تأسّس النظام السياسي اللبناني على الانحراف في تطبيق القوانين. فبعد مرور 78 عاماً على استقلال لبنان تطالبه الدول بإجراء إصلاحات تحفِّز السير السليم لعمل المؤسّسات وتمنع الأحزاب والسلطة من التهام الخير العامّ. لكن يبدو أنّ الانحراف متأصّل في لبنان حتى لو وُجِدت القوانين المناسبة. فقد كشف عضو كتلة “التنمية والتحرير” ورئيس لجنة الشؤون الخارجية في المجلس النيابي اللبناني ياسين جابر لـ”أساس” عن وجود 72 قانوناً إصلاحيّاً تمّ إقرارها نهائياً في البرلمان وأصبحت نافذة، لكنّها لا تُطبّق. حتى إنّه تمّ التنسيق مع الأمين العامّ لمجلس الوزراء القاضي محمود مكّية عبر المواقع الإلكترونية للبرلمان والحكومة للإضاءة على هذا الواقع، وقام مكيّة في أوّل جلسة لحكومة الرئيس نجيب ميقاتي بتوزيع نسخ ورقيّة عن هذه القوانين للوزراء الجدد. إلا أنّ النظام الطائفي يُصعِّب مهمّة محاسبة المخالِفين والمعرقِلين من الوزراء الخاضعين لمرجعيّاتهم السياسية: “فالدستور اللبناني يسمح للنواب باستدعاء الوزراء ومساءلتهم، لكن يمكن لهؤلاء التسويف إلى حين انتهاء ولاية الحكومة، وغالباً ما لا يعطي الوزير جواباً مقنعاً، فيُستدعى إلى جلسة استجواب، وقد تُطرَح به الثقة، لكنّ كلّ ذلك تعترضه العوائق الطائفية التي قد تؤدّي إلى أزمة وطنية لا تُحمَد عقباها”.
كان جابر وزيراً للاقتصاد والتجارة في عام 1995، وتولّى منصبه الوزاري على مدى 4 أعوام في عهد حكومتين رأسهما الرئيس الشهيد رفيق الحريري. انتقل للتركيز على العمل البرلماني منذ نهاية عام 1998
26 عاماً أمضاها ياسين جابر في المجلس النيابي. ولكتابة بورتريه عن ياسين جابر، لا بدّ من بورتريه عن القوانين وعن مجلس النواب.
كان جابر وزيراً للاقتصاد والتجارة في عام 1995، وتولّى منصبه الوزاري على مدى 4 أعوام في عهد حكومتين رأسهما الرئيس الشهيد رفيق الحريري. انتقل للتركيز على العمل البرلماني منذ نهاية عام 1998 (مع العلم أنّه كان نائباً أثناء عمله الوزاري)، ونشط في التشريع في اللجان النيابية، خصوصاً في لجنة المال والموازنة التي تُعتبر المطبخ الماليّ للمجلس النيابي، ولجنة الإدارة والعدل. وهو يشغل حالياً منصب رئيس لجنة الشؤون الخارجية.
قبل التطرّق إلى القوانين الإصلاحية، التي أُقرَّت ولمّا تزل حبراً على ورق، من المهمّ التعرّف إلى آليّة العمل في البرلمان واللجان. في البداية، يحوّل رئيس المجلس النيابي القوانين ذات الأهميّة الخاصّة إلى اللجان المشتركة، بغية توفير الوقت وكيلا يطول مسارها في لجان مختلفة. عادةً ما تنبثق عن اللجان المشتركة لجنة فرعية مؤلّفة من مختصّين تتولّى دراسة القانون بتؤدة وعناية، وتستعين بآراء خبراء وتتشاور مع أعضاء في المجتمع المدني، وتضع أخيراً صيغة نهائية تعود إلى اللجان المشتركة، ثمّ إلى الهيئة العامّة. وقد رَأَس النائب جابر العديد من اللجان الفرعية التي عملت على قوانين رئيسية، وآخر لجنة فرعية رَأَسها كانت تلك التي تولّت العمل على قانون البطاقة التمويليّة، وقبلها قانون الشراكة بين القطاعين العامّ والخاصّ، وسواهما من القوانين.
