تكثر المؤشرات على أنّ شتاءً صعبًا ومخيفًا سيحلّ على العالم، في الوقت الذي تشهد الكثير من الدول أزمة طاقة، تزامنًا مع ارتفاع أسعار العقود الآجلة للغاز في أوروبا إلى قيمة قياسية جديدة، وتجاوزها الـ 1300 دولارًا لكل ألف متر مكعب، للمرة الأولى في التاريخ. في المقابل، ترتفع أصوات منادية بـ”السياسة الخضراء” والطاقة النظيفة، وذلك قبل فترة وجيزة تفصل عن الدورة السادسة والعشرين لمؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ المرتقب عقدها في تشرين الثاني 2021 في غلاسكو.
وإضافةً إلى الغاز الطبيعي، فقد سجّلت أسعار الفحم في أوروبا وآسيا أسعارًا مرتفعة، وبلغت أسعار النفط في الولايات المتحدة أعلى مستوياتها في سبع سنوات، وذلك مع ارتفاع أسعار البنزين دولارًا واحدًا للغالون مقارنةً بالعام الماضي.
الكاتب توماس فريدمان طرحَ موضوع الطاقة والحاجة للغاز الطبيعي قبل الانتقال إلى الطاقة النظيفة في مقال نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، موضحًا التغييرات في مجال الطاقة وانقطاع التيار الكهربائي بسبب النقص الشديد بتوفّر الطاقة النظيفة مع تخلّي الكثير من الدول عن طرق إنتاج الطاقة التي لا تتماشى مع المعايير البيئية. ولفت الكاتب إلى أنّ القوى التي تتضافر يمكن أن تدفع بالرئيس الروسي للتربّع كملك على القارة الأوروبية، فيما تسعى إيران لتصنيع قنبلة ذرية.
واستنادًا إلى ما تقدّم، يتوقّع خبراء ومراقبون أن يشهد العالم شتاءً قاسيًا، في الوقت الذي لن تستطيع فيه الكثير من العائلات في الطبقات الفقيرة والمتوسطة أن تقوم بتدفئة المنازل.
وذكّر فريدمان بالنشرة الإخبارية المالية التي يكتبها الإستراتيجي في لندن، بيل بلين، والذي لخّص فيها أوضاع الطاقة في المملكة المتحدة وأوروبا كما يلي: “هذا الشتاء، سيموت الناس من البرد. مع ارتفاع أسعار الطاقة، سيتكبّد الفقراء في المجتمع تكاليف غير متناسقة، سوف تتضّح التباينات في الدخل بشكل كبير حيث يوضع الأشخاص الأكثر ضعفًا في المجتمع بين خيار الحصول على التدفئة أو على الطعام”. ويضيف بلين: “هذا الشتاء، ستبحث المملكة المتحدة عن الطاقة من أي مكان متاح، والأمر نفسه بالنسبة لأوروبا التي تواجه المشاكل، عدا عمّا سيحدث في الشرق الأوسط. أمّا بوتين فلن ينتظر، بل سيدعو القادة الأوروبيين لمناقشة كلّ قضية على حدة، وفي مقدّمتها موضوع الغاز، إذًا هذا الشتاء سيكون صادمًا والحذر مطلوب”.
وعن كيفية وصول الدول إلى هذه المرحلة فيما يخصّ الطاقة، يوضح الكاتب أنّ الدول ذات الإقتصادات الرئيسية وقّعت على خفض انبعاثات الكربون عبر تخلّصها من أنواع الوقود التي تُسهم بالتلوث مثل الفحم لتدفئة المنازل وصناعات الطاقة. ولكنّ الجانب السيئ هو أنّ معظم هذه الدول نفذت ذلك بطرق غير منسقة، وحتى قبل أن ينتج السوق مصادر طاقة متجددة ونظيفة كافية مثل الرياح والطاقة الشمسية والطاقة المائية.
وبحسب فريدمان، فإن أرادت هذه الدول أن تُصبح صديقة للبيئة وليس لديها ما يكفي من الطاقة المتجدّدة، فإنّ الحلّ أمامها يكمن بالغاز الطبيعي، ولهذا تندفع للحصول على المزيد من هذه الطاقة التي باتت ضروريّة، علمًا أنّ روسيا تعدّ أكبر مورد للغاز في الاتحاد الأوروبي، في الوقت الذي تشهد أسعار الغاز ارتفاعًا قياسيًا بنحو 500%.
