مفاوضات “الصندوق”: بين “راديكالية” الحزب.. و”الجوع” العوني

مدة القراءة 5 د

لا يحتاج نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي إلى مهارات التفاوض مع صندوق النقد الدولي. كلّ ما يحتاج إليه هو صبرٌ جميلٌ للتفاوض مع أعضاء الوفد اللبناني الذي يرأس.

فصندوق النقد آتٍ إلى اللبنانيّين بأجندة محدّدة للتفاوض كفيلة بجعل رئيس الجمهورية ميشال عون يستعين ويجنّد كلّ خبرته في التعطيل التي أبقت البلاد بلا حكومة 13 شهراً من دون أن يتنازل عن شروطه لتشكيلها. عليه الآن أن يختبر عناداً مماثلاً مع صندوق النقد.

 كان لافتاً صمتُ “حزب الله” عن التفاوض مع “صندوق النقد”، حتى يُخيّل للمتابع أنّه تخلّى عن توجّسه التاريخي من الصندوق وارتباطه بالسياسة الأميركية وشروطها الظاهرة والباطنة

الظاهر على السطح خلافٌ على تقدير الخسائر وتوزيعها بين أطراف النظام في لبنان. وخلف هذا الخلاف صراعٌ على شكل النظام المالي بعد الأزمة. لكنّ عُقَد التفاوض مع صندوق النقد لا تقف عند هذا الحدّ، بل تتجاوزه إلى كلّ بنود أجندة الصندوق، أو بتعبير أدقّ شروطه، وهي معلنة وواضحة وتتوزّع على أربعة محاور:

– المحور الأوّل يتعلّق بالحوكمة، وفيه يطلب الصندوق بشكل مباشر “تعزيز إطار مكافحة الفساد، وتحسين أداء المؤسسات المملوكة للدولة”، ويسمّي “قطاع الطاقة” بالتحديد دون سواه، وهو القطاع الذي يمسك به فريق رئيس الجمهورية منذ أكثر من عشر سنوات. والمهمّ في هذا الإطار أنّ الصندوق يطلب إجراء عمليات “تدقيق” لحسابات مصرف لبنان ومؤسسة كهرباء لبنان على قدم المساواة.

يتجاهل فريق رئيس الجمهورية هذا المحور، لأنّ حوكمة قطاع الطاقة تعني أوّل ما تعنيه تعيين الهيئة الناظمة للكهرباء، وهو ما لا يريده الرئيس لأنّه يكفّ يد جبران باسيل عن إدارة القطاع برمّته. يأخذ الفريق العونيّ من هذا المحور فقط مسألة التدقيق في حسابات مصرف لبنان، وهو يُغيِّرها إلى “تدقيق جنائي”، والفرق شاسع بين المفهومين، فيما يتجاهل طلب التدقيق في حسابات كهرباء لبنان.

– المحور الثاني يتعلّق بإعادة هيكلة الدين العامّ، وإجراء إصلاحات في الماليّة العامّة، مع توسيع شبكة الأمان الاجتماعي الضروريّة لحماية الفئات الأشدّ ضعفاً. في هذا السياق أيضاً، ستصطدم أجندة الصندوق بعدم استعداد أطراف السلطة للتخلّي عن السلطة الاستنسابية في إنفاق الأموال العامّة وتسخيرها لضمان ولاءات المحازبين.

ويستلزم هذا المحور نجاح التفاوض مع حاملي سندات اليوروبوندز اللبنانية، وهي مهمّة تحفّها الصعوبات.

– المحور الثالث يتعلّق بإعادة هيكلة القطاع الماليّ التي “تبدأ بالاعتراف مقدَّماً بخسائر البنوك الخاصّة ومصرف لبنان، مع مراعاة حماية صغار المودعين”. وفي هذا الصدد، سيكون الاصطدام بأصحاب المصارف الذين يطمحون إلى تحميل فاتورة الأزمة للدولة والمودعين، ولا يريدون أن يقرّوا بأنّ الخسائر محت القواعد الرأسماليّة لبنوكهم.

– المحور الرابع يتعلّق بإصلاح السياسة النقدية وتوحيد أسعار الصرف المتعدّدة، مع وضع قيود رسميّة مؤقّتة على رأس المال (كابيتال كونترول). وستأتي المقاومة من مصرف لبنان والبنوك والدولة على حدّ سواء، ولكلٍّ أسبابه. فتوحيد سعر الصرف يكشف حقيقة الوضع المالي للبنوك ومصرف لبنان، ويُنهي الزيف الفاضح في تقويم موجوداتها، ويجعل الدولة تواجه الحقائق كما هي، ويضعها تحت الضغط لتصحيح الأجور.

