كلام الأسرى الفلسطينيين (2): زواج.. خلف القضبان

مدة القراءة 16 د

نشرت مجلة “الدراسات الفلسطينية” عدداً خاصّاً عن الأسرى بعنوان “كلام الأسرى.. عيون الكلام”، وذلك تزامناً مع عملية الهروب الجماعي البطولية التي نفّذها ستة أسرى من سجن جلبوع شديد الحراسة في شمال إسرائيل، وقهروا من خلالها آلة السجن الإسرائيلية.

بعد افتتاحية رئيس التحرير الكاتب الياس خوري أمس، ننشر اليوم قصّة “زواج خلف القضبان” كتبها الأسير في سجن النقب سائد سلامة، ونبدأ من الغد في نشر 4 حكايات لأربع أسيرات حُرّرن مؤخراً من سجن الدامون المخصّص للأسيرات، اتُّهمن بأنهن “مخربات” و”من دون ترباية”…

 

دخل إلى قاعة الزيارة؛ كان الوقت صباحاً، وقد صحا باكراً هذه المرة، كي يكون له الوقت الكافي لتهيئة نفسه. بدا مفعماً بالحيوية ومملوءاً بشغف يحثّه على غاية ما. هو نفسه لا يدري سبباً لاتّقاد نار الحياة فيه هذا الصباح، لكنه لا يأبه ما دام ينضح بعبق الأمل الدائم.. الأمل الذي يجدد فيه عشقاً للحياة. حثّ الخطى نحو الحاشية القصية، ولم يكن اختياره لها قراراً بقدر ما كان تلقائية تسوقه وتحمله مثل ريشة تعبث بها الرياح. جلس على الحاشية المتطرفة يتوخى شيئاً من الاحتجاب الذي يمنحه بعض الخصوصية، ثم شرع يتشاغل بأصابع يديه تلهياً في انتظار وصولها.

فُتح باب القاعة من الجهة المقابلة، وانفلت تيار الزائرين وشرع يتدفق. كانت الوجوه كعادتها مرايا لأشواق ولهفة حارقتين.. الوجوه التي يجللها تعب التفتيش والتنكيل، ستظل تشرئب نُشداناً للأحبة الغائبين. أقبلت تتطاول بين القامات المتزاحمة، وكانت تسير بخطى وئيدة كأنما تتمنّع من محاكاة الآخرين في سيرهم المحموم. فقد علّمها طول الفراق بأن اللقاء يؤجج الأشواق ولا يطفئها، وأن الوصال يكمن في دوام الوفاء مهما يطل الغياب.

رآها بعيون قلبه قبل أن تبصرها عيناه، فلم يبارح مكانه. ستأتي من تلقاء نفسها ولا حاجة به إلى أن يومىء إليها عن مكانه، لحظة أو لحظتين ستتبيّن مكانه وستسير نحوه مثل فراشة تسعى للضوء. ألم تأتِ اليه يوماً من دون أن يعرفها؟ لقد ساقتها الدروب وحطت بها في محطة عابرة، وارتضت بعد ذلك أن تعلق مصيرها على مشنقة الانتظار. وسيظل هو يتذكر ذلك ولن ينساه.

زوجان تعارفا وقضبان السجن تفصل بينهما، فخطرت لي فكