لم يكن طابوراً خامساً. لا يوجد طابور خامس يطلق النار طوال النهار. البيئة حاضنة. إطلاق النار بدأ من جهة عين الرمّانة. الاستفزاز بدأ من متظاهري “الثنائيّ الشيعيّ”. هؤلاء دخلوا إلى شارع سامي الصلح، الممرّ الإجباري بين الطيّونة وقصر العدل. هناك فيديوات تُظهر تحطيم سيّارات ومحاولة دخول أحد الأبنية. وهناك فيديوات تُظهر إطلاق النار من على سطوح مباني عين الرمّانة. وهناك فيديوات في المقابل تُظهر بوضوح مسلّحين من جهة “الثنائي” يُطلقون الرصاص والقذائف الصاروخيّة، أمام الجيش والإعلاميّين، على مصادر إطلاق النار.
ليست موثّقةً حتى الآن الهويّة الشخصيّة لمطلقي النار في عين الرمّانة. لكنّهم لن يكونوا من الأفغان ولا من جبهة البوليساريو ولا من الأيزيديّين. الهويّة السياسية تبدو شديدة الوضوح. بيان رئيس القوّات اللبنانية سمير جعجع، الذي استنكر واعتبر أنّ “سبب الاشتباك هو السلاح المتفلِّت والمنتشر”، لم يبدِّد الغموض ولا زاده.
لكنّ الأكيد أنّ مطلقي النار حقّقوا 3 “انتصارات” على تظاهرة حزب الله وحركة أمل، التي حاولت المرور عبر شارع سامي الصلح، الذي تبيّن أنّه “ممنوع المرور فيه”:
1- منعوا حصول التظاهرة المُعارضة لأداء المحقّق العدلي في قضية تفجير مرفأ بيروت، القاضي طارق البيطار.
2- أعلنوا للداخل والخارج أنّ في لبنان جهةً، ليست مغفلة الهويّة، مستعدّة لإيقاف حزب الله عند “الطيّونة”، ولإطلاق النار على الرؤوس. وهذا إعلان كبير، ذو مضمون استراتيجي كبير، بشكل دمويّ غير مسبوق. ويختلف كثيراً عن “أحداث خلدة”، حيث كان مطلقو النار مجهولين. هنا تمّ ترسيم حدّ واضح في رمال لبنان المتحرّكة.
3- أعلنوا نهاية “زمن القمصان السود”. فالمئات الذين كانوا يتوجّهون من الضاحية إلى قصر العدل، بقمصان سود، على قلّة عددهم، في الشكل وفي السياسة، تناثروا بين قتيل وجريح وهارب، وبين مقاتلين عادوا بأسلحتهم ليردّوا على مصادر النيران، التي ظلّت مجهولة، وظلّت تطلق النار لأربع ساعات متواصلة.
الحزب في مأزق. لا يمكنه تنفيذ اجتياح شبيه بـ7 أيّار. المسيحيون ليسوا معادين له. العونيّون معه في السياسة. لذلك يجب أن يكون الردّ محسوباً
ماذا يعني هذا؟
القنّاصون تمركزوا على السطوح، بالتزامن مع مئات الشبّان الذين شوهدوا منذ الصباح الباكر يتجمّعون أمام مقرّات “القوات اللبنانية”. ربّما يكون تزامن الصدفة. وربّما لا. ليس موثّقاً بعد. لكنّهم كانوا مستعدّين لإطلاق النار لساعات طويلة. بالذخيرة والأوامر، وبالخبرة والقدرة العالية. فأحد القتلى تمّ إرداؤه وهو يهمّ بإطلاق “ب7″، بحسب الفيديوهات.
هذا يعني أنّ هؤلاء يتمتّعون بشبكة حماية في مداخل المباني التي أطلقوا منها النيران. ولهم خطوط إمداد بالسلاح وغيره ربّما إذا طالت المعركة. ولديهم خطّة للانسحاب والإخلاء. وما الناطور الذي أوقفه الجيش، ثمّ أطلق سراحه، إلا دليل على “حرفة” مطلقي النار.
ربّما هؤلاء جزء بسيط من مشروع تسليح كان تحدّث عنه وليد جنبلاط لجريدة “الأخبار” في 13 تشرين الأوّل 2020، قبل عام بالتمام والكمال. يا محاسن الصدف. وقد تكون القوّات مظلومة. لكنّها بالطبع رسالة كبيرة، قد يكون في طيّاتها أنّ “زمن القمصان السود قد ولّى”.
جعجع وجبران: مَن يقود مَن؟
منذ “القانون الأرثوذكسي”، بل منذ اتفاق الدوحة، يقود جبران باسيل المسيحيّين تحت عنوان “استعادة الحقوق”، ويلحق به سمير جعجع. حتى في ملفّ البيطار. كان في إمكان جعجع أن يوافق باكراً على طرح الرئيس سعد الحريري إقرار قانون “رفع الحصانات” عن الجميع، من رئيس الجمهورية إلى أصغر موظّف. كان يمكن أن يُحرِج عون، أن يعطي “شرعيّة مسيحيّة” لطرح المستقبل وحركة أمل وحزب الله، وأن يمنع ولادة شرخ “مسيحي – إسلامي” يُعيد تعويم جبران باسيل من بوّابة ادّعاء الخلاف مع حزب الله وحركة أمل، بعد سنوات العسل مع الحزب. لكنّه اختار جانب باسيل، لتطييف قضية المرفأ، ولشدّ العصب المسيحي. وأمس الأوّل قرّر دعم رفع الحصانات عن الجميع، لكن متأخّراً.
