يمكن رسمياً تقديم التعازي بـ”السقف الوطني العالي” الذي رفعته قيادة الجيش في ملفّ ترسيم الحدود البحرية بتبنّيها الخط الـ29 الذي يمنح لبنان حقّ التفاوض على 1430 كلم مربعاً إضافية في مياهه بدلاً من الخط الـ23 الذي يحصر التفاوض على مساحة 860 كلم مربعاً.
أُحيل أمس رئيس الوفد اللبناني في مفاوضات ترسيم الحدود البحرية نائب رئيس الأركان للعمليات في الجيش العميد الركن بسام ياسين إلى التقاعد في ظلّ رفض رئيس الجمهورية إعطاء الضوء الأخضر للتمديد له. وفق المعلومات، وعملاً بمبدأ الأقدميّة، سيحلّ العميد الموضوع حالياً بالتصرّف علي شريف مكان ياسين بعد رفع الاسم من المجلس العسكري.
استبقت وزيرة الطاقة الإسرائيلية مجيء الوسيط الدولي بإعلان رفض “البحث عن حلّ بالطرق القديمة المُتمثّلة في رسم خطوط”، مؤكّدة أنّها “ستتحدّث إلى هوكشتاين قريباً”
هو إجراء عسكري بديهي عند إحالة أيّ ضابط إلى التقاعد، لكنّ هذا “التفصيل” بدا كالسلّم الذي يتسلّقه الجميع لنقل الملفّ برمّته من الجيش الذي كان يدير المفاوضات، إلى لجنة جديدة ستضمّ، وفق المعلومات، ممثّلين عن رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية ووزارة الخارجية والجيش. فيما خيار الاستعانة بشركة أجنبية لحسم الترسيم يُطرَح في الصالونات المغلقة.
لم يُعرَف حتى الآن مدى تجاوب حزب الله والرئيس نبيه بري مع خيار الوفد السياسي الذي رفضاه سابقاً، وهل ينفّذ الجيش تهديده بالانسحاب من وفد التفاوض في حال تبنّي هذا الخيار.
وبرز أمس موقفٌ مهمٌّ للجيش خلال اجتماع قائده العماد جوزف عون مع كبار الضبّاط، إذ تحدّث في عدّة أمور تخصّ المؤسسة العسكرية، ومن ضمنها تمرير رسالة أساسية وضعت الكرة في ملعب السلطة السياسية، ومفادها أنّ “الجيش قام بواجبه الوطني، وملف ترسيم الحدود البحرية الآن ينتظر القرار السياسي. والجيش يخضع للسلطة السياسية، وقد قام بواجبه التقني في هذا السياق”.
الوفد العسكريّ إلى التقاعد
ماذا يعني ذلك؟ في الترجمة العملانية لهذا الموقف بات الجيش خارج ملعب الإدارة المباشرة للملفّ. وبقاء الوفد اللبناني، بقرار سياسي، من دون “رئاسة” عسكرية بعدما رَفَع قائد الجيش معادلة “اللهم إنّي قد بلّغت”، يُعزّز هذا التوجّه.
وتبدو السلطة السياسية كَمَن يرمي بجهود وفد لبناني عَكَس تماسكاً وصلابةً وقدرةً على توجيه البوصلة بما يخدم المصلحة اللبنانية، و”زَرَك” العدوّ الإسرائيلي في الزاوية، وأحبط مخطّطه في التمدّد والتنقيب في منطقة متنازع عليها، وحوّل قضية الترسيم البحري إلى قضية رأي عام استدعت عقد ندوات في المناطق.
مصادر متابعة لملفّ التفاوض: العمل على تقسيم حقل قانا يعني استكمال التنقيب الإسرائيلي في حقل كاريش بعيداً عن أيّ نزاع. فالإسرائيلي “آخر همّه” المفاوضات والتوصّل إلى حلّ، بل يسعى إلى استمرار النزاع قائماً على مساحة 860 كلم مربعاً، وعدم تعديل المرسوم الـ6433، وحفظ حقّه بالتنقيب في حقل كاريش بأمان
تترسّخ تدريجيّاً فرضيّة عقد تسوية حول ملفّ ترسيم الحدود، تتجلّى حدودها المكشوفة حتى الآن من خلال أكثر من عامل:
– صمت حزب الله التامّ حيال مسألة سيادية بهذا الثقل. وكان أعلن مسبقاً، على لسان أمينه العام السيد حسن نصرالله، “وقوفنا خلف ما تقرّره الدولة في هذا الشأن”.
– تمنُّع حكومة نجيب ميقاتي بالتوافق مع رئيس الجمهورية وجبران باسيل عن طرح بند تعديل المرسوم الـ6433 على جدول أعمال مجلس الوزراء، وفي الوقت نفسه تسليم الجيش الدفّة للسلطة السياسية.
– الاستعدادات الجارية لتشكيل وفدٍ مفاوضٍ جديدٍ سيكون للقوى السياسية الأساسية ممثّلوها فيه، بالتزامن مع تسليم الجيش دفّة التفاوض للسلطة السياسية، بناءً على كلام العماد عون نفسه. وفي السياق عينه أتى تسليم الوفد المفاوض رئيس الجمهورية دراسةً استراتيجيّةً شاملةً حول ملفّ الترسيم تقدِّم أجوبة وافية عن مطلب لبنان المحقّ بالتفاوض على الخط الـ29. ولم يُعرَف حتّى الآن هل أحالت رئاسة الجمهورية الدراسة إلى رئاسة الحكومة “للاطّلاع فقط” أو لاتّخاذ إجراءات تنفيذية يجب عرضها مثلاً على مجلس الوزراء أو لوضع تعديل المرسوم الـ6433 على جدول الأعمال.
