مليار “صندوق النقد”: هل أحرقه مصرف لبنان؟

مدة القراءة 5 د

باستثناء حديث البيان الوزاري لحكومة نجيب ميقاتي عن “إقرار أفضل طريقة لاستعمال الأموال المتأتّية من حقوق السحب الخاصّة” من صندوق النقد الدولي، لا يوجد حتّى اللحظة ما يشير إلى كيف ستستعمل الحكومة أو مصرف لبنان هذه السيولة. على الرغم من أنّ الأموال دخلت ميزانيّات “المركزية” كما تظهر أرقام النصف الثاني من أيلول الماضي. لكن لم تُقدِم الحكومة حتّى اللحظة على وضع أيّ تصوّر عمليّ بخصوص هذا الموضوع. ولم يعمل المجلس النيابي على تشريع ينظّم إنفاق هذا المبلغ كما طالبت بعض الكتل النيابيّة سابقاً، وهو ما يترك الأبواب مشرّعة على جميع السيناريوهات والاحتمالات.

من الناحية القانونيّة، من البديهيّ أن تقوم الحكومة بإيداع هذا المبلغ في مصرف لبنان، بوصفه مصرف الدولة الذي تُودَع لديه دون سواه أموال القطاع العامّ، كما ينصّ قانون النقد والتسليف. وبهذا المعنى، من الطبيعيّ أن يُسجَّل هذا المبلغ في ميزانيّة المصرف المركزي كالتزام لمصلحة الدولة اللبنانيّة، تماماً كما تُسجَّل الوديعة كالتزام على أيّ مصرف لمصلحة المودع.

الدولة اللبنانيّة استلفت أساساً نحو 225 مليون دولار من مصرف لبنان خلال أيلول لتمويل استيراد المحروقات وفق آليّة دعم مؤقّتة

لكنّ الأسئلة الأهمّ اليوم تتعلّق بطريقة التصرّف بهذه الوديعة: فهل يتمّ فصل هذه السيولة عن سائر أموال المصرف المركزي، لتتمكّن الدولة من استعمالها كما وردتها على شكل دولارات طازجة؟ أم تُضمّ الدولارات الطازجة إلى احتياطات مصرف لبنان، في مقابل تمكين الدولة من استعمال هذا الرصيد بالليرة اللبنانيّة ووفق سعر صرف يتمّ التفاهم عليه مع الحاكم؟ وما هي أبواب الإنفاق التي سيتمّ صرف المبلغ عليها في أيٍّ من السيناريوهيْن؟

بغياب أيّ خطّة واضحة في المجلس النيابي أو الحكومة، لا يمكن الركون إلا إلى الأرقام التي يُفصِح عنها مصرف لبنان، والتي تُظهِر، حتّى نهاية أيلول، أنّ الدولارات دخلت بالفعل إلى خانة الاحتياطات بالعملة الصعبة في جهة الموجودات في الميزانيّة. بمعنى آخر، وبالنسبة إلى مصرف لبنان، أصبحت وضعيّة هذه الدولارات من الناحيّة القانونيّة تماماً كوضعيّة دولارات المودعين التي أودعتها المصارف لديه، والتي يستعملها مصرف لبنان لتمويل الاستيراد أو بعض عقود الدولة اللبنانيّة. وإذا كان الحاكم قد وضع لنفسه ضوابط تمنع استعمال ما أودعته المصارف من احتياطات إلزاميّة لديه، فلا يوجد من الناحية القانونيّة حتّى اللحظة أيّ ضوابط تحكم استعماله لهذه السيولة.

أمّا من ناحية التزامات مصرف لبنان، فيبدو من الواضح أنّ المصرف لم يودع هذه الأموال في أيّ بند خاص من ضمن التزاماته لمصلحة القطاع العامّ أو الحكومة، بل اكتفى بتسجيلها ديناً عليه في بند المطلوبات الأخرى، من دون أن يفصّل طبيعة هذه المطلوبات وكيفيّة استعمالها لاحقاً. ولذا لا يوجد من الناحية القانونيّة أيضاً ما يمنع تصفية هذه المطلوبات مقابل أيّ التزامات تدين بها الدولة اللبنانيّة لمصلحة مصرف لبنان، أو مقابل أيّ قروض سيمنحها المصرف لاحقاً للحكومة لأيّ غرض.

للتذكير فإنّ الدولة اللبنانيّة استلفت أساساً نحو 225 مليون دولار من مصرف لبنان خلال أيلول لتمويل استيراد المحروقات وفق آليّة دعم مؤقّتة، ولا يوجد اليوم ما يمنع استعمال هذه الدولارات لإطفاء هذا الدين الذي تمّ تسجيله في حساب الدولة الجاري لدى المصرف المركزي. وتعتمد الدولة دوريّاً على مصرف لبنان لتمويل بعض العقود والنفقات الملحّة التي لا يمكن تأجيلها، كشراء بعض شحنات المحروقات لمصلحة مؤسسة الكهرباء أو سداد دفعات بعض عقود الصيانة. وهي نفقات يمكن من الناحية القانونيّة إطفاؤها أيضاً في الوقت الراهن مقابل دولارات حقوق السحب الخاصّة من دون أيّ ضوابط.

من الناحية العمليّة، أشار العديد من خبراء الجهات الدوليّة، التي راجعت المصرف المركزي بخصوص طريقة قيد المبلغ في الميزانيّات، إلى بعض الهواجس المرتبطة بتحرير المصرف من أيّ قيد في ما يخصّ طريقة استعمال هذه السيولة، وذلك للأسباب التالية:

من البديهيّ أن تقوم الحكومة بإيداع هذا المبلغ في مصرف لبنان، بوصفه مصرف الدولة الذي تُودَع لديه دون سواه أموال القطاع العامّ، كما ينصّ قانون النقد والتسليف

أوّلاً: اتّسم الدعم الذي وفّره المصرف من احتياطاته، والذي يستمرّ بالقيام به بالنسبة إلى بعض الموادّ كالقمح والأدوية وعدد من عقود الدولة، باستنسابيّة غير مفهومة، من ناحية الشركات التي استفادت من الاعتمادات، وطريقة تصرّف هذه الشركات بالموادّ المدعومة. لذا لا توجد حتّى اللحظة ثقة بطريقة إدارة المصرف لهذه الاحتياطات.

ثانياً: تؤكّد أرقامٌ أنّ نسبة من الاحتياطات التي خرجت من مصرف لبنان لم يتمّ استعمالها أساساً لغايات دعم الاستيراد، أو تمويل نفقات الدولة، وهو ما يعزّز من شكوك هذه الجهات في طريقة إدارة المصرف المركزي لاحتياطاته.

ثالثاً: حتّى اللحظة، لم تؤكّد الحكومة تفاهمها مع المصرف المركزي على أيّ باب من أبواب الإنفاق بخصوص المبلغ. وحتّى في ما يخصّ البطاقة التمويليّة، التي قِيل إنّ تمويلها سيتمّ من خلال أموال حقوق السحب الخاصّة، لمّا تُبَتّ العملة التي ستُعتمَد لدفع قيمة المساعدات.

إقرأ أيضاً: توحيد أسعار الصرف: مستحيل دون معالجة الخسائر

لكلّ هذه الأسباب، يوجد من العوامل ما يكفي لدفع الجميع إلى الريبة بمستقبل الدولارات التي وردت إلى مصرف لبنان من حقوق السحب الخاصّة، وبطريقة استخدام هذه الأموال التي تتجاوز قيمتها 1.135 مليار دولار. أمّا المطلوب لضبط هذا الإنفاق، فهو إمّا تشريع واضح من المجلس النيابي يحدِّد وجهة استعمال هذه السيولة، وعملة الإنفاق التي سيتمّ استخدامها، وإمّا تفاهم رسمي ومعلَن بين الحكومة والمصرف. وحتّى في هذه الحالة، ستحتاج الحكومة إلى تشريع أيّ إنفاق مستقبليّ في إطار الموازنة العامّة، أو من ضمن تشريعات جديدة، وخاصّة في المجلس النيابي.

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…