كيف الخروج من الاصطفاف الطائفيّ المتجدّد؟

مدة القراءة 9 د

الطائفيّة داءٌ لبنانيّ قديم أو عُملة لبنانيّة قديمة، ربّما أقدم من الليرة اللبنانية، التي فقدت قيمتها بعد عزٍّ واعتزاز. أمّا الطائفية فهي سلاحٌ لا يزال مستخدَماً وإن عرف مستخدموه أنّ آثاره وأثمانه وخسائره ربّما تكون أفدح على العيش المشترك من انهيار أسعار الليرة اللبنانية، لكنّهم يلتمسون الفوائد العاجلة من وراء إثارة العصبيّات.  

نحن اليوم في المرحلة الرابعة من مراحل استخدام الطائفيّة. أمّا المرحلة الأولى بعد قيام لبنان فقد كانت إبّان العمل الوطني على استقلال لبنان من الانتداب الفرنسي في مطالع الأربعينيّات من القرن العشرين. إنّما يومها استطاع الوطنيون اللبنانيون، مسيحيّين ومسلمين، تجاوُز الألاعيب الفرنسية، والأخرى الداخلية، إذ حقّقوا المصالحة الداخلية، وعملوا بالإجماع على استقلال لبنان وحقّقوه.

الطائفيّة داءٌ لبنانيّ قديم أو عُملة لبنانيّة قديمة، ربّما أقدم من الليرة اللبنانية، التي فقدت قيمتها بعد عزٍّ واعتزاز.

جاءت المرحلة الثانية في مطلع السبعينيّات من القرن الماضي، وقد غذّاها الوجود الفلسطينيّ المسلَّح، فتكوّنت “الجبهة اللبنانية” في وجه جبهة القوى والأحزاب الوطنيّة المتحالفة مع الفلسطينيّين، فنشب النزاع الداخليّ المسلَّح بين الميليشيات المسيحيّة والإسلاميّة، وتطاول حتى بعدما أخرج الإسرائيليون المسلّحين الفلسطينيّين من لبنان عام 1982. والمرحلة الثانية هذه لا تزال آثارها الغائرة مستمرّة، وأثّرت وتؤثّر في المرحلتين الثالثة والرابعة من مراحل استخدام الطائفيّة واستثمارها.

لماذا حدث ذلك ولا يزال يحدث أو يتجدّد؟

يرجع ذلك إلى أنّه منذ النصف الثاني من السبعينيّات الماضية، ظهرت راديكاليّتان في أوساط المسيحيّين والشيعة اللبنانيّين. وهاتان الراديكاليّتان لا تزالان مسيطرتين في أوساط الطائفتين الكبيرتين. الراديكاليّة الشيعيّة حملت لواء المظلوميّة مع حركة أمل. ثمّ حملت لواء المقاومة للاحتلال الإسرائيليّ لجنوب لبنان. ومن طريق المظلوميّة والمقاومة ملأت وظائف الدولة بالآلاف المؤلَّفة من الموظّفين، ومن طريق ميليشيا المقاومة صار عندها جيش أنشأته إيران ودرّبته وسلّحتْه، شارك في كلّ حروب المنطقة، وبخاصّةٍ في سورية، لمصلحة الاستراتيجيّة الإيرانيّة، وانتهى الأمر بأن سيطرت تلك الراديكاليّة الطائفيّة على لبنان حتّى اليوم. ومن الطبيعي، وقد حقّق الأمليّون والميليشياويّون ميزاتٍ وتفوّقاً للطائفة، أن تظلَّ السيطرة لهما في أوساطها، وأن يصبح المعتدلون غير الحزبيّين قلّةً مغلوبةً على أمرها.

