في بداية هذا الأسبوع، انشغل العالم بالعطل الذي طرأ على موقع فيسبوك وأخواته: واتساب وإنستغرام ومِسينجر. الأوّل في نقل الخبر في العالم كان هو الخبر. منذ أن أسّسه مارك زوكربرغ مع ثلاثة من رفاقه في جامعة هارفرد في عام 2004، أصبح فيسبوك، بسرعة قياسية، وسيلة الإعلام الأولى في العالم. بقيَ التلفزيون حتى الأمس القريب “جليسَنا على القبول والرفض” (كما كتب الإعلامي الراحل إيلي الصليبي في إحدى مقالاته). لكنّه أصبح اليوم شكليّاً في صدر الدار. عمليّاً، احتلّ فيسبوك الدار والمطبخ وغرفة الطعام والبلكون… تسلّل من دون استئذان إلى غرف النوم، ومن دون حياء إلى غرفة الاستحمام. الراديو، الذي لمع بنقل أخبار الحربين العالميّتين، اختفى من المنازل، ما خلا بيوت بعض المتقدّمين في العمر، الذين اعتادوا سماع الأخبار والأغنيات بواسطته. بات وجوده في السيارة اليوم كأحد الإكسسوارات. لكن هنا أيضاً فيسبوك حاضر. في بلدان القوانين حضورُه مخالفٌ للقانون. فقد يكلّف السائق “ظبطاً” موجعاً. أمّا في بلدان الفوضى، كلبنان، فهو وقِح في حضوره. لا يأخذ فقط مكان الراديو، إنّما أيضاً كلّ انتباه السائق، فيخطف الحياة أحياناً! وسائل الإعلام المكتوبة، التي سبقت الراديو والتلفزيون في نقل الخبر، والتي اشتاقت حروف كتّابها اليوم إلى الورق ورائحته لأنّها أصبحت رقميّة، حاجتها ماسّة إليه. من هنا السؤال: كيف تبوّأ فيسبوك “زعامة” وسائل الإعلام والتواصل بهذه السرعة في العالم كلّه؟
أثّر استعمال فيسبوك سلباً على عمل المؤسّسات التربوية. اعتاد الشباب على قراءة الخبر القصير، فأفقدهم ذلك القدرة على التركيز على قراءة الكتب والمقالات العلميّة الطويلة نسبيّاً
بحسب إحصاءات من عام 2020، بلغ عدد الناشطين على فيسبوك 2.8 مليار شهريّاً. معدّل تصفّح الموقع من قبل المشترك الواحد 35 دقيقة يوميّاً. يتمّ تحميل 100 مليون ساعة فيديو كلّ يوم. أمّا عدد الفيديوهات المعروضة فتحصد 8 مليارات مشاهدة يومياً. عالم الأعمال له مساحة كبيرة أيضاً: حوالي 160 مليون شركة في العالم لها حساب على فيسبوك. وفي مقدّمها شركات الإعلان التي تعرض من خلاله 96% من إعلاناتها. وقد أعلن زوكربرغ، ردّاً على الانتقادات التي طالت موقعه بسبب انقطاع خدمته لساعات: “نحن نجني المال من الإعلانات”. وهذا المال بلغ حوالي 85 مليار دولار عام 2020. أمّا ربحه فبلغ 30 ملياراً”.
بعد الاطّلاع على هذه الأرقام لا عجب إن رأينا في حياتنا اليومية كيف يُشغل فيسبوك الناس عن أشغالها. فأحياناً يُشغل الأمّ عن أولادها، والعامل عن عمله، ورجل الدين عن عبادته، والطالب عن درسه… وبعضهم يُعانون من الإدمان على فيسبوك.
الجيوش الإلكترونية
تنبّه السياسيّون إلى هذا الواقع وأهمّيّته، بخاصة في السنوات العشر الأخيرة. أنشأوا حساباتهم الخاصة وجيوشهم الإلكترونية. فالمعارك الإعلامية تُخاض اليوم بشكل أساسي عبر الشبكة العنكبوتية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، وأهمّها فيسبوك. تراجع دور التلفزيون والراديو والصحيفة المكتوبة في هذه المعارك. أكثر من ذلك، أصبح فيسبوك حاجة لوسائل الإعلام هذه. فلا تلفزيون ولا راديو اليوم من دون صفحة على فيسبوك. له سلطة تفوق أحياناً سلطة وسائل الإعلام التقليديّة. من لا يحترم معايير الموقع يحذف خبره ويحذفه، مهما علا شأنه. وهذا ما حدث مع الرئيس السابق للولايات المتحدة الأميركية دونالد ترامب. ففي حزيران 2021، علّق فيسبوك صفحته لمدّة سنتين.
