ليس هناك أيّ منطق في عقد مقارنة بين دولة عظمى مزدهرة كألمانيا وبين بلد صغير مفلس كلبنان. لا الإرث التاريخي، ولا المساحة الجغرافية أو الوزن الديموغرافي، ولا الثقل السياسي والاقتصادي والمساهمة القديمة والراهنة في الحضارة الإنسانية، تجيز مثل هذا التمرين.
لكنّ الحدث الكبير المتمثّل في انسحاب مستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل من الحياة العامّة بعد ستّة عشر عاماً، والدفق الهائل من الأضواء الذي أُلقِي على المسيرة الاستثنائية لهذه السيّدة، يغريان أيّ لبناني بأن يقيم، ولو بحسرة شديدة، مقارنة بين ابنة القسّ البروتستانتيّ التي جعلت من نفسها المرأة الأقوى في العالم والقائد الفعليّ للاتحاد الأوروبي، وبين الرئيس الذي تحوّل لبنان على يديه إلى دولة فاشلة وصار عهده الأسوأ في تاريخ الجمهورية.
نموذجنا اللبنانيّ لا يدرك قلّةَ جاذبيّته الشخصيّة، ولا يرى نفسه إلّا في صورة بونابرت العائد من منفاه في جزيرة إلبا للملمة شتات جيشه واستئناف حروبه التي لا تنتهي
التأمّل في الحالتين هنا جائز، لأنّه لا يتعلّق بأوزان الدول وحجمها وتأثيرها، بل بأوزان القادة الذين دفعتهم الأقدار إلى تسلّم الدفّة في بلدانهم، وبصفاتهم وكفاءاتهم وقدرتهم على اتّخاذ القرارات التي رسمت مصير شعوبهم. نستذكر من هذا الصنف من القادة نموذجيْن فذّيْن تولّيا مقادير بلدين صغيرين:
– لي كوان لي الذي حوّل سنغافورة، التي لا تفوق مساحتها سدس مساحة لبنان، من جزيرة ملأى بالمستنقعات والبعّوض إلى واحد من أهم المراكز الماليّة في آسيا.
– وزايد بن سلطان آل نهيّان الذي حوّل صحراء قفراً إلى جنّة خضراء، ورسم نهجاً للحكم جعل دولة الإمارات درّة العالم العربي وأحد البلدان الأكثر استقراراً ورخاءً وجذباً للاستثمارات في العالم.
سمتان شخصيّتان فقط يتشاطرهما ميشال عون وأنجيلا ميركل: ضعف الجاذبيّة والارتباك المؤدّي إلى التلعثم في الكلام أمام الجمهور:
في المسألة الأولى كتبت “الغارديان” أنّ أداء ميركل عندما أصبحت وزيرةً للبيئة منتصف تسعينيّات القرن الماضي “حوَّل انعدام الكاريزما لديها إلى نوع من الكاريزما التي تنضح صدقاً”.
أمّا في السمة الثانية فقد جعلها ارتباكها أمام الجمهور تلجأ إلى عادة شبك يديها أمامها لتقول من الكلام ما هو مختصر ومباشر وذو قيمة ومعنى قبل أن تنصرف سريعاً وبخفر إلى إدارة شؤون الدولة.
سمتان شخصيّتان فقط يتشاطرهما ميشال عون وأنجيلا ميركل: ضعف الجاذبيّة والارتباك المؤدّي إلى التلعثم في الكلام أمام الجمهور
ماذا عن لبنان؟
نموذجنا اللبنانيّ لا يدرك قلّةَ جاذبيّته الشخصيّة، ولا يرى نفسه إلّا في صورة بونابرت العائد من منفاه في جزيرة إلبا للملمة شتات جيشه واستئناف حروبه التي لا تنتهي. أمّا التلعثم في الخطاب فقد وجد له علاجاً مبكراً في نداء سحريّ بصوت جهوريّ إلى “شعب لبنان العظيم”، وهو النداء الذي ترتعد له الفرائص وترتفع معه هتافات التأييد إلى عنان السماء، حاجبةً كلّ ما بعده من كلام مملوء بالترّهات والوعود بانتصارات آتية.
