رسّخت مدرسة فؤاد شهاب مفهوم المؤسسات والدولة القويّة في لبنان. لكنّ الأثر الأكبر الذي تركته هذه المدرسة كان في العقل المسيحيّ، الذي يعتبر أنّ مفهوم الدولة وحده هو الضمانة لوجوده وبقائه في هذه البلاد.
مَن مِن القوى السياسية المسيحيّة ينجح اليوم في توفير مقوّمات الدولة للمسيحيّين؟ هل معادلات القوّة تخيفهم أم تحميهم؟ وهل تطمئنهم التفاهمات، وإن كانت غير مكتملة؟ هل لديهم خيارات أخرى غير القوى السياسية التقليدية؟ وإلى أي مدى أثبت المجتمع المدني نفسه عبر مجموعاته في الوسط المسيحي؟
تكثر الأسئلة عن تقلّبات الشارع والمزاج، ولا سيّما قبل أشهر من موعد الانتخابات النيابية التي يقف أمامها لبنان على مفترق طرق، بحيث قد تحدِّد هويّةُ صاحب الأكثريّة النيابيّة المقبلة مصير لبنان.
على الساحة المسيحية، تبدو هذه المعادلة غير دقيقة. إذ إنّ أكثر ما يعني العقل المسيحي في عمق وجوده وبقائه في هذه البلاد هو المحافظة على مفهوم الدولة. وعليه، بدت هذه المعادلة خارجة عن هذا المفهوم بشقّيها
أصبح من المعلوم أنّ وقائع حادثة الطيّونة – عين الرمّانة رسمت مساراً جديداً في المشهد السياسي بكلّ ما فيه من تعقيدات، وأيقظت اصطفافاً كان سبق أن غاب عن المشهد لسنوات طويلة كانت خلالها التفاهمات السياسية هي تفاهمات طائفية. أمّا اليوم فيعود النقاش إلى أصل هذه التفاهمات: هل لا تزال تؤدّي غرضها في ما يسمّى “صيانة العيش الواحد”؟ أم أنّ الانقسام المسيحي – المسلم أيقظ ذكريات الحروب الأهلية، مع تحوّل الاشتباك السياسي إلى اشتباك مسلّح؟
في الواقع لا تبدو خيارات المجموعات الطائفية واسعة. إذ لكلّ طائفة حزب أو اثنان، بالإضافة إلى زعامات مناطقية إقطاعية. وعند المسيحيّين المعادلات أصبحت شبه واضحة.
قالها رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل في خطابه الأخير: إنّ اللبنانيين، وتحديداً المسيحيين، أمام معادلة “مشهد تفاهم مار مخايل أو مشهد أحداث الطيّونة – عين الرمّانة”. بعد جملة مواقف عالية السقف وجّهها إلى الحلفاء والخصوم، ليخلص إلى هذه المعادلة.
في الواقع على الساحة المسيحية، تبدو هذه المعادلة غير دقيقة. إذ إنّ أكثر ما يعني العقل المسيحي في عمق وجوده وبقائه في هذه البلاد هو المحافظة على مفهوم الدولة. وعليه، بدت هذه المعادلة خارجة عن هذا المفهوم بشقّيها.
– الأوّل في ورقة تفاهم مار مخايل بين حزب الله والتيار الوطني الحرّ العام 2006، التي فشلت في إرساء مفهوم الدولة. وهذا ما اعترف به باسيل نفسه أكثر من مرّة.
– والثاني المرتبط بالأحداث الأمنيّة في الطيّونة وعين الرمّانة، هو أيضاً لا يقارب مفهوم الدولة بشيء. بل يجنح نحو تعميم حالة الميليشيا ونسخ تجربة الحزب بدلاً من نقدها ودعوتها إلى حضن الدولة.
لذلك بدا الخطاب تائهاً بين العناوين المتناقضة التي لا يلبّي أيٌّ منها مفهوم المواطنة.
جعجع وباسيل، الخصمان اللدودان في الساحة المسيحية، يحتاج كلٌّ منهما إلى الآخر. يلعب باسيل على وتر “تاريخ القوات اللبنانية الملطّخ بالدماء”، وجعجع يلعب على وتر “ابتلاع حزب الله التيّار الوطني الحر، وضعف التيّار في موازين القوى مع الحزب”
أمّا معادلة “القوّة مقابل القوة” التي أرستها مواجهة حزب الله مع القوات اللبنانية في السياسة والأمن، فقد استعادت عصبيّة مسيحية غابت أخيراً لمصلحة المنطقة الرماديّة المتمثّلة بـ”المجتمع المدني”. غير أنّ رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع لا يزال في وجدان شريحة كبيرة من البيئة المسيحية “مسؤولاً عن مجازر اُرتُكبت بين المسحيين أنفسهم”. ولذلك، وعلى الرغم من نجاحه في تثبيت ميزان قوّة فَشِل التيار في التأسيس له مع حزب الله، إلا أنّه لا يمثّل مفهوم “الدولة” بعمق مؤسّساتها عند المسيحيين.