أمّا الراديكاليّة المسيحيّة فإنّها شكّلت بدورها ميليشيات في الحرب الأهليّة للدفاع عن الدولة في وجه المسلّحين، ثمّ لحفظ “حقوق” المسيحيّين وأرجحيّتهم في نظام ما قبل الطائف. وبسبب دالَّتها في الحرب الداخليّة، واستمرار الإحساس بالمظلوميّة بعد الطائف الذي فرض مساواةً في التمثيل النيابي، وغرض المناصفة في التمثيل ووظائف الدولة الكبرى بين المسلمين والمسيحيين، فإنّ هذه الراديكاليّة استمرّت، بل وتصاعدت بحيث صار لها فرعان رئيسيّان متنافسان: فرع العونيّين والتيار الوطني الحرّ الذي تحالف مع حزب الله عام 2006 حتّى اليوم، وفرع القوّات اللبنانيّة الذي تحالف مع قوى 14 آذار بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري، ثمّ صار حليفاً للعونيّين بعد انفضاض 14 آذار، وهو الآن مستقلّ. بيد أنّ التنافس على “مَنْ هو المسيحيّ الحقيقيّ” لا يزال مستمرّاً بقوّة، كما سيتبيّن فيما بعد.

ولنصل إلى المرحلة الثالثة من مراحل استخدام الطائفيّة واستثمارها. وأعني بها مرحلة اتّفاق الطائف (1988-1990). صحيح أنّ الكثرة الساحقة من النواب المسيحيّين مضوا مع زملائهم المسلمين إلى مدينة الطائف السعوديّة عام 1989، وعقدوا اتّفاقاً تضمّن تعديلات للدستور وإقرار وثيقة الوفاق الوطني، وأنهى خلال عام الحرب الداخليّة بعد نفي الجنرال ميشال عون قائد الجيش “المتمرّد” إلى فرنسا. لكنّ المرارة الشديدة لدى المسيحيّين ما خفتت على الرغم من الطابع المنصف، بل التفضيليّ للمسيحيّين في دستور الطائف: بسبب بقاء السيطرة السورية، وبسبب “إضعاف” رئاسة الجمهورية المسيحيّة، كما قالوا، وبسبب استبعاد المسيحيّين، الذين شاركوا في الحرب، ومشاركة الميليشياويّين المسلمين. وعلى أيّ حال، فإنّ المسيحيّين ما شاركوا في أوّل انتخابات بعد الحرب، فظلّت راديكاليّتا عون المنفيّ وجعجع المسجون، على قيد الحياة. وقد تقوَّت الراديكاليّة الأولى فيما بعد، كما ذكرنا، بتحالف عون مع الحزب وتنكُّره لدستور الطائف. أمّا جعجع فراح يدافع عن “الخصوصيّة المسيحيّة” بأساليب أُخرى ولا يزال.

لا تزال الأجواء لدى المسلمين عاديّة، لكنّها ليست كذلك عند المسيحيّين. الراديكالية الشيعيّة تبدو هادئةً ومطمئنّة، وتتحدّث عن المازوت الآتي من إيران، وعن الانتصارات في حرب إيران على أميركا وإسرائيل

لقد استظهرتُ قبل أربعة أشهر أنّ “الصعود الطائفيّ” يدخل موجته الرابعة. والواقع أنّه كان ينبغي توقّع ذلك منذ عام 2006 عندما صاغ الجنرال وقتها ميثاقه مع الحزب وتحالف الأقلّيّات، وأظهر عداءً شديداً للدستور. وقد أفاد من ذلك في الانتخابات النيابية، وفي وصوله إلى رئاسة الجمهورية بمساعدة الحزب. لكنّ هجماته على السُنّة لم تتوقّف حتى بعد تحالفه مع سعد الحريري عام 2016. فالسُنّة، بحسب باسيل، هم الذين أكلوا حقوق المسيحيّين في الطائف وغيره. بيد أنّ حملات الجنرال وصهره ما أثارت حفائظ لدى المسلمين، إذ اعتبروها كلاماً فارغاً ليست له أرضيّة واقعيّة، ولا يدلُّ عليه نصُّ الدستور، إلى أن اندلعت الثورة، ثمّ وقع تفجير المرفأ.