قانون الشراء العامّ
يُعتبر قانون الشراء العامّ الأحدث ومن أكثر القوانين التي تلحّ عليها الهيئات الدولية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي والفرنسيون، نظراً إلى كونه قانون المناقصات. فأيّة شركات أجنبية ترغب بالاستثمار في لبنان تطلب أن تكون طرق مشاركتها في المناقصات شفّافة وواضحة. يرمي القانون إلى تجنّب الكثير من الانحرافات، ومنها ما حدث في عام 2018. يروي النائب جابر أنّه “تمّ في عام 2018 طرح مناقصة لاستقدام بواخر الغاز، شاركت فيها شركات عدّة، وفازت شركتا “إيني” الإيطالية و”قطر بتروليوم”. وبعدما ربحت الشركتان المناقصة لم يحدث شيء!”. يتابع: “زارتني نائبة وزير الخارجية الإيطالي منذ شهرين تقريباً، وكانت تتساءل كيف يمكن للبنان أن يطرح مناقصة من دون أن يتابعها. فالشركة الإيطالية تكبّدت مئات آلاف الدولارات للمشاركة، وربحت المناقصة، ولم يتّصل بها أحد!”. حدث ذلك، بحسب جابر، “بسبب تفرّد وزارة الطاقة، وهذا القانون الذي أُقرّ يعالج مشكلات مماثلة، بحيث لم يعد لكلّ وزارة أن تنظّم مناقصة بحسب هواها، بل توحّدت المعايير للجميع. في السابق كانت الوزارات تقصد دائرة المناقصات، أمّا الآن فقد فُتِح الباب للجميع، أي المؤسّسات العامّة والبلديات واتحادات البلديات، وكلّها يلتزم بأنظمة مناقصات جديدة، بحسب قانون المشتريات”. وفقاً لقانون الشراء العام، تمّ استحداث هيئة ناظمة للشراء العامّ، عوضاً عن إدارة المناقصات، تراقب وتمنع المخالفات، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، توقيع عقد سرّيّ لـ15 عاماً مع شركة سوناطراك، إذ يجب إعلان عملية الشراء على منصّة خاصّة واضحة وإلا تلغى.
عادةً ما تنبثق عن اللجان المشتركة لجنة فرعية مؤلّفة من مختصّين تتولّى دراسة القانون بتؤدة وعناية، وتستعين بآراء خبراء وتتشاور مع أعضاء في المجتمع المدني، وتضع أخيراً صيغة نهائية تعود إلى اللجان المشتركة، ثمّ إلى الهيئة العامّة
أُقرّ القانون في حزيران الفائت، وطعن “التيار الوطني الحر” بآليّة التعيين، “لأنّ “التيار الحرّ” يريد أن يبقي للوزير صلاحيّة أن يقترح الأسماء، فيما قمنا نحن بوضع آليّة شفّافة للتعيين عبر مجلس الخدمة المدنية، فلم يرُق الأمر للتيّار، ونشكر للمجلس الدستوري أنّه لم يقبل الطعن”، يقول جابر.
وفق هذا القانون، تقوم الهيئة الناظمة للمناقصات بمراقبة كل الإجراءات، وستكون دفاتر الشروط موحّدة. كلّ الآليّات موجودة ضمن القانون، وتمّ تشكيل هيئة تبتّ الاعتراضات خلال 10 أيام. أُعدّ هذا القانون في معهد باسل فليحان الدولي مع البنك الدولي والاتحاد الأوروبي والوكالة الفرنسية للتنمية ووستمنستر فاوندايشن. كلّها شاركت في صياغته. وقد صار نافذاً. كان من المفترض أن ترسل الحكومة مشروع القانون هذا بعد إقراره إلى المجلس النيابي، لكنّها تمنّعت عن ذلك في زمن حكومة سعد الحريري.
يروي جابر: “عرفتُ بوجود هذا القانون، وقدّمته كاقتراح قانون، ثمّ حكيت مع الرئيس برّي، فحوّله إلى اللجان المشتركة، حيث تشكّلت لجنة فرعية برئاستي قامت بدراسته ثمّ إقراره بعد العديد من ورش العمل، ثمّ أُقرّ في المجلس النيابي”.
قانون الشراكة بين القطاعين العامّ والخاصّ
يوجد أيضاً قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص: “أنا ضدّ أن تبيع الدولة موجوداتها. يُعتبَر لبنان اليوم بلداً غنيّاً، وهو لم يخصخص أيّ قطاع. تمتلك الدولة اللبنانية المطار وشركات الخليوي والاتصالات والمرفأ، ولا ننسى ملايين العقارات بمليارات الدولارات. كلّ هذه الموجودات ملك الدولة، ونحن ضدّ بيعها”.
إقرأ أيضاً: روكز فخامة المغوار (2/2): أخفق العهد بسبب محيطه
يضيف: “تكمن المشكلة في سوء الإدارة. وقد وجدنا أنّ الحلّ يكون بالشراكة بين القطاعين الخاص والعام. في عام 2010، في عهد حكومة الرئيس سعد الحريري، طلب وزير الطاقة جبران باسيل مبلغ 1200 مليون دولار، فعارضتُ شخصياً دفع هذه الأموال بفائدة 10 في المئة، واقترحت الشراكة، بحيث تبني شركات المحطات الكهربائية على مدى سنوات معدودة، ثمّ تعود ملكيّتها للدولة. لكنّ باسيل لم يقبل اقتراحي. عندئذٍ تقدّمتُ باقتراح قانون للشراكة بين القطاعين العام والخاص، ومرّ القانون في آب 2017. هكذا باتت لدينا آليّة قانونية للقيام بمشاريع شراكة ضمن القانون وبطريقة مدروسة. يفعّل هذا القانون عمل المجلس الأعلى للخصخصة والشراكة. ويجب عدم التصرّف بممتلكات الدولة من دون تطبيق هذا القانون النافذ”.
في الحلقة الثانية غداً:
كيف عرقل باسيل خطط الكهرباء