فيما يشهد العالم تراجعاً في مؤشّر حرية الصحافة، وارتفاع معدّلات استهداف الصحافيين جسدياً ورقمياً، افتتحت لجنة نوبل فصلاً جديداً للدفاع عن حرية الرأي والتعبير وكشف الحقائق، من خلال منح جائزتها للسلام لعام 2021، للصحافية الأميركية الفلبينية الأصل ماريا ريسا، وهي مؤسِّسة موقع الصحافة الاستقصائي “رابلر”، الذي سلّط الضوء على سياسات الرئيس رودريغو دوتيرتي وكشف ثغرات في حرب حكومته على المخدِّرات، مناصفةً مع الصحافي الروسي دميتري موراتوف، وهو رئيس تحرير صحيفة “نوفايا غازيتا”، ويعني الاسم “الجريدة الجديدة”، التي أُنشئت في عام 1993، والتي يُجري الصحافيون المتعاونون معها تحقيقات استقصائيّة تكشف شبهات الفساد، وتهتمّ بحقوق الإنسان.
ووفقاً للجنة نوبل، فقد مُنح الصحافيّان الجائزة “لأنّهما يمثّلان جميع الصحافيين المدافعين عن هذا المثل الأعلى في عالم تواجه فيه الديموقراطية وحرية الصحافة ظروفاً غير مواتية بشكل متزايد”.
تأتي الجائزة فيما تدقّ مؤسساتٌ عالمية دولية جرس الإنذار، محذّرةً من أنّ تراجع مؤشّر حرية الصحافة يؤدّي إلى تراجع الديموقراطية. وعن تأسيس الصحيفة الروسية المستقلّة، توضح صحيفة “ذا كونفرزيشن” أنّ آخر رئيس للاتحاد السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، الذي حصل على جائزة نوبل للسلام، قام بتخصيص جزء من المبلغ الذي حظي به للمساهمة في إنشاء الصحيفة وشراء الحواسيب الأولى لها. وبعد مرور أعوام من العمل وتقصّي الحقائق، فاز رئيس تحريرها بجائزة نوبل، وهو ما يعتبر “حدثاً مهمّاً ومفاجئاً في الوقت نفسه لدعم الصحافة الروسية المستقلّة التي واجهت الكثير من الضغوط المستمرّة خلال عقدين من حكم فلاديمير بوتين”.
ومن أبرز ما تعرّضت له الصحيفة المتخصصة في التحقيقات الاستقصائية إلقاء مادة كيميائية عند مدخل مقرّ هيئة تحريرها في موسكو في منتصف شهر آذار الماضي. وأتت هذه الحادثة بعد حوالى عامين من إرسال رأس ماعز وإكليل من الورود إلى مكتب التحرير، كتهديد للصحافيين. وشهدت الصحيفة اغتيال عدد من الصحافيين المتعاونين معها، بينهم الصحافية آنّا بوليتكوفسكايا التي قُتلت أمام منزلها.
تعليقاً على منح الجائزة للصحافي الروسي، حذّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال مشاركته في منتدى بموسكو، موراتوف من “استخدام الجائزة كدرع لانتهاك القانون الروسي”، مضيفاً أنّها “لن تحميه من تصنيفه وكيلاً أجنبياً في حال خالف القانون”.
أمّا بالنسبة لماريا ريسا، فقد كانت تواجه تسع قضايا قانونية منفصلة، والسلطات تشوّه سمعتها، والرئيس الفلبيني رودريغو دوتيرتي يساعد في زيادة الهجمات الإلكترونية ضدّها، ويساهم فيها مدوّنون ومؤثّرون مؤيّدون له. حتى إنّها تلقّت في إحدى المرّات 90 رسالة كراهية في ساعة واحدة.
وفي آذار 2021، نشر المركز الدولي للصحافيين نتائج دراسة أعدّتها مديرة الأبحاث العالمية في المركز الدولي للصحافيين جولي بوسيتي، مع ديانا ماينارد وكالينا بونتشيفا، وكانت جزءاً من مشروع بحثي موسّع تمّ إعداده بالتعاون مع اليونيسكو حول تعرّض الصحافيّات للعنف عبر الإنترنت. وكشف تحليل مئات آلاف المنشورات على وسائل التواصل الإجتماعي الموجّهة إلى ريسا، خلال السنوات الخمس الماضية، خطورة العنف الذي يتعرّض له الصحافيون عبر الإنترنت، ولا سيّما النساء، علماً أنّ هذه قضية لها تداعيات كبيرة، ولطالما حذّر منها الصحافيون والمدافعون عن حقوقهم، خصوصاً أنّ العنف الرقمي الذي تغذّيه دولة يهدّد سلامة الصحافيين وعملهم كسلطة رابعة وكركيزة فعّالة للديموقراطية.
