي لم يقف عندها أكثر المُتابعين، في قوله: “هذا بدون الحُلفاء من اللبنانيين وغير اللبنانيين”.
2- أمّا في سوريا، وتزامناً مع إعلان نصرالله عن عددِ مقاتليه، كانَت طائرات مُسيّرة وصواريخ إيرانيّة الصّنع تستهدف للمرّة الأولى قاعدة التّنف الأميركيّة على مُثلّث الحدود السّوريّة – الأردنيّة – العراقيّة. ويأتي هذا الاستهداف بعد أيّامٍ قليلة من غارة إسرائيليّة قصفت برج اتصالات إيرانيّاً في مطار الـT4 قُرب مدينة تدمر بالبادية السّوريّة، وذلك انطلاقاً من أجواء التّنف.
أكّدت مصادر أميركيّة مطّلعة لـ”أساس” أنّ مُحادثات روبرت مالي تركّزت على إمكانيّة الوصول إلى وقفٍ لإطلاق النّار في اليمن، و”تجميد مفاعيل الورقة اليمنيّة في يد إيران”، على حدّ وصف المصدر
يجدُرُ التّوقّف مليّاً عند استهداف قاعدة التّنف، وقراءة ما يحملُ هذا الهجوم من رسائل “ثقيلة” لـ”مَن يعنيهم الأمر في فيينا”:
الأولى: تُحاول إيران عبر هجومها على التّنف القول للأميركيين إنّها باقية في سوريا ولن تخرجَ منها، وإنّها تمتلك الكلمة الأولى والأخيرة على الأرض في الجنوب والشّرق السّورييْن. وحاولت طهران أيضاً أن تُرسِّخَ معادلة جديدة عنوانها: “أيّ قصفٍ جويّ إسرائيليّ من أجواءٍ أميركيّة سيُقابله استهداف القواعد الأميركيّة”.
الثّانية: من المعلوم أنّ قاعدة التّنف محميّة بغطاء من الدفاعٍ البريٍّ – الجويٍّ الأميركيّ الذي يمتدّ إلى مسافة 30 كلم في عمق الأراضي السّوريّة. وتكمن الرّسالة هنا في المدى الذي قطعته الطّائرات المُسيّرة من دون أن تكتشفها الدّفاعات الجوّيّة الأميركيّة ولا الإسرائيليّة المتمركزة في الجولان. فكأنّ إيران كانت تقول إنّ مسافة 30 كلم نحو التّنف، هي نفسها العمق الإسرائيليّ إذا ما قيسَ من الحدود السّوريّة – الفلسطينيّة.
الثّالثة: يجدُر التّوقّف عند الإدانة الرّوسيّة للغارة الإسرائيليّة التي استهدفت مطار الـT4. إذ لم يكن من الممكن أن تستهدف إيران قاعدة التّنف، المعلوم أنّها خطٌّ أحمر أميركيٌّ، من دون موافقة ضمنيّة روسيّة. وهنا كانت الرّسالة الإيرانيّة – الرّوسيّة المُزدوجة: نتّفق في سوريا وصولاً إلى فيينا.
تتزامن الموافقة الرّوسيّة الضّمنيّة لإيران، بعد قمّة جمعت الرّئيس الرّوسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت في سوتشي الجمعة الماضي، تقرّرَ خلالها “إبقاء السّياسة الرّوسية على ما هي عليه تجاه الغارات الإسرائيليّة التي تستهدف إيران في سوريا”، بحسب ما نقلت وسائل إعلام إسرائيليّة عن وزير الإسكان الإسرائيلي زئيف إلكين الذي شارك في المحادثات بين الرّئيسيْن.
القرار الرّوسيّ هو استكمالٌ لسياسة روسيا بإبقاء إيران في سوريا، لكن ضمن حدود منطق الكرملين. بكلمات أخرى، تستكمل تل أبيب سياسة استهداف إيران في سوريا بعد التنسيق مع الجانب الرّوسي لتفادي أيّ صدامٍ مُحتمل بين الجانبيْن.
الرّابعة: أكّدت إيران من التّنف أنّ أيّ هجوم يستهدف مواقفها سيُقابله ردّ من كلّ الميليشيات الموالية لها. وتجلّت هذه المُعادلة في البيان الذي توعّد بالرّدّ بعد الغارة الإسرائيليّة على البرج الإيرانيّ وحمَل توقيع “غرفة عمليّات حُلفاء سوريا”. ومن المعلوم أنّ هذه “الغرفة” تضمّ إلى جانب إيران كلّ الفصائل اللبنانيّة والعراقيّة والأفغانيّة والسّوريّة الموالية للحرس الثّوريّ.