استفاق المسيحيون اليوم وفي بالهم شعار يمكن تجديده بخمسة مقاتلين على سطوح 5 مبانٍ: “وحدا بتحمي الشرقية.. القوات اللبنانية”. لا وجود لجبران هذه المرّة. للمرّة الأولى يقود “مسلّحون يدافعون عن عين الرمّانة” قلوب المسيحيّين. وها هو جبران يلحق بجعجع هذه المرّة ويسانده من بكركي بالدعوة إلى “إبعاد التحقيق عن التدخّلات السياسية”، وبتأكيد أنّه “لا يمكن لأحد أن يفرض رأيه فرضاً على الآخرين”، في إشارة واضحة إلى “الثنائي الشيعي”.
هنا لا ينفع بعد اليوم أن يهاجم العونيّ ناجي حايك حزب الله على التلفزيونات فيما جبران يقيم سياسيّاً في حارة حريك. هناك مَن أطلق الرصاص وقتل 5 وجرح 20 على الطيّونة. “السيفُ أصدقُ إنباءً من الكتب.. في حدّهِ الحدُّ بين الجدِّ واللعبِ”، يقول جدّنا الشاعر أبو تمّام. ولعلّها أوّل ضربة جديّة يتلقّاها حزب الله، وهو الذي أعلن أنّه انتصر، من اليمن إلى غزّة، من المحيط إلى الخليج.
كيف سيردّ الحزب؟
الحزب في مأزق. لا يمكنه تنفيذ اجتياح شبيه بـ7 أيّار. المسيحيون ليسوا معادين له. العونيّون معه في السياسة. لذلك يجب أن يكون الردّ محسوباً. والأرجح أن يكون أمنيّاً، وليس عسكريّاً، ضدّ أهداف قوّاتية محدّدة، بناءً على اتّهام القوات بأنّها اعتدت على “المتظاهرين السلميّين”، كما جاء في بيان صادر عن الحزب والحركة.
لعلّها أوّل ضربة جديّة يتلقّاها حزب الله، وهو الذي أعلن أنّه انتصر، من اليمن إلى غزّة، من المحيط إلى الخليج
الردّ العسكري سيرهِّب المسيحيين، وسيضعف موقف جبران باسيل. الردّ الأمنيّ سيوجِّه رسالة موضعيّة، وسيحاول تعطيل المفاعيل المحليّة والإقليمية للضربة التي تعرّض لها الحزب أمس.
ملاحظة أخيرة
الأحزاب مفلسة. لا كهرباء. لا ماء. الليرة منهارة وتزداد انهياراً. وربّما لا مازوت هذا الشتاء بسبب ارتفاع سعره. واستهلاك البنزين تراجع 30% في الأسابيع الأخيرة بعد رفع الدعم عنه. ثلث اللبنانيين توقّفوا عن استهلاك البنزين. لا أدوية. شركات التأمين لا تعترف بإجراء الفحوصات ولا تجدِّد البوالص بالليرة.
كيف يمكن أن نذهب إلى الانتخابات؟
تُقنِع الناخب بأنّ “الكهرباء والمال والطعام والدواء ملفّات ثانوية، حين تكون حياتك في خطر”. الخطر الوجوديّ، الخوف من الموت، يُنسي اللبنانيّين الكهرباء. حياة على الشمعة أفضل من جثّة تحت المكيّف. حياة مع البرد أفضل من موتٍ دافىء.
الخطّة قد تكون في بدايتها. والرابحون على طرفيْ المجزرة. الثنائي الشيعي أثبت أنّ اللعب بملفّ المرفأ دونه الشارع، والقوّات قالت كلمتها، وقالت “لا” مدوّية للحزب. شعبيّة الحزب والحركة في أعلى أيّامها منذ 17 تشرين. كذلك القوات بات لها شرعية الخروج على النظام، والثورة، وشرعيّة “حماية عين الرمّانة”.
الخوف ألا يكون جعجع قد أحسن قراءة المعطيات الدولية، من انسحاب أميركا من أفغانستان والعراق، وقريباً سوريا، وصولاً إلى التفاهمات الإيرانية مع السعودية وأميركا والإمارات والعراق…
إقرأ أيضاً: الشارع “يَبلَع” البيطار: هل يتنحّى بنفسه؟!
والأمل ألّا يكون هناك مَن يُعدّ ملفّاً في المجلس العدلي، يشبه ملف “سيّدة النجاة”، لملاحقة المحرّضين والمتسبّبين بأحداث 14 تشرين الأول 2021.
حينها سنكون أمام “سيّدة النجاة 2″، ويصبح للبنانيين مجلس عدليّ في مواجهة مجلس عدليّ آخر.