بل في الواقع، جعجع وباسيل، الخصمان اللدودان في الساحة المسيحية، يحتاج كلٌّ منهما إلى الآخر. يلعب باسيل على وتر “تاريخ القوات اللبنانية الملطّخ بالدماء”، وجعجع يلعب على وتر “ابتلاع حزب الله التيّار الوطني الحر، وضعف التيّار في موازين القوى مع الحزب”. كلٌّ له جمهوره مع رصد حركة انتقالات واضحة من الأحزاب التقليديّة باتجاه أجواء المجتمع المدني.
فهل يجيب المجتمع المدني على هواجس المسيحيين؟
أصبح معلوماً حجم الدعم الذي تحصل عليه مجموعات المجتمع المدني، وتحديداً في البيئة المسيحية. وأصبح معلوماً أنّ الحركة الدبلوماسية الغربية، وتحديداً الفرنسية والأميركية، تركّز على لقاءات مع مَن تعتبرهم ممثّلين عن هذه المجموعات المدنية. غير أنّ الواقع على الأرض لا يزال حتى الساعة مغايراً لمبتغى محبّي ومشجّعي تبلور فكرة هذه المجموعات في الحياة السياسية اللبنانية. إذ إنّ عناوين هذه المجموعات لم تُثبِت نجاحها في استقطاب الرأي العامّ، ولا ثقة حتى الساعة بقدرة الشخصيّات الجديدة على قيادة عملية بناء مفهوم الدولة، ولا سيّما أنّها شخصيّات، أو بعضها على الأقلّ، معروفة في بيئتها، بين قدامى عائلات الإقطاع، ورجال الأعمال، وما شابهها من نماذج طالما كانت حليفة وراعية للقوى التقليدية.
أمّا المجموعات، التي تبلورت منذ ثورة 17 تشرين، فهي حتّى الساعة غير موحّدة، بل تائهة بين عناوين مطلبيّة وأخرى سياسية، من دون أن تُبلوِر مشروعاً سياسياً واضحاً؟ ولم تجب عن أسئلة كبيرة، مثل: هل تريد مواجهة حزب الله بما يمثّله من مفهوم مناقض للدولة؟ أم تهادن الحزب في سبيل تقاسم الأدوار معه في المرحلة المقبلة؟ وهي أسئلة جوهرية لا تزال عالقة، ولا أجوبة عليها أمام الرأي العامّ. لذلك يبدو مشروع المجتمع المدني “تائهاً” حتى اللحظة.
يبقى الخيار الوحيد المتاح أمام اللبنانيين عموماً، والمسيحيين خصوصاً، على اعتبارهم موضوع مقاربتنا، هو خيار الهجرة. فمن يجد إلى الهجرة سبيلاً لم يتوانَ عن سلوكه. أمّا من لا يجد إليها سبيلاً، فلا خيار أمامه سوى القتال ليحيا بكرامة بعيداً عن ذلّ تهديده بوجوده.
إقرأ أيضاً: المسيحيون كلّهم: وقت الخطر… “قوّات”
وفي الخلاصة، بين مار مخايل والطيونة، يختار المسيحيون الهجرة. وهم باتوا يعرفون أنّ “الطيونة” واحدة من ثمار “مار مخايل”، باعتبار أنّ منطق “الحماية” الذي قدّمه حزب الله وشرب منه التيار العوني طويلاً، واستفادت منه النخب العونية وكذلك القواعد، ما عاد قابلاً للحياة، مع انتشار الفقر والعوَز بين المسيحيين، مثل كل اللبنانيين. وبالتالي، فإنّه لا خيار بين مار مخايل والطيونة، فكلاهما وجهان لعملة واحدة، وكلّ منهما تؤدّي إلى طاحونة الأخرى. ولا سبيل إلا “الدولة”، التي كان المسيحيون من مؤسّسيها، من “لبنان الكبير” قبل 100 عام، مروراً بفؤاد شهاب، وصولاً إلى ما سينتج عن محنتنا المستمرّة منذ اغتيال رفيق الحريري في 2005.