تستحوذ فرنسا على مكانة مميّزة في الوجدان والتاريخ اللبنانيّيْن، ويحتلّ لبنان مساحة مهمّة في الخاطر الفرنسي. فمنذ قرون والعلاقات السياسية الودّيّة والدبلوماسية العاطفية بين لبنان وفرنسا والاستراتيجيّة الجيّاشة والوضع الفريد للبنان منذ مرحلة ما قبل الجمهورية لم تتغيّر. وقد كانت البداية مع العلاقة بين فرنسا وفئة من اللبنانيين (الموارنة)، وبالتحديد منذ رسالة لويس التاسع في عام 1250، ثمّ مع تعهّد لويس الرابع عشر في عام 1649، إلى أن تحوّلت بتواتر السنين والأيام إلى علاقة شاملة مع الدولة اللبنانية بكلّ مكوّناتها.
لقد تحكّمت هذه المكانة بأسلوب السياسة الفرنسية اتجاه لبنان التي دُمِغت بطابع خاص من حيث الآليّات وأدوات النفوذ والضغط، فهي كالخليط الهجين والمتوازن بدقّة بين الدبلوماسية الكلاسيكية والتطبيق العملي لمنطق السياسة الخارجية ولشرط المصلحة في العلاقات الدولية، وبين السلوكيّات ذات الطابع المرن للدبلوماسيّة الدمثة. فهي لم تنطلق من موقف مصلحيّ صرف أو بالاعتماد الماديّ الدقيق لمعايير العلاقات الدولية، وإنّما كانت مجبولة بمنطق “التوفيق والوفاق بالعاطفة والحنّيّة وعدم التخلّي” مهما كانت الظروف، فكان النفوذ الليّن هو الأصل في الأداء، وكان السلوك الصلب أو القاسي هو الاستثناء.
كانت البداية مع العلاقة بين فرنسا وفئة من اللبنانيين (الموارنة)، وبالتحديد منذ رسالة لويس التاسع في عام 1250، ثمّ مع تعهّد لويس الرابع عشر في عام 1649، إلى أن تحوّلت بتواتر السنين والأيام إلى علاقة شاملة مع الدولة اللبنانية بكلّ مكوّناتها
وقد كان النفوذ الفرنسي المحرِّك الحقيقي المؤثّر في مجمل الأحداث المحليّة التي تعاقبت على لبنان، وبتكتيك النفوذ الناعم، على الرغم من ضموره وعجزه أمام الحروب والعصف الصلب لفترات ليست بقصيرة، منذ فترة القائمقاميّتين (1843) وبروتوكول المتصرفيّة (1861)، إلى فترة الانتداب وإعلان دولة لبنان الكبير عام 1920، مروراً بالاستقلال عام 1943، والجلاء عام 1946، وتعريجاً على انتفاضة عام 1958، واتفاق القاهرة عام 1969، فالحرب اللبنانية (اللاأهلية) في عام 1975، ووصولاً إلى اتفاق الطائف في عام 1989 الذي أنهى الحرب وساهم في تغيير الراعي الإقليمي، الأمر الذي وجّه حينها ضربةً قاسية إلى “المارونية السياسية”.
إلا أنّ كلّ هذه الأحداث كانت نتيجة قناعة راسخة في جوهر السياسة الفرنسية بأنّ لبنان الكلّ المتكامل، وليس الفئويّ، هو كيانٌ خاصٌّ ومستقلٌّ وكامل السيادة بجميع مكوّناته وتربطه بفرنسا علاقة تاريخية ومميّزة لا تتغيّر. وعليه، استخدمت فرنسا نفوذها بالطريقة التي تناسب وتحاكي الواقعية بالاستناد إلى نقاط أساسيّة تعتبر فرنسا بموجبها أنّ لبنان هو الأقرب إليها في منطقة الشرق الأوسط، وهو بوّابتها فيها ومنطقة نفوذها، وهذا باعتراف المجتمع الدولي في إدارته للتوازن ونموذج “الإيكوسيستام”.
لذا فإنّ عدم التقاء السياستيْن الفرنسية والأميركية على نقاط محدّدة اتجاه لبنان مردّه إلى الاختلاف في النظرتيْن وإلى طريقة مقاربتهما للقضية اللبنانية. فإذا كان جوهر السياسة الأميركية وفقاً لتعاليم وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر ينطلق من اعتبار لبنان “مجرّد موقع مميّز ذي أهمّيّة استراتيجيّة لمصلحة البراغماتية”، وإذا كانت المشكلة في لبنان، بحسب وزير الدفاع الأميركي الأسبق كاسبار واينبرغ، أنّه “ليس بلداً في الواقع. كان مجموعة من نوع ما، وشكّله خبراء، وحدوده ليست لها علاقة محدّدة بالجغرافيا والتاريخ. وهو مملوء بكلّ أنواع القبائل المتحاربة”، فإنّ فرنسا تقول على لسان زعيمها التاريخي ديغول: “في قلب كلِّ فرنسيّ جدير بالنبل، تهفّ نبضة خاصّة ما إن يسمع باسم لبنان”. لذا فإنّ أيّ تغيير في الجوهر اللبناني سوف يؤثّر بشكل سلبي على المعادلة في المنطقة، وهذا ما لن تسمح به فرنسا على الإطلاق حتى لو طال الأمد وتعرقلت خطوات النفوذ الناعم.