أثّر استعمال فيسبوك سلباً على عمل المؤسّسات التربوية. اعتاد الشباب على قراءة الخبر القصير، فأفقدهم ذلك القدرة على التركيز على قراءة الكتب والمقالات العلميّة الطويلة نسبيّاً. اعتادوا كتابة البوستات المختصَرة بلغة فيسبوك، فلم يعودوا يتقنون الكتابة حتى بلغتهم الأمّ. هذا إضافة إلى انشغال الطلاب بفيسبوك حتى في قاعة المحاضرات في المدارس والجامعات، الأمر الذي أفقدهم التركيز على دروسهم. على الرغم من كلّ هذه النواحي السلبية لفيسبوك، تعتمده غالبيّة الصروح العلمية في العالم، وتخصّص له المكاتب والموظفين لإدارة صفحاتها يوميّاً، وللتسويق لمؤسّساتها وأفكارها ونشاطاتها وطرائق تدريسها…
في لبنان، كما في العراق، فيسبوك حاضرٌ بقوّة في نشاط “الثوار” والمنتفضين ضدّ الطبقة الحاكمة الفاسدة
الدخول الكبير لموقع فيسبوك عالم السياسة كان مع “الربيع العربي” فضلاً عن تويتر. عند تأسيسه سمح ديكتاتوريّو الدول العربية بدخول هذا الموقع إلى بلدانهم. من جهة، ليُظهِروا للعالم الغربي الحرّ انخراطهم في الثورة التكنولوجية وانفتاحهم على مبتكراتها. ومن جهة أخرى، اعتقدوا أنّ فيسبوك وسيلة تسلية يُلهون بها شعوبهم، بخاصة فئة الشباب، عن ممارساتهم القمعيّة. لم يعوا أنّ هذا الموقع سيكون منصّة ستسمح لهؤلاء الشباب بالتواصل فيما بينهم داخل البلد الواحد، ومع رفاقهم في الدول العربية، ومع أبناء جيلهم في العالم الحرّ، وأنّه سيتخطّى الحواجز الرقابية التي أقاموها على عقول مواطنيهم منذ عقود، وأنّه يصعب عليهم مراقبته وضبطه كما يفعلون مع وسائل الإعلام التقليدية التي جعلوها أبواقاً لهم لا تنطق إلا بلغاتهم الخشبيّة.
هكذا كان الشباب العربي، عشيّة “الربيع العربي”، ينشط على فيسبوك. فكان هذا الموقع الحليف الأوّل والأكثر وفاءً لهم. اعتمدوا عليه بشكل أساسي. من على منصّته أطلقوا “ثوراتهم”. في البداية، استعملوا صفحاتهم الخاصّة للدعوة إلى التظاهرات والاعتصامات. وبعد تأسيس الجمعيّات والتنسيقيّات واللجان وغيرها، أصبح لكلٍّ منها صفحتها الخاصّة تنشر عليها البيانات وتطوّر الأحداث… وراحت أيضاً توثّق مشاهد العنف في قمع التظاهرات والاعتصامات السلميّة، والاعتداء على النساء والأولاد والشيوخ… وثّقتها بالصوت والصورة من خلال خدمة الفيديو التي يوفّرها فيسبوك.
ما ساهم في كسب فيسبوك هذه الأهميّة في الحياة العامّة، وتحديداً في “الربيع العربي”، هو اختراع “ستيف جوبس” (السوريّ الأصل) للهاتف الذكي وانتشاره. حتى قال لي أحد أبناء حمص، مدينة ستيف، في بداية “الثورة” السورية: “الآيفون اليوم أهمّ من الكلاشينكوف والدبّابة”. ولذلك صرّح بشار الأسد في عام 2012 قائلاً: “يمكن أن يكونوا (المعارضة) أقوى في الفضاء (الإعلام)، لكنّنا أقوى على الأرض من الفضاء، ومع ذلك نريد أن نربح الأرض والفضاء”.
في لبنان، كما في العراق، فيسبوك حاضرٌ بقوّة في نشاط “الثوار” والمنتفضين ضدّ الطبقة الحاكمة الفاسدة. فمنذ ما قبل 17 تشرين الأول 2019، كان للعديد من الجمعيّات، التي نشطت في “الثورة”، صفحاتها على فيسبوك. وعلى الرغم من تراجع “الثورة” على الأرض، تستمرّ هذه الجمعيات في نشاطها على الموقع عبر نشر فضائح فساد الطبقة الحاكمة وفضائح السياسيين وكبار الموظفين في الدولة اللبنانية… وتُستَعمَل أيضاً هذه المنصّة لخوض الانتخابات النقابية. وهي اليوم تنشط في انتخابات بعض النقابات (مثل نقابة أطبّاء الأسنان ونقابة المحامين)، وفي انتخابات برلمان الشباب… أمّا انفجار 4 آب والتحقيقات فيه فهي حاضرة بقوّة على كلّ صفحات هذه الجمعيّات والأحزاب منذ لحظة وقوعه…
بالعودة إلى انقطاع خدمة فيسبوك يوم الاثنين الفائت، ربّما كان اللبنانيون الأقل انتباهاً من بين سكان الأرض إلى هذا العطل، وذلك بسبب كثرة الأعطال في حياتهم اليومية. فخدمة الكهرباء العاطلة التي أورثهم إيّاها جبران باسيل وسياساته “المكهربة” لا تسمح لهم بشحن بطاريات هواتفهم كفاية، فينقطعون لساعات وساعات، ليس فقط عن فيسبوك إنّما أيضاً عن محيطهم القريب والبعيد وعن العالم. وبسبب ضعف الإنترنت، غالباً ما ينقطعون عن كلّ خدمات الشبكة العنكبوتية…
إقرأ أيضاً: هل الحرب حتميّة بين الولايات المتّحدة والصين؟
مرّ قطوع الاثنين على “مارك زوكربرغ”. لكنّه تعرّض للانتقادات وخسر من المليارات سبعة على أقلّ تقدير. وفي اليوم التالي أعاد الكونغرس الأميركي فتح ملفّ الموقع العملاق بهدف وضع اليد عليه. فهل يشكّل تدخّل الكونغرس ذريعة لزوكربرغ للتبرّؤ من أيّ عطل قد يطرأ على موقعه في المستقبل تحت عنوان “ما خلّوني”؟
ربّما. لكن عليه استشارة جبران باسيل. ولا أعتقد أنّ هذا الأخير سيبخل عليه بالنصح. أليس هو مَن عرض على الأميركيين والبريطانيين أن يعلّمهم كيفيّة إدارة بلد من دون ميزانيّة؟!
* أستاذ في الجامعة اللبنانيّة