لبنان ليس تفصيلاً صغيراً في السباق الرئاسي في فرنسا. بل هو عامل مؤثر على مسيرة كافة المرشحين في السباق الرئاسي وعلى رأسهم الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي يرى في لبنان سبيلاً لتسجيل النقاط لصالحه بعد الخيبات الخارجية المتتالية وآخرها ملف الغواصات لأوستراليا. ما يطرح الكثير من التساؤلات: هل يُنقذ لبنان ماكرون في سباقه الرئاسي أم يشكل عاملاً إضافياً في تآكل شعبيته؟
تمتاز الورقة اللبنانية بالميزة الزئبقية المتبدّلة الملامح بأقلّ تبدُّل في درجات الحرارة، وتتحوّل باستمرار عند الحدّ الأدنى من المتغيّرات المناخية الدولية والإقليمية. وهي ملفٌّ ملتهبٌ وحسّاسٌ جدّاً إلى أبعد الحدود، يختصّ بالفرادة، وفي أحيان كثيرة بالأهميّة. وهو شهير بنقل التهابه بالعدوى، والتأثير على سياسات مختلف الدول الداخلية والخارجية التي تتعاطى به، وفي طليعتها الدولة الفرنسية.
بات لزاماً على الرئيس الفرنسي القادم بشكل إجباري التحرّك ضمن الظروف الأوروبية فقط، وخصوصاً بعد مرحلة البريكسيت والتمدّد الألماني، فهو مطالَب بالحفاظ على التناغم وخلق التوازن بين الانتماء الوطني الفرنسي والقومية الأوروبية
أدارت فرنسا محرِّكات سباقها الرئاسي بوقود مركّز، منتجةً عصفاً وعزم دوران سريع. فقد اتّصف السباق الرئاسي الفرنسي بخاصيّة نافرة، وهي اضمحلال القطبيّة، والنرجسيّة التي كانت تميّز الرئاسات، وهذا أمر غير مشهود، فأضرمت النار تحت الاستحقاق المفصليّ بزفير الخلافات والاختلافات، وبانقسامات حادّة لأوّل مرّة في تاريخها في السياستيْن الداخلية والخارجية، بحيث يحتلّ الملفّ اللبناني الموقع المؤثّر بشكل كبير. فهو المقدّمة الثابتة لكتابها (النفوذ الحيويّ الفرنسي) في الشرق الأوسط.
يُعتبر “المفرّ الخارجيّ” تفصيلاً أساسيّاً ومحفّزاً في السياسة الخارجية الفرنسية. وتشكّل الورقة اللبنانية نقطة مركزية، إذ يعتمد عليها الفرنسيون في أعقاب السباق الرئاسي لتحقيق إنجاز متكامل على مستوى السياسة الخارجية، الأمر الذي يساهم في تعزيز النفوذ الدولي لفرنسا، ويساعد في تمتين ودعم مشوار المتنافسين، ومن بينهم الرئيس الحالي “ماكرون”، في الماراتون الرئاسي، من خلال تشتيت الانتباه والتغطية أو التعمية على بعض المشكلات الداخلية والخارجية التي تعاني منها فرنسا منذ فترة قريبة، والمعتبَرة مقوّمات دسمة، والمستثمَرة كموادّ أوّليّة في إذكاء روح المنافسة وشراستها بين المتنافسين في الاستحقاق من اليمين إلى اليسار: من الحركة الوطنية والحزب الاشتراكي إلى حزب البيئة – أوروبا والحزب الجمهوري.
والاتّهامات المتبادلة بين الأفرقاء كثيرة، فاليمين يتّهم حركة “إلى الأمام” التي أسّسها ماكرون بالغلوّ والمبالغة، واليسار بدوره يعيّر الحركة بالتسرّع وعدم تثبيت الخطوات، وعدد كبير من اليساريّين ناقمٌ على الاشتراكيين بحجّة استمالتهم من قبل ” لوبان” وتصويتهم لها كردّة فعل منهم على تخلّي الديموقراطيين الاجتماعيين عنهم. ومن أبرز الهواجس كانت المخاوف من المهاجرين والنازحين السوريّين الذين يُعتبرون بنداً أساسيّاً في الملف اللبناني.
الفشل الاشتراكي في الفترة السابقة في إنقاذ فرنسا من أزمتها الاقتصادية والاجتماعية حتّم عليهم التغيير والتهجين في الأداء والآليّات، والتعامل مع الأوراق الخارجية بطريقة مختلفة، فكانت الأزمة اللبنانية الهدف الأوّل. واليمين، الذي شلّه الكمّ الهائل من الفضائح الماليّة والفساد وقضايا المحسوبيّات والمحاباة، مقبلٌ على التبديل والاعتماد بشكل مباشر على مسوّدات السياسة الخارجية وأوراقها الرابحة. والأمر ذاته بالنسبة إلى الجمهوريين وحزب البيئة – أوروبا، والاشتراكيين.
لبنان ليس تفصيلاً صغيراً في السباق الرئاسي في فرنسا. بل هو عامل مؤثر على مسيرة كافة المرشحين في السباق الرئاسي وعلى رأسهم الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي يرى في لبنان سبيلاً لتسجيل النقاط لصالحه بعد الخيبات الخارجية المتتالية وآخرها ملف الغواصات لأوستراليا
الجدير بالاستغراب أنّ الحزب الاشتراكي بدأ، منذ سنوات خلت، بتبنّي مواقف لا تختلف البتّة عن اليمين التقليدي. فهو الذي اختار أوروبا على حساب المبادئ الاشتراكية عند تفضيله النظام النقدي الأوروبي في عام 1983. حتى إنّ اليمين الوسطيّ كان متمايزاً في سياسته الخارجية أكثر من الاشتراكي، وكانت له مواقف فارقة بنقاطها في التصدّي لمحاولات البراغماتية الصرفة لواشنطن.
فحزب الجبهة الوطنية (لوبان)، مثلاً، لا يعبّر حاليّاً عن المزاج الحقيقي للشعب الفرنسي، ولا حتى لليمين الفرنسي، وذلك بسبب تناقض شعاراته. وهو ليس بأمان مطلقاً، ولذا يتعامل مع السياسة الخارجية بشكل مصيري، ومع الملف اللبناني تحديداً بشكل جدّيّ، فيناظر فيه من بوّابة حلّ الأزمة اللبنانية وإضفاء عاملها الاستقراريّ بالهروب منها من بوّابة المهاجرين والنازحين السوريين.
لقد جاء ماكرون بقصد احتماليّة التغيير والتحرّر من نير الانقسام العمودي التقليدي بين اليمين واليسار، الذي أثقل كاهل الجمهورية الخامسة، فكانت حركة “إلى الأمام” التي نالت الدعم من الممتعضين من كلا الحزبين، وأيضاً من مختلف الكيانات السياسية، بحيث احتوى هذا النموذج الجديد المؤيّدين الذين كانوا من قبل منضوين في صفوف الأحزاب الكلاسيكية الواقعية، فحصدت حركة “إلى الأمام” وماكرون الأغلبيّة، إلا أنّ الشارع الفرنسي لم يُمهِل ولم يعطِ الوقت، فكان الاصطدام بالشارع المنفجر، وشكّلت السياسة الخارجية أبرز نقاط الخلاف والنزاع فيما بين الأفراد، ومنها بشكل خاص الورقة اللبنانية، فأضحت بفعل الاختلاف في الآراء والمعايير العمليّة للظروف مادّةً حيويّةً وعاملاً مساعداً أساسيّاً في أيّ استحقاق فرنسي.
إنّ السياسة الخارجية والدفاع في فرنسا هما مجالان محفوظان ومكرّسان لرئيس الجمهورية. فهو الذي يمتلك وحده صلاحيّات شبه مطلقة في ما يخصّ القرارات، حيث يستمدّ الفرنسي ويستشفّ من الورقة اللبنانية عدداً من الأبعاد الاجتماعية والأمنيّة والاقتصادية والسياسية في مشهد جيوسياسي ساخن. وتُعتبر فرنسا بلداً ومجالاً حيويّاً مهمّاً للعديد من اللبنانيين، الأمر الذي يؤسّس لشريحة تتوقّع اهتماماً فرنسيّاً مميّزاً بلبنان، وفق ثابتة لا تتغيّر مفادها أنّ لبنان بلد أساسيّ لتحقيق التوازن الطبيعي الإقليمي، وحتى الدولي، وتحكمه نظريّتان اثنتان في السياسة الفرنسية وبين المتنافسين على الرئاسة. الأولى هي “التهكّميّة الواقعية”، وقصدها النهائيّ أنّ أوروبا بشكل عامّ، وفرنسا بشكل خاصّ، مجبرتان أن ترسما مستقبليْهما بالاتفاق مع روسيا. وهنا يلوح الانقسام بين الأحزاب والشخصيّات في طريقة استخدام الورقة اللبنانية بما يتوافق مع التقارب الروسي.
أمّا النظريّة الثانية فتتمثّل بالفكرة “الأطلسيّة التقليدية” التي تشدِّد وتقدِّس مقام المجتمعات المدنية والمثل العليا والقيم ومبدأ حقوق الإنسان باعتبارها متناغمة مع شعار فرنسا الجمهورية ورسالتها “الحرية، المساواة، الأخوّة”، التي بدورها غذّت الأجيال الفرنسية والعربية، وحمّستها على إشعال الثورات وحركات التحرّر والدفاع عن الحقّ في التعبير عن الرأي. وهنا يلوح لنا الاختلاف النافر في طريقة التعامل مع الورقة اللبنانية من هذا المنظور، بحسب تصنيف كلّ فئة وهدفها ورؤيتها. وهو ما انعكس بالتحديد على قرار تعيين “برنار إيمييه” رئيساً للاستخبارات الفرنسية الخارجية أو “رئيساً للمديرية العامّة للأمن الخارجي”، وهو الذي كان سفيراً لفرنسا في لبنان في مرحلة حسّاسة (2004-2007).
ورث ماكرون مجالاً فرنسياً منقسماً بطريقة عمودية بين يمين ويسار وبنظريات تغزوها طروحات ديالكتيكية مبرّرها الأولويّ أنّ تشعّب الأحداث وتفاقمها يجبرانك في العديد من الأحيان على القيام بالأمر وضدّه، على فرض أنّك اقتصادياً محافظ في حين أنّك اجتماعياً في خندق اليسار. لذلك سوف نظلّ معاصرين لهذا التوازن في الأداء، وهذه غاية هذا النهج، وهنالك اختلاف بين مختلف الأفرقاء على طبيعة وشكل هذا التوازن، ناهيك عن أنّها تريد تكريس رؤيتها ورأيها، والورقة اللبنانية هشّة وسريعة الانقياض على مسرح الأحداث، الأمر الذي يخوّلها أن تكون شريكاً مضارباً، ضحية ومستثمِرة في الوقت نفسه، ما يجعلها شبيهة بكرة الثلج أو النار التي يتمّ تقاذفها بين المبادئ “المثاليّة والواقعيّة”، و”القيم والمصالح”.
إقرأ أيضاً: ماكرون: 11 هزيمة في لبنان والعالم
بات لزاماً على الرئيس الفرنسي القادم بشكل إجباري التحرّك ضمن الظروف الأوروبية فقط، وخصوصاً بعد مرحلة البريكسيت والتمدّد الألماني، فهو مطالَب بالحفاظ على التناغم وخلق التوازن بين الانتماء الوطني الفرنسي والقومية الأوروبية. والسياسة الخارجية ممرٌّ أساسيّ له، والورقة اللبنانية إحدى الأولويّات الدائمة. ولا شكّ أنّ التقارب الروسي مع اليمين (لوبان) سابقاً، كان واضحاً وثقيلاً جداً في أروقة السياسة الفرنسية الخارجية الماكرونية، إلى أن تمايزت سياسة ماكرون وحركة “إلى الأمام” وأقرّت بالتحفيز لعلاقات قويّة مع الدبّ الروسيّ، لكن من دون الذوبان في جليده.
لكنّ الورقة اللبنانية، على الرغم من كلّ ذلك، ليست كافية لوحدها لتحديد مسار السباق الرئاسي الفرنسي. حتى الرئيس المقبل غير قادر ولا يستطيع أن يفرض تصوّراً نهائيّاً وفرديّاً لحلّ وإنهاء الأزمة اللبنانية.