كان النفوذ الفرنسي المحرِّك الحقيقي المؤثّر في مجمل الأحداث المحليّة التي تعاقبت على لبنان، وبتكتيك النفوذ الناعم، على الرغم من ضموره وعجزه أمام الحروب والعصف الصلب لفترات ليست بقصيرة
ماذا يعني قوّة ناعمة ونفوذ ليّن؟
إنّ مفهوم القوّة الناعمة والنفوذ الليّن هو نفسه نموذج مركّب بأبعاد متعدّدة، فهو “المقدرة على جعل الآخرين يبغون النتائج التي تريدها بالاعتماد على قوّة الجاذبية وإقناع الآخرين، ومن دون إرغامهم على فعل ذلك”، إذ تحتوي القوّة الناعمة على معظم آليّات الحلّ التي تُمكِّن الدولة بغير صدامات من التأثير في الآخرين وجذبهم إليها من خلال منظومة واسعة من المبادئ العريضة، بالإضافة إلى الأفكار البنّاءة المشبعة بالحاجات والآمال المستدامة والعدالة الإنمائية المكرِّسة للاستقرار الاجتماعي والإنماء المتوازن، وجودة حقيقية لنظام التعليم ووسائل الإعلام والتواصل.
تحافظ فرنسا على هيبتها في لبنان بامتلاكها القلوب، وتحافظ على قوّتها بعاطفة النفوذ. وهي تتعامل مع لبنان بشكل مختلف كليّاً عن غيره من الدول، حتى الناطقة منها بالفرنسية. إنّ لبنان مركزيّ في النموذج الفرنكوفوني، وقد نجحت فرنسا منذ القِدَم في السيطرة وفي بسط نفوذها ذي الأثر الفعّال في القيادة والقرار من خلال دعم مختلف المرافق (الإرساليّات، المدارس والجامعات، المستشفيات)، صاحبة الأثر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، والتي تساعد في ولادة المشهد الجميل عند المجتمع الذي سوف يُعجَب بهذه القيم والمبادئ ويتطلّع حكماً إلى ما تؤمن به وتقوم عليه، فينتهج موقفاً إيجابيّاً من قيم فرنسا وسلوكيّاتها وتصرّفاتها ويدافع عنها من خلال سياسة الاستحواذ على “القلب قبل العقل”، وهي الباكورة التكتيكيّة لنجاح القوّة الليّنة والنفوذ الناعم، وهي ليست باستراتيجية سطحية أبداً.
ففي تصريح للسفير الفرنسي فيليب إتيان يقول: “نحن قوّة تعمل على تحقيق التوازن، فضلاً عن أنّنا قوّة مهمّة، ونحن نملك وسائلنا الخاصة”، ومن ضمن هذه الوسائل الخاصة ما يُسمّى بالنفوذ الناعم والقوّة العاطفية.
تستخدم فرنسا هذا الأنموذج في خضمّ صراعها الدولي، وفي سبيل الحفاظ على لبنان كمنطقة نفوذ لها بطريقة مرنة ومتكيّفة مع الظروف، وفي مواجهة خالصة مع الولايات المتحدة الأميركية، وخصوصاً بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، تحت عنوانيْن أساسيّيْن هما: “تهديد الأفول والاضمحلال لأدوات النفوذ”، و”العمل على كبح ولجم الاتساع لنطاق المنافسة والمواجهة مع القوى الدولية”.
إقرأ أيضاً: أميركا في لبنان: عاجزة بلا السعوديّة… وبداية خلاف مع فرنسا
هناك شبه توافق عالمي على محدوديّة وقصور القوة الصلبة عند تفرّدها في إدارة أزمة وفرض تسويات، وهو الذي يؤثّر عمليّاً على مدى نجاعة النفوذ الليّن ونجاحه أو قصوره في استخدام القوّة الناعمة من أجل خلق أداء عمليّ في العديد من الفترات في لبنان لاصطدامه بتكتيك الإدارة الأميركية السريع والصلب والبراغماتي، وذلك بسبب التمايز في النظرة ما بين الدولتين حول التوصيف الجوهري لحقيقة الدولة اللبنانية. لكنّ الغلبة للنفوذ الليّن والقوّة الناعمة في النهاية مهما تقلّبت الظروف لأنّهما متغلغلان في السلوكيّات والروح والمكتسبات.
*- استاذ محاضر في كلية باريس للأعمال والدراسات العليا.
– خبير قانوني في المفوضية الأوروبية.
– مستشار قانوني واستراتيجي في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس – سويسرا.