لقد رأيتُ في مقالاتٍ لي بـ”أساس” في الشهور الأربعة الأخيرة أنّ حملات العونيين ربّما بدأت تؤتي ثمارها أخيراً بعدما كانت ثورة 17 تشرين 2019 قد نشرت جوّاً وطنيّاً عارماً غير طائفي اتّجه في جزءٍ منه ضدّ باسيل والرئيس وحزب الله. ولهذا التحوّل سببان: الاتّجاه المستجدّ في تحقيق جريمة تفجير المرفأ، والتحشيد السائد لجمع الأنصار على مشارف الانتخابات النيابية. والخصوصيّة المسيحيّة عادت للتصدّر لدى العونيّين والقوات والشبّان  “المدنيّين” المسيحيّين أو قسم منهم. إنّما الفرق بين العونيّين والقوات أنّ الأخيرين لا يذكرون المسلمين بشيء، ويهاجمون حزب الله، ثمّ يعودون للاتّفاق بشأن الطائف (العونيّون هجوم، والقوّات تجاهل)، وبشأن جريمة المرفأ، وأخيراً بشأن انفصاليّة المسيحيّين عن المسلمين بحجّة “التمثيل الصحيح” في الانتخابات. لقد استطاعت وسائل الإعلام (المسيحيّة) التحشيد ظاهراً بحجّة الحملة على إعاقة المحقّق العدليّ، حتى إنّها أنكرت على “المتّهمين” حقّهم في الدفاع عن أنفسهم بالوسائل الدستورية والقانونية والفنيّة. لقد صار الانطباع أنّ تفجير المرفأ مع ما نتج عنه من ضحايا قام به أو تسبّب به مسلمون. أمّا في ما يتّصل بالانتخابات، التي يحشد لها المسيحيّون أحزاباً وتياراتٍ على حدة، كأنّما هم يصوّتون بمفردهم، فيجري الحديث كلَّ الوقت عن الإعاقات لتصويت المغتربين، وهم يقولون إنّهم بالملايين، وبالطبع “كلّهم” من المسيحيّين.

لا تزال الأجواء لدى المسلمين عاديّة، لكنّها ليست كذلك عند المسيحيّين. الراديكالية الشيعيّة تبدو هادئةً ومطمئنّة، وتتحدّث عن المازوت الآتي من إيران، وعن الانتصارات في حرب إيران على أميركا وإسرائيل. وجاء وزير الخارجية الإيراني فأنذرنا، ولم يبشّرنا، بأنّهم يريدون بناء محطةٍ لتوليد الكهرباء على طرف بيروت في ملعب الغولف الذي يُقال إنّ تحته مركزاً للصواريخ الدقيقة (!).

أمّا الراديكاليّة المسيحية فتتزايد على مَن هو الأحقّ بأصوات المسيحيّين. وهي تستخدم في ذلك “حقّ” المسيحيّين في معرفة مَن تسبّب بقتل أبنائهم في جريمة تفجير المرفأ كأنّما المرفأ ليس مرفأ بيروت، وكأنّ الضحايا مسيحيون فقط. وفي التحشيد للانتخابات تنتشر الاتّهامات يميناً وشمالاً عن الإعاقات على المسيحيّين، وأنّه إذا استطاعوا تجاوُزها فسيغيّرون النظام بنيويّاً ويمضون إلى الفيدرالية أو ما هو أبعد.

معظم هذه الغوغائيّات أوهام بالطبع، وستولّد في تقديري إحباطات مسيحيّة مضاعفة، واندفاعاً متجدّداً نحو الهجرة. وقد نبّهتُ لذلك قبل مدّة، فاُتُّهمتُ بأنّي غير وطني، وإنّما “فم المذهب”، وكانوا يقصدون المذهب السنّيّ.

وعلى أيّ حال، فإنّ التوتّرات في أوساط المسيحيّين بسبب الانتخابات، وبسبب “جريمة العصر”، كما سمّاها بيان دار الفتوى، أعني جريمة المرفأ، أنذرت وتنذر بانقسام عموديّ من جديد بين المسيحيّين والمسلمين. فالمخاوف غير المخاوف، والآمال غير الآمال، مع أنّنا نعيش في مجتمعٍ واحدٍ، ودولةٍ واحدة. وقد حاججني بعضهم بأنّ الحال على هذا المنوال لدى جمهور الثنائي الشيعي أيضاً. وملخَّص القضيّة أنّه بسبب الهموم المتباينة لدى الراديكاليّتين المسيحية والشيعية، والخمود السنّيّ، ما بقي هناك فريقٌ قويٌّ وفاعلٌ يبحث عن المشتركات، ويدافع عن وثيقة الوفاق الوطني والدستور، ويتمسّك بشرعيّات لبنان الجامعة وعيشه المشترك.

وفي الواقع، فإنّني، منذ أكثر من عام، وسط الانهيار الشامل، استشرفتُ دائماً أملاً في خطاب البطريرك الراعي الذي يدعو دائماً إلى تحرير الشرعيّة، وإلى الحياد، وإلى المؤتمر الدوليّ من أجل لبنان. وقد كرّر ذلك في عظته يوم الأحد في 3/10/2021. ولذلك طلبت لقاءً معه، واقترحتُ عليه في لقاء معه الدعوة إلى “قمة روحية” يجتمع فيها القادة الدينيون اللبنانيون على بيانٍ لنصرة الدستور ووثيقة الوفاق الوطني، والعيش المشترك، بحيث لا نتلهّى جميعاً بمطالب الراديكاليّات وأحلامها، وانتظاراتها:

– فلا فائض قوّة الحزب خيرٌ على لبنان.

– ولا توتّرات الراديكاليّات المسيحيّة خيرٌ على لبنان.

– ولا التخاذل السُنّيّ عن الانتصار للشرعيّة الدستوريّة فيه خيرٌ للبنان.

فهل تكون في “قمّة روحيّة” بارقة أملٍ وسط هذا الظلام الدامس؟

إقرأ أيضاً: هل تُنهي القمّة الروحيّة “انقسام المرفأ” الطائفيّ؟

الأمل بالمرجعيّات الدينية التي لم يدخل معظمها في السرديّات الطائفية، ولا في محاصصات الفساد لتشكيل الحكومة العتيدة:

وطنٌ تفرّق أهله فتقسّما

ورجاله يتشاجرون على السما

والهرّ في أوطانهم يستأسد

مواضيع ذات صلة

تشدّد الرّياض: عودة عربيّة إلى نظام إقليميّ جديد؟

توحي نتائج القمّة العربية – الإسلامية بأوجه متعدّدة لوظيفة قراراتها، ولا تقتصر على محاولة فرملة اندفاعة إسرائيل العسكرية في المنطقة. صحيح أنّ القمّة شكّلت حاضنة…

الحرب الأهلية: هواجس إيقاظها بصورٍ كريهة

 اللغو اللبناني حول حظوظ البلد بارتياد آفاق حرب أهلية جديدة، ارتفع. قد يكون هذا الارتفاع على وسائل التواصل الاجتماعي سببه “شامت” بالوضع أو رافض لـ”الرفق”….

الرياض: حدثان اثنان لحلّ لبنانيّ جذريّ

في الأيّام القليلة الماضية، كانت مدينة الرياض مسرحاً لبحث جدّي وعميق وجذري لحلّ أزمات لبنان الأكثر جوهرية، من دون علمه، ولا علم الباحثين. قسمٌ منه…

الحزب بعد الحرب: قليل من “العسكرة” وكثير من السياسة

هل انتهى الحزب؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما هو شكل اليوم التالي؟ وما هي الآثار السياسية المباشرة لهذه المقولة، وكذلك على المدى المنظور؟ وما هو…