هوكشتاين: الحلّ بالآبار المشتركة
في ظلّ هذا المشهد الداخلي المُرتبِك يصل الوسيط الأميركي الجديد في مفاوضات ترسيم الحدود البحرية أموس هوكشتاين إلى بيروت حاملاً، وفق المطّلعين، مقاربة جديدة للملفّ تقوم على تجاهل كلّ الخطوط، والتفاوض على الحقول المشتركة تحت البحر، وتقاسم الأرباح من خلال شركة تنقِّب في المنطقة المتنازع عليها، وتوزّع أرباحها على الطرفين.
يُذكَر أنّ الخطوط الراهنة هي الخط الإسرائيلي الذي يبدأ من النقطة (31) عند رأس الناقورة وينتهي بالنقطة رقم (1)، والخط اللبناني المعمّم بموجب المرسوم الـ6433 الذي ينطلق من النقطة رقم (18) عند رأس الناقورة وينتهي عند النقطة (23)، وخط “هوف” الذي ينطلق من 3 أميال غرب رأس الناقورة وينتهي بالنقطة H ما بين النقطة (1) والنقطة (23)، وخط الجيش المعروف بالخط الـ29 الذي ينطلق من نقطة رأس الناقورة، وهي النقطة التي تنتهي بها الحدود البرية وفقاً لاتفاقية Paulet-Newcombe، وينتهي بالنقطة (29)، وهو يعيد للبنان مساحة 1430 كلم مربعاً، وفقاً لدراسات عدّة، منها دراسة مكتب الهيدروغرافيا البريطاني UHKO، ودراسة الجيش، ودراسة الخبير الدكتور نجيب مسيحي.
وقد استبقت وزيرة الطاقة الإسرائيلية مجيء الوسيط الدولي بإعلان رفض “البحث عن حلّ بالطرق القديمة المُتمثّلة في رسم خطوط”، مؤكّدة أنّها “ستتحدّث إلى هوكشتاين قريباً”.
وقالت: “نتشارك في حقل غاز، ويتعيّن أن نجد حلّاً لكيفيّة استخدامه بما يجعل كلّ جانب يحصل على نصيبه منه بطريقة عادلة”.
وفق مطّلعين، فإنّ اقتراح هوكشتاين في شأن الآبار المشتركة “سيؤدّي إلى نزاع داخلي بين مؤيّد ورافض”. مع العلم أنّ النائب جبران باسيل سبق أن اقترح تغيير الوفد المفاوض والسير بخيار الآبار المشتركة كـ”عامل إضافيّ لرسم الحدود لجهة تقاسم الثروات عبر طرف ثالث
بلوك قانا
ما هي الترجمة العمليّة لاقتراح الآبار المشتركة هي البلوك رقم 9، أي حقل قانا؟
تقول مصادر متابعة لملفّ التفاوض: “العمل على تقسيم حقل قانا يعني استكمال التنقيب الإسرائيلي في حقل كاريش بعيداً عن أيّ نزاع. فالإسرائيلي “آخر همّه” المفاوضات والتوصّل إلى حلّ، بل يسعى إلى استمرار النزاع قائماً على مساحة 860 كلم مربعاً، وعدم تعديل المرسوم الـ6433، وحفظ حقّه بالتنقيب في حقل كاريش بأمان”.
ووفق مطّلعين، فإنّ اقتراح هوكشتاين في شأن الآبار المشتركة “سيؤدّي إلى نزاع داخلي بين مؤيّد ورافض”. مع العلم أنّ النائب جبران باسيل سبق أن اقترح تغيير الوفد المفاوض والسير بخيار الآبار المشتركة كـ”عامل إضافيّ لرسم الحدود لجهة تقاسم الثروات عبر طرف ثالث، أي شركة أو تحالف شركات عالمية ينفِّذ الإنتاج وتوزيع الحصص بين الطرفين المُتخاصمين”. وهو خيار مرفوض سلفاً من حزب الله.
إقرأ أيضاً: ترسيم الحدود على “نار حامية”.. واتصالات “توسّل” من سياسيين لبنانيين إلى واشنطن!
التاريخ يعيد نفسه!
يتخوّف المراقبون من ارتكاب الخطأ نفسه الذي ارتكبه لبنان عام 2011، حين تقاعست حكومة نجيب ميقاتي عن تعديل إحداثيّات الخط الـ23 جنوباً بالخط الـ29 بناءً على تقرير المكتب الهيدروغرافي البريطاني (UKHO) في شهر آب 2011، بعد حوالي شهر من إعلان إسرائيل للخط 1. ثمّ صدر المرسوم الـ6433 متجاهلاً التقرير البريطاني وكأنّه غير موجود. ولم يُعرَض التقرير آنذاك على مجلس الوزراء، بل أحاله مستشار ميقاتي جو عيسى الخوري إلى العقيد جوزف سركيس واللواء عبد الرحمن شحيتلي.
والعميد السابق في الجيش جوزف سركيس هو اليوم في عداد الفريق الاستشاري لميقاتي. وثمّة تخوّف من إهمال الدراسة الشاملة والاستراتيجيّة التي قدّمها الجيش وتثبّت حقّ لبنان بالمطالبة بمساحة إضافية في مياهه.