اجتهدت أنجيلا ميركل لتحصيل شهادة الدكتوراه في الكيمياء الكمّيّة من جامعة كارل ماركس (لايبزيغ حالياً). حملتها بتواضع العلماء لتبدأ مسيرة ناجحة في الحقل العامّ تولّت خلالها مناصب حزبية ووزارية عديدة قبل أن تصبح في عام 2005 أوّل سيّدة تجلس على كرسي المستشار وتقود بلادها وشعبها على طريق الرخاء والريادة والاستقرار، في عالم مضطرب يحكمه مجانين مثل دونالد ترامب، ودهاة من طينة فلاديمير بوتين، وذئاب جامحة مثل شي جين بينغ.
إلى جانب هؤلاء وأمثالهم، واجهت كلّ أنواع الأزمات، التي كان أخطرها الانهيار النقدي عام 2008، متّبعةً على الدوام نهجاً عقلانياً وهادئاً وغير صداميّ ينحو نحو التسويات والحلول الممكنة التي تضمن مصالح الجميع. وفي الداخل الألماني، وضعت جانباً انتماءها الحزبي في إدارة شؤون الدولة، وقادت البلاد بحكمة ونزاهة وكفاءة عالية مع منسوب عالٍ من الحنوّ الإنساني أكسبها لدى الألمان لقب “الأمّ”.
ميشال عون، وقبل أن يسمّي نفسه أو يسمّونه “بيّ الكل” بزمن بعيد، تأبّط شهادة الثانوية العامّة وما حصّله من علوم عسكرية في المدرسة الحربية ومن خبرة قتالية في حروب لبنان المديدة، وانتقل من نجمة أولى على الكتف إلى ثانية، ثمّ إلى رتبة متقدّمة، وبعدها إلى تلّة عالية في سوق الغرب حيث دفعه ضجيج المدافع على الأرجح إلى الاقتناع بقدرته على كتابة التاريخ.
الفصل الأوّل في كتابه كان بعنوان “حرب التحرير”، والتالي “حرب الإلغاء”، وبعدهما حكومة لا تشبه لبنان. ثمّ جاء فصل اتفاق الطائف الذي أظهره الأكثر بعداً عن فهم الواقع السياسي وموازين القوى الإقليمية، ووضعه خمس عشرة سنة في المنفى قبل أن يعود على دماء الشهيد الرئيس رفيق الحريري. بقيّة الفصول يحفظها اللبنانيون عن ظهر قلب، بكلّ ما فيها من صخب وإسفاف وتحريض طائفي وتعطيل لمؤسسات الدولة والارتماء الكامل في حضن محور هو بطبيعته على النقيض التامّ لفكرة السيادة الوطنية الناجزة والدولة القوية التي طالما وعد بها الجنرال شعبَه العظيم.
وها نحن نعيش ما يُفترَض أنّه السنة الأخيرة في الفصل الأخير، بعد خمس عجاف وصل فيها لبنان إلى قعر القعر، مرميّاً على قارعة العالم وفاقداً لأسباب الحياة. ومع ذلك، لا يزال الرجل مستمرّاً على النهج نفسه، يحتقر الدستور ويعيّن كلّ يوم عدوّاً جديداً، ويسجّل مأثرةً تلو مأثرة في سجلّ الفشل المتمادي لعهده البائس.
إقرأ أيضاً: ميركل: هكذا فشلت في فلسطين
لنعُد إلى أنجيلا ميركل وننحني احتراماً لها وهي تنسحب عن المسرح بهدوء، بعدما قدّمت لبلدها ما هو متوقّع من زعماء تحفظ لهم كتب التاريخ موقع الصدارة. ولنتحمّل سنة إضافية من الخراب الوطني في انتظار الموعد الذي سينسحب فيه “السيّد الرئيس”، والذي يتوقّف على كونه فعلاً راغباً في الرحيل أو مصمّماً على البقاء حتى يتأكّد من رحيلنا جميعاً قبل أن يُطفىء الأنوار ويسلّم مفاتيح لبنان إلى العدم.