حديث الصورة: الدمار لا يزال قائماً في حي الخالديّة بحمص في عام 2020.
يقف الحاج محمد، وهو رجل سوري في عقده السادس، أمام بقايا دكّان صغير ورثه عن أبيه، الذي ورثه بدوره عن جدّه، قرب الجامع الكبير وسط مدينة حلب شمال سوريا.
كان الدكّان يضمّ داخل جدرانه أصنافاً مختلفة من الأعشاب العطرية وكلّ أنواع التوابل.
بقي الدكّان أكثر من أربعة عقود مصدر رزق لعائلته المكوّنة من خمسة أفراد. إلا أنّ إشراقة الرابع والعشرين من نيسان 2013 أنهت مسيرة عمل الرجل عقب قصفٍ مكثّفٍ من قوات النظام السوري على المنطقة، تسبّب في دمار الدكّان وتحويل عدد كبير من المحلّات والبيوت القريبة منه خراباً.
نزح الحاج محمد وعائلته إلى أحياء حلب الغربية، وباتت منطقة الجامع الكبير، التي تضمّ دكّانه، نقطة اشتباك وإحدى نقاط الفصل بين أحياء حلب الشرقية والغربية، وتعرّضت لتدمير واسع طال مبانيها جرّاء الغارات الجوية الروسية والسورية بالصواريخ والبراميل المتفجّرة.
في 15 كانون الأول 2016، سيطر النظام السوري، مدعوماً بميليشيات أجنبية وغطاء جوّي روسي، على أحياء حلب الشرقية بالكامل، بعد هجوم هو الأعنف على المدينة.
بعد دخول النظام السوري إلى تلك المناطق، عاد الحاج محمد إلى حيّه القديم منذ بداية عام 2017 في مسعى لإعادة ترميم محلّه، لكن من دون جدوى.
يقول الحاج محمد في حديث إلى “أساس”: “منذ أربع سنوات ونحن نتلقّى وعوداً ونسمع عن شركات تعمل على إعادة البناء وفقاً للشكل الذي كانت عليه هذه المنطقة وباستخدام الحجارة القديمة ونصب الأقواس، إلا أنّ ذلك لم يتحقّق، وبقيت المنطقة وغيرها من المناطق مدمّرة، وعلى ما هي عليه”.
بحسب فريق التقويم الخاص بالبنك الدولي، كانت حصّة حلب من الدمار هي الكبرى مقارنةً مع بقيّة المحافظات التي ركّز عليها فريق البحث التخصّصي لتقدير حجم الدمار الذي حلّ بالمدن السورية، مستعيناً بصور الأقمار الصناعية. وقد بلغت الأضرار في حلب نحو 58.1% من المدينة.
لكنّ معاناة الحاج محمد بسبب عدم قدرته على ترميم دكانه لم تنتهِ، إذ طُلِب من الرجل التوقيع على ورقة تنازل لإزالة الأنقاض من قبل شركة إيرانية حصلت على عقود لإعادة تأهيل وإعمار أحياء المدينة بتكلفة مليار و100 مليون ليرة سورية.
ويقدِّر خبراء اقتصاديون كلفة إعادة الإعمار في سوريا بشكل متفاوت وغير واضح، لكن تقديرات الأمم المتحدة تشير إلى أنّ التكلفة الحقيقية لإعادة الإعمار تصل إلى حوالي 400 مليار دولار. إلا أنّ هذا الرقم لا يشمل الخسائر البشرية والأشخاص الذين تركوا مساكنهم.
حديث الصورة: مدخل السوق القديم، وسط مدينة حلب، ويظهر الدمار الذي لحق به نتيجة قصف قوات النظام السوري على المنطقة.
نصف الأبنية مهدّد بالانهيار
يشير رئيس شعبة المكاتب في نقابة المهندسين بحلب، جمال الدين ناجح، في تصريحات محليّة، إلى أنّ الشركة العامّة للدراسات والاستشارات الفنيّة قدّرت الوضع الإنشائي والأضرار في 36 حيّاً من مدينة حلب. وقد بلغ مجموع الأبنية المصابة بضرر معماري في نحو 10176 بناءً. أمّا الأبنية التي تعاني من خطر عالٍ، فقد وصل عددها إلى 9912 بناءً مؤلّفاً من أربعة طوابق، يضمّ كل طابق منها شقّتين سكنيّتين، أي ما يعادل 80 ألف شقّة مهدّدة بالانهيار.
ومع حجم الدمار الواقع في مدينة حلب، بدأت شركات تحصل، مع مطلع عام 2017، على عقود استثمار في المدينة، من بينها شركة إيرانية وقّعت عقوداً لرفع الأنقاض ونقلها من الأحياء الشرقية في مدينة حلب مقابل مبالغ ماليّة ضخمة.
تُدعى الشركة منشأة “خاتم الأنبياء”، ومقرّها في العاصمة الإيرانية طهران. وهي ليست الوحيدة، إذ مُنِحت أكثر من 22 شركة إيرانية حقّ الاستثمار في سورية، وخاصة في ما يتعلّق بمرحلة إعادة الإعمار.
تتقاطع هذه المعلومات مع تصريحات أطلقها رئيس اللجنة العليا للمستثمرين في المناطق الحرّة السورية، فهد درويش. فقد كشف أنّ معظم الشركات سيكون مقرّها في المركز الإيراني داخل المنطقة الحرّة بدمشق، وستنشط في قطاع إعادة الإعمار.
يقول مراقبون إنّ مثل هذه الشركات توفّر حضوراً، وتثبت بقاء إيران في سوريا ومشاركتها في صفقات إعادة الإعمار مستفيدةً من تسهيلات كبيرة يقدّمها النظام لطهران وشركات الحرس الثوري الإيراني.
يعتقد الخبير والمحلّل الاقتصادي في مركز جسور للأبحاث والدراسات خالد التركاوي، في اتّصال مع “أساس”، أنّ الشركات الإيرانية التي تدخل سورية، معظمها محسوبة على الحرس الثوري الإيراني، وهي تقاتل بكلّ معنى الكلمة في السوق السورية كما تقاتل في الجبهات السورية.
تُعتبر منشأة “خاتم الأنبياء” الذراع الاقتصادي للحرس الثوري الإيراني. وفي السابع من حزيران 2019، عاقب مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC) التابع لوزارة الخزانة الأميركية أكبر مجموعة قابضة للبتروكيمياويات في إيران، بسبب تمويلها منشأة “خاتم الأنبياء” التي تمثّل الفرع الهندسي للحرس الثوري.
يقدِّر خبراء اقتصاديون كلفة إعادة الإعمار في سوريا بشكل متفاوت وغير واضح، لكن تقديرات الأمم المتحدة تشير إلى أنّ التكلفة الحقيقية لإعادة الإعمار تصل إلى حوالي 400 مليار دولار
الإعفاء من الضرائب
في 25 كانون الأوّل من عام 2017، أعلن قائد مجموعة “خاتم الأنبياء” عباد الله عبد اللهي أنّ ديون الحكومة الإيرانية للحرس الثوري تبلغ نحو 10 مليارات دولار، معلناً رغبة قوّاته في المشاركة في إعادة إعمار سوريا، الأمر الذي يسمح بتكريس وجود تلك القوات من بوّابة الاقتصاد.
وأعلنت الحكومة الإيرانية قيامها بدور وسيط بين الحكومة السورية والقطاع الخاص الإيراني للمساهمة في إعادة إعمار سوريا، وذلك عبر ضمانات يقدّمها البنك المركزي الإيراني للمستثمرين الإيرانيين من دون إنفاق مباشر من الحكومة، مشيرةً إلى أنّ مجموعة “خاتم الأنبياء” قد بدأت الاستثمار في سوريا.
انتهى التقارب الإيراني – السوري في هذا المجال إلى توقيع وزير الأشغال العامّة في حكومة النظام السوري، سهيل عبد اللطيف، مع رئيس غرفة التجارة والصناعة والمناجم والزراعة الإيرانية، غلام حسين شافعي، في عام 2019، على خطّة البرنامج التنفيذي لمشروع إعادة الإعمار في سوريا.
كما أكّد نائب وزير الطرق وإعمار المدن الإيراني أمير أميني في تصريح لوكالة “إيلنا” الإيرانية إنّ “منشأة “خاتم الأنبياء” تستثمر حالياً في سوريا”.
حديث الصورة: المؤسسة العامّة للمناطق الحرّة – فرع حلب (مواقع التواصل الاجتماعي).
وقال مهندس يعمل في بلدية حلب (طلب عدم ذكر اسمه لأسباب أمنيّة) لـ”أساس” إنّ “منشأة “خاتم الأنبياء” مسجّلة في السوق الحرّة بمدينة حلب، ومعفاة من الضرائب، وتعمل منذ سنتين في المدينة على فتح بعض الطرقات الرئيسية ونقل الأنقاض في أحياء بستان القصر والسكري والشيخ نجار والمدينة القديمة والميدان وباب النيرب وعدّة أحياء أخرى شرقي المدينة.
يؤكّد التركاوي، الباحث في مركز جسور، أنّ معظم الشركات الإيرانية المسجّلة في المنطقة الحرّة بدمشق معفاة من الضرائب على العمل وتوريد البضائع، وهو ما يشكّل هيمنة على السوق السوري، ويتوقَّع أن تحصل على حصّة الأسد في كلّ شيء على أرض الواقع.
أرباح ضخمة
وفي محاولة لمعرفة حجم الأرباح الماليّة التي تحقّقها إيران من عقود إعادة الإعمار، تواصلت “أساس” مع ثلاثة خبراء في مجال الاقتصاد. وقد أعربوا للموقع عن اعتقادهم أنّ إيران تحقّق ببقائها في سوريا مكاسب وأرباحاً ماليّة ضخمة من الشركات التي تستحوذ على عقود في سوريا، ومن بينها منشأة “خاتم الأنبياء”. شركات هي جزء من سلّة التمويل المتنوّعة التي تعتمدها إيران لتحقيق مكاسب اقتصادية وتثبيت وجودها في البلاد بشكل قانوني.
إقرأ أيضاً: مخيّم الهول لـ”أطفال داعش”: إعادة تصنيع التطرّف؟
ويشير وزير الاقتصاد في الحكومة السورية المؤقّتة إلى أنّ “إيران دفعت أموالاً، ودافعت عن النظام السوري، واليوم تجني ثمار تحالفها مع النظام السوري من خلال عقود استثمار ضخمة في مجال إعادة إعمار المناطق المدمّرة في كلّ مدن ومحافظات حلب ودمشق وحمص، وذلك بهدف تعويض خسائرها في سوريا”.
ويضيف أنّ “الشركات، التي تنوي الاستثمار في سوريا أو تستثمر حالياً في ما يُسمّى عمليّة إعادة الإعمار، هي نفسها مشتركة ومتورّطة في انتهاكات لحقوق الإنسان وجرائم دوليّة ارتكبها النظام السوري وحلفاؤه في سوريا”.
* صحافي سوري استقصائي حاصل على ثلاث جوائز من BBC و”مؤسسة سمير قصير” و”الشبكة العالمية للصحافة الاستقصائية-GIJN“.