وهذه الرّسالة هي ردٌّ على إعلان الحكومة الإسرائيليّة قبل أيّام عن إقرار موازنة عسكريّة لتنفيذ ضربات عسكريّة تهدف إلى تعطيل البرنامج النّوويّ الإيرانيّ.
أكّدت إيران من التّنف أنّ أيّ هجوم يستهدف مواقفها سيُقابله ردّ من كلّ الميليشيات الموالية لها. وتجلّت هذه المُعادلة في البيان الذي توعّد بالرّدّ بعد الغارة الإسرائيليّة على البرج الإيرانيّ وحمَل توقيع “غرفة عمليّات حُلفاء سوريا”
أميركا تتلقّف الصّفعات
بدورها، كانت الولايات المُتّحدة تتلقّف الرسائل المُنطلقة من لبنان وسوريا. فسارَع مبعوثها الخاصّ إلى إيران روبرت مالي إلى زيارة المنطقة والدّول الأوروبيّة المعنيّة، وعقد اجتماعاتٍ في المملكة العربيّة السّعوديّة وقطر والإمارات والعراق وفرنسا والمملكة المُتّحدة.
في هذا الإطار، أكّدت مصادر أميركيّة مطّلعة لـ”أساس” أنّ مُحادثات روبرت مالي تركّزت على إمكانيّة الوصول إلى وقفٍ لإطلاق النّار في اليمن، و”تجميد مفاعيل الورقة اليمنيّة في يد إيران”، على حدّ وصف المصدر. وأكّد للمسؤولين الخليجيّين أنّ بلاده ستواصل التّنسيق معهم بشأن الملفّ النوويّ، وأنّ أخطاء اتفاق 2015 لن تتكرّر.
وعلى الرّغم من تصريحاته أنّ بلاده قد تلجأ إلى “خيارات أخرى” في التّعامل مع إيران، إلّا أنّه أكّد في الرّياض والدّوحة وأبو ظبي وبغداد أنّ واشنطن لا تزال تُفضّل النّهج الدّبلوماسيّ في التعاطي مع الملفّ النّوويّ، وأنّها لا ترغَب في تصعيد الوضع العسكريّ والأمنيّ في المنطقة.
هذا ويعقد مالي بعد ظهر اليوم الإثنين، إيجازاً صحافيّاً يستعرض فيه جولته الخليجيّة وآخر مُستجدّات الملفّ النّوويّ.
أمّا في جولته الأوروبيّة فقد نجح مالي في الضغط على فرنسا والمملكة المُتّحدة لإلغاء الاجتماع الأوروبيّ – الإيرانيّ الذي كان مُزمعاً عقده الخميس الماضي. وقال مصدرٌ أميركيّ مُقرّب من مالي إنّ الولايات المُتّحدة أدركَت أنّ طهران تُحاول الاستفراد بـ”الشّركاء الأوروبيين” للضّغط على الولايات المُتحدة. وأكّدَ أنّ إيران تعلمُ جيّداً كيف تبتزّ الأوروبيّين، وخصوصاً فرنسا، من أجل تحقيق مصلحتها. وكشفَ أنّ مالي طلبَ من الفرنسيين “التريّث” وعدم محاورة إيران من دون الولايات المُتّحدة، إذ إنّ المكاسب التي ستحصّلها باريس في حال الوصول إلى اتفاقٍ آتيةٌ لا محالة، ولا يجدر التّصرّف بشكلٍ أُحاديّ مع إيران التي يقف إلى جانبها الرّوس والصّينيّون.
إقرأ أيضاً: خاصّ أساس: 300 ألف مقاتل… وليس 100 ألف
صفعاتٌ تريد إيران عبرها تحسين شروطها، والتأكيد أنّ الاتفاق النّوويّ ينبغي أن يبقى في إطاره.
الأكيد أنّ إيران سجّلت أخيراً تقدّماً في موقفها عبر استمالة فرنسا إلى صفّها بصفقات النّفط في العراق وتشكيل حكومة في لبنان. وإلى حين عقدِ جلسةٍ جديدة في فيينا – يبدو أنّها لن تكون في القريب العاجل – تتلفّت واشنطن “من أيّ جهة ستوجِّه طهران الصّفعات”.
[VIDEO]