يحرص الرئيس نجيب ميقاتي وقبله الرئيس سعد الحريري على الحديث عن المشاريع “التي لم تنفّذ” والأفكار التي “لم تتبلور” في معرض تهرّبهما من الحديث الجدّي في السياسة”.
تهافت الساسة والسياسة. إنّه الزمن الذي نحتكم إليه هذه الأيّام. وفي التهافت المشهود والمعيش حاليّاً معنيان. المعنى الأوّل مبنيّ على مناظرتيْ الغزالي وابن رشد. فالأوّل كتب عن تهافت الفلاسفة منتقداً محاولاتهم بلوغ الحقيقة، فيردّ الثاني عليه مدافعاً عن الفلسفة والفلاسفة بكتاب “تهافت التهافت”. المقصود بالتهافت هنا هو التساقط أو السقوط. أمّا المعنى الثاني للتهافت، الذي ينطبق أيضاً في لبنان، فهو تسابق الساسة أو مَن يطمحون إلى العمل في المجال السياسيّ على المناصب والمكاسب، فيكون تهافتهم أو ازدحامهم طلباً للمناصب مثالاً على سقوطهم وسقوط كلّ مقوّماتهم. وعليه يقع لبنان بين نوعين من التهافت. وهي مسألة تتخطّى الحدود اللبنانية، وتشير إلى نزعة عالمية تطبع العاملين في الحقل السياسي، سواء أُطلِق عليهم اسم اختصاصيّين، أو جاؤوا من عالم المال والمقاولات.
ولا يمكن لصاحب المال أو الطامح إلى جمعه أن تجتمع فيه مقوّمات السياسة بحرفتها وتقنيّاتها، أو ثقافتها التي تتجاوز حدود المنصب أو الكرسي الذي تشخص عيونه نحوه وتتعاظم آماله في تبوُّئه. ذلك التعاظم ينجم عن جوع وفراغات كثيرة، فيما لو كانت مشبعة بفكر سياسي أو ثقافة سياسية بحدودها الدنيا، ومجتمعةً مع ثقافة تاريخية، لنأى بنفسه عن الدخول في أتون لن يحرقه فقط، إنّما سيحرق مَن جاء بالكفالة عنهم. وما ينطبق على الساسة ينطبق على القضاء ومحاولات اختراع بطولات وهميّة، وفقاً لحسابات شعبوية من شأنها إضاعة القضية وجوهرها.
نقطة مشتركة في مواقف سعد الحريري ونجيب ميقاتي، كلٌّ منهما وفق ظرفه ومرحلته، وهي أنّ الرجلين صرّح كلٌّ من موقعه رئيساً للحكومة بأنّه لا يهتمّ بالسياسة، ولا داعي للعمل السياسي. يتناسى الرجلان أنّهما من المكوّنات السياسية، ومَن سمّاهما سياسيّون، وقد جاؤوا بتسويات سياسية
دوافع كثيرة تقف خلف هذه المقاربة، يمكن لها أن تنطلق من تفاصيل بسيطة، وتصل إلى مرامٍ بعيدة سياسياً واستراتيجيّاً، لأنّه لولا الحسابات الصغيرة والتفاصيل الكثيرة بأبعادها الذاتية والنفسية، لَما اقترف المرء الخطايا السياسية التي تدفع جماعته أو بلاده أو دولته ثمنها. ينطبق ذلك على مجمل العاملين الحاليين في الحقل السياسي، من رئيس الجمهورية الذي أخذ البلد بفراغه الرئاسي والمؤسساتي رهينةً ريثما يتحقّق طموحه الشخصي بالوصول إلى رئاسة الجمهورية، ورئيس التيار الوطني الحرّ الذي ينتهز توقيع عمّه لأسر البلد عند حساباته. فيما الطامة الكبرى تتجلّى في ما ينتهجه مَن يدّعون أنّهم خصوم لعون وصهره، لكنّهم يفعلون ما هو أسوأ، بدءاً من الرئيس سعد الحريري الذي أبرم التسوية لحسابات شخصية ومصلحيّة، واستمرّ في تخوين كلّ منتقديها أو منتقدي طريقة إدارتها وشنّ الحملات الشتّامة سياسياً وإعلامياً عليهم، فيما وصل هو إلى قناعة الخطيئة التي اقترفها وعبّر عن ندمه، وصولاً إلى رئيس الحكومة الحالي نجيب ميقاتي، الذي لا يعير أيّ اهتمام للسياسة وقواعدها وثوابتها واتّجاهاتها، لأنّ حساباته تنبع من مصلحة شخصية وسياسية واقتصادية، سواء بالعلاقة مع الفرنسيين ومصالحه هناك، أو من وضعيّته الداخلية وانتهازه فرصته للعودة إلى رئاسة الحكومة على مشارف الانتخابات النيابية.
ومن تحت ميقاتي وزراء كُثُر عملوا على تتفيه السياسة وتسخيف أنفسهم. ارتكزوا على حملات دعائية تصوّر أسطوريّتهم، فسقطوا عند أوّل امتحان. ومثل هؤلاء لا يعرفون قاعدة جوهرية لها رمزيّتها في عالم السياسة، وهي “لسانك حصانك، إن صنته صانك وإن خنته خانك”. غالباً ما يسبق لسانُهم عقلَهم، ويبرّرون ذلك بالقول إنّهم يجرؤون على قول ما لا يُقال. وعند وضع مقالهم في الميزان يظهر منعدم الوزن والتأثير، ولا يُدرَج في غير خانة الحشو.
إقرأ أيضاً: أهلاً بكم في عصر الانحطاط السياسي
نقطة مشتركة في مواقف سعد الحريري ونجيب ميقاتي، كلٌّ منهما وفق ظرفه ومرحلته، وهي أنّ الرجلين صرّح كلٌّ من موقعه رئيساً للحكومة بأنّه لا يهتمّ بالسياسة، ولا داعي للعمل السياسي. يتناسى الرجلان أنّهما من المكوّنات السياسية، ومَن سمّاهما سياسيّون، وقد جاؤوا بتسويات سياسية. فلا يعبّر كلامهم سوى عن خفّة واستخفاف بأنفسهم وبالآخرين، وهذا جزء من الارتكاس إلى نظريّة “اللاشيء” أو الفراغ أو “اللاموقف”. وما ينطبق عليهما ينطبق على الآخرين في الخارج، كما هو الحال بالنسبة إلى طرح الفرنسيّين المتّصل بحكومة الاختصاصيين، أو عمل الحكومة الذي يجب أن يكون بعيداً عن السياسة، كنوع من التعبير الواضح عن نظرية التهافت لأنّ المعركة في الأساس سياسية، والأزمة مردّها سياسيّ. هاتوا مشروعكم السياسي لننطلق، لأنّ ما يمرّ به لبنان والمنطقة هو دوّامة جديدة من الصراع السياسي بأبعاد تاريخية غايتها تغيير الوجه السياسي للمنطقة. قف على قدميك، اِنطِق بمشروعك السياسي حتى أراك.