لكنّ هذه الأزمة لا تتوقّف على أوروبا، بل تنسحب أزمة الطاقة لتلقي بتداعياتها على موردي السيراميك والألمنيوم والزجاج والأسمنت في الصين، بينما تعاني الأسر في البرازيل من تراجع إنتاج الطاقة الكهرومائية مع نقص تدفق مياه الأنهار، إضافةً إلى سلسلة توريد الفحم والعقبات التي تسبّبت بها الجائحة وفاقمت المشكلة ودفعت بالإقتصاد نحو الركود، وتراجع الإستثمار في الطاقة الإنتاجية الجديدة للغاز الطبيعي وآبار النفط الخام.
لكنّ الاقتصاد انتعش مرة جديدة، مدفوعًا ببرامج التحفيز الحكومية وزاد الطلب على الطاقة. لكن الغاز الطبيعي لم يكن كافيًا لسد الفجوة. على سبيل المثال، تمتلك الولايات المتحدة ما يكفي من النفط والغاز الطبيعي لتلبية احتياجاتها الخاصة، ولكن قدرتها على تصدير الغاز الطبيعي المسال لمساعدة دول أخرى محدودة، لا سيما عندما يحاول كل مرفق في أوروبا وآسيا تلبية المعايير البيئية للطاقة النظيفة وبالتالي فهي بحاجة ماسة إلى استيراد الغاز الطبيعي، وبهذه الحالة إمّا ستواجه أسعارًا مرتفعة أو تنطفئ أنوارها.
والكاتب لا يعارض الطاقة النظيفة والحركات البيئيّة هنا، إلا أنّه يشدّد على ضرورة فرض ضريبة على انبعاثات الكربون في كل اقتصاد صناعي كبير واعتبار الغاز الطبيعي جسرًا للوصول إلى الطاقة النظيفة التي يحتاجها العالم والتي لا يتطلّب تحقيقها أن يتمّ توفير طاقة من الرياح أو المياه فقط.
وهنا ذكّر الكاتب بما قامت به ألمانيا عندنا اتخذت قرارًا في العام 2011 بالتخلص التدريجي من طاقتها النووية بحلول العام 2022، علمًا أنّ محطات الطاقة النووية كانت تنتج في العام 2000 ما يقارب الـ29.5% من الطاقة في ألمانيا. وقد تمّ استبدال تلك الطاقة بالرياح والطاقة الشمسية والمائية والغاز الطبيعي، ولكن لا يوجد ما يكفي الآن.
في هذا السياق، يشير بيل غيتس في كتابه المُعنون “كيفية تجنب كارثة مناخية” إلى أنّ “الطريقة الوحيدة لتحقيق أهدافنا المناخية تكمن بتحويل إنتاج الصناعات الثقيلة مثل الإسمنت والسيارات كذلك تدفئة المنازل وتزويد السيارات بالطاقة، إلى الكهرباء المولدة من الطاقة النظيفة. ويمكن أن تشكّل الطاقة النووية الآمنة جزءًا من ذلك لأنها مصدر الطاقة القابل للتطوير والمتوفر على مدار 24 ساعة في اليوم”.
وتتزامن أزمة الطاقة مع الجمود في المحادثات بين الولايات المتحدة وإيران حول الاتفاق النووي الذي انسحب منه الرئيس السابق دونالد ترامب في العام 2018 ومن دون وضع أي خطة بديلة لكبح البرنامج النووي الإيراني. ومن أجل الضغط، عزمت طهران على تخصيب اليورانيوم إلى مستويات قريبة من درجة النقاء المستخدمة في صنع الأسلحة النووية. وعلى الرغم من أنّها تحتاج وقتًا طويلًا لإنتاج رأس حربي أو ما شابه، إلا أنّ مسؤولين أميركيين يرون أنّ ما تريده إيران هو أن تقدّم نفسها كقوة نووية، وبينما تعهدت تل أبيب وواشنطن بعدم السماح لإيران بالاقتراب من تصنيع سلاح نووي، “يبدو أننا ندخل وقت الأزمة”، يقول فريدمان، متسائلًا: “ماذا لو قررت الولايات المتحدة أو إسرائيل توجيه ضربة لبرنامج إيران النووي في منتصف ما يمكن أن يكون أسوأ شتاء للطاقة منذ العام 1973؟ وماذا لو ردّت إيران باستهداف ناقلات نفط أميركية أو غربية في منطقة الخليج، حيث تتواجد قطر التي تعتبر أكبر مصدّر للغاز الطبيعي المسال في العالم؟ عندها سترتفع أسعار النفط والغاز مجددًا، وستتمتّع إيران فجأة بنفوذ جديد.