في السياسة، تتحدّى المفاوضات مع صندوق النقد الدولي استحالتين: التناقض “الراديكالي” مع “حزب الله”، بالمعنيَيْن السياسي والأيديولوجي، و”الجوع” العونيّ للسلطة

“اللبنانات” على الطاولة

لا ينقص الشامي شيءٌ من سداد الرأي، وهو الذي قضى عقدين من عمره في صندوق النقد، ناصحاً الدول التي هي في مثل حال لبنان أو أسوأ، ومفاوضاً وربّما فارضاً الشروط. لكن لا رأي لرئيس الوفد إن كان لا يُطاع.

فعندما يبدأ التفاوض سيتّضح مَن هو القادر على إعطاء التعهّدات لصندوق النقد: رئيس الوفد؟ أم ممثّلو رئيس الجمهورية ومراكز القوى الأخرى في النظام؟ وسيتّضح أيّ التفاوضيْن أصعب: أهذا الذي بين لبنان والصندوق؟ أم ذاك الذي بين ممثّلي “اللبنانات” الجالسين إلى الطاولة؟

في السياسة، تتحدّى المفاوضات مع صندوق النقد الدولي استحالتين: التناقض “الراديكالي” مع “حزب الله”، بالمعنيَيْن السياسي والأيديولوجي، و”الجوع” العونيّ للسلطة.

في الاستحالة الأولى، كان لافتاً صمتُ “حزب الله” عن التفاوض مع “صندوق النقد”، حتى يُخيّل للمتابع أنّه تخلّى عن توجّسه التاريخي من الصندوق وارتباطه بالسياسة الأميركية وشروطها الظاهرة والباطنة. وذاك صمتٌ يمكن أن يُرَدّ إلى البراغماتية بقدر ما يمكن أن يُرَدّ إلى النفاق السياسي. إذ ليس لدى الحزب مشروع اقتصادي يعوّل عليه، لا راهناً ولا في الماضي، وليس لديه بديل يقدِّمه لجمهورٍ أولويّته الاقتصاد والمعيشة قبل أيّ شيء آخر هذه الأيّام، اللهمّ إلا قافلة صهاريج مازوت وتشكيلة من قذائف “آر بي جي” لزوم الاحتفال بإقبالها الميمون! وإذا كانت إيران الأمّ طلبت المساعدة من صندوق النقد الدولي العام الماضي، وهي تطلب من واشنطن الآن الإفراج عن عشرة مليارات دولار من أموالها المجمّدة كبادرة حسن نيّة قبل العودة إلى طاولة المفاوضات النووية، فليس من المعقول أن يكون تعاطي “حزب الله” مع ملفّ التفاوض مع الصندوق بوصفه ملفّاً اقتصادياً تقنيّاً لا تدخل فيه لعبة الأمم.

إقرأ أيضاً: الحزب مرتبك.. فهل يُغيِّر سلوكه؟

أمّا الاستحالة العونيّة فمردّها إلى العقليّة التي تحكم تصرّف هذا الفريق في الحكم، وهي عقليّة انتقامية آتية من جوع عتيق إلى السلطة ومنافعها. وقد قالها جبران باسيل في مجلس خاصّ قبل سنوات في معرض تبريره المبالغة في توزيع أعمدة الكهرباء في قضاء البترون. قال: “أخذوا حصّتهم منذ التسعينيّات ولم نكن مشاركين، ونحن نأخذ حصّتنا عن تلك السنين”.

عقليّة “الفجع” هذه لم تنتهِ حتى بعدما أفلست الدولة، ولن تنتهي فداءً لإنجاح المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.

مواضيع ذات صلة

كريم خان يفرّغ رواية إسرائيل عن حرب “الطّوفان”

تذهب المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي إلى المسّ بـ “أبطال الحرب” في إسرائيل، رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع المقال يوآف غالانت. بات الرجلان ملاحَقَين…

هل يريد بايدن توسيع الحروب… استقبالاً لترامب؟

من حقّ الجميع أن يتفاءل بإمكانية أن تصل إلى خواتيم سعيدة المفاوضات غير المباشرة التي يقودها المبعوث الأميركي آموس هوكستين بين الفريق الرسمي اللبناني والحزب…

مواجهة ترامب للصين تبدأ في الشّرق الأوسط

 يقع الحفاظ على التفوّق الاقتصادي للولايات المتحدة الأميركية في صميم عقيدة الأمن القومي على مرّ العهود، وأصبح يشكّل هاجس القادة الأميركيين مع اقتراب الصين من…

الحلّ السعودي؟

ينبغي على واشنطن أن تُدرِكَ أنَّ المملكة العربية السعودية الأقوى تَخدُمُ الجميع، فهي قادرةٌ على إضعافِ قوّةِ إيران، كما يُمكنها أن تدفع إسرائيل إلى صُنعِ…