وتكشف خلاصات البحث عن طبيعة الهجمات التي واجهتها ريسا، وتبيّن أنّها جنسيّة، معادية للمرأة، وعنصريّة، وتظهر كيف أنّ الإساءة المستمرّة والموجّهة عبر الإنترنت يمكن أن تخلق بيئة تمكِّن القوى المعادية للديموقراطية من قمع الصحافيين والحدّ من حريتهم في إعداد تقاريرهم.
بوسيتي التي قادت الدراسة في المركز الدولي للصحافيين، كتبت مقالاً في مجلة “فورين بوليسي“، قالت فيه إنّ حصول ماريا ريسا على هذه الجائزة هو بمنزلة “دعوة إلى العمل”. ولفتت إلى أنّها المرّة الأولى التي يحصل فيها صحافيّان على جائزة نوبل، منذ فوز الألماني كارل فون أوسيتسكي عام 1935 بها لأنّه كشف عن برنامج بلاده السرّيّ لإعادة التسلّح بعد الحرب، وقبله فاز المحرّر والناشط البريطاني نورمان أنجيل بالجائزة عن كتابه “الوهم الأعظم” الذي نبّه من مخاطر الحرب وعدم جدواها.
في مقالها بالمجلّة الأميركية، عدّدت بوسيتي بعض نتائج الدراسة، ومنها أنّ 60% من الهجمات الرقمية والعنف عبر الإنترنت الذي تتعرّض له ريسا يهدف إلى الإضرار بصدقيّتها كصحافية، وتتضمّن الهجمات معلومات مضلّلة وادّعاءات و”أخباراً كاذبة”. ويمكن تصنيف 40% من الهجمات بأنّها “شخصيّة”.
توازياً، رأت سوزان نوسيل، المديرة التنفيذية لـ PEN America، أنّ منح جائزة نوبل للصحافيين يعدّ تحدّياً مباشراً للسلطات المستبدّة، وذلك في مقالٍ آخر نشرته “فورين بوليسي“. واعتبرت أنّ الجائزة ستدفع بالرئيسين الفلبيني والروسي لمراجعة حساباتهما قبل مهاجمة الصحافيين.
ولفتت الكاتبة إلى أنّ الصحافيين يفضّلون إعداد التقارير، لا أن يكونوا موضوع ومحور القصص، لكن فيما أعدّ صحافيون تقارير موثوقة تحت ضغوط سياسية وماليّة، فإنّ منح جائزة نوبل لصحافيين يعدّ دافعاً مهمّاً للعمل الصحافي المستند إلى كشف الحقائق.
وأضافت أنّ “لجنة نوبل انتبهت لحقيقة العالم حيث تتزايد المعارك الجيوسياسية، وما اختيار تكريم ريسا وزميلها الروسي سوى تذكير بأنّ مساهمات الصحافيين في السلام تتجاوز التنبّؤ بالحرب أو محاولة منعها، خصوصاً أنّنا نشهد تراجعاً في معايير الديموقراطية في أوروبا الشرقية وأميركا الجنوبية، وهونغ كونغ وميانمار، عدا عن تشديد القيود على المعارضة في روسيا والصين وإيران ومناطق أخرى”.
واستناداً إلى ما تقدّم، يسعى صحافيون ووسائل إعلام مستقلّة إلى تحقيق نهج تصحيحي في المؤسسات الإعلامية التي تسيطر عليها الدولة والتي تروّج لسلطة المستبدّين، فضلاً عن انتشار معلومات غير موثوقة عبر الإنترنت، وفقاً للكاتبة التي اعتبرت أنّ لجنة نوبل أدركت أنّ الصحافة الاستقصائية تمثّل واحدة من أقوى الأدوات في مكافحة الاستبداد والفساد على مستوى العالم، ولا بدّ من دعمها بشكل عاجل.
في هذا السياق، يقرأ المستبدّون التقارير الصحافية على أنها تشكّل تهديداً مباشراً لحكمهم، ويستخدمون وسائل متشدّدة لمواجهته، من بينها القتل والسجن. وقد شهد عام 2020 ارتفاعاً بعمليات قتل الصحافيين حول العالم، حيث تضاعف العدد عن العام الذي سبقه، وهو أمر يعرفه موراتوف الحائز جائزة نوبل، بعدما قُتل ستّة صحافيّين يعملون معه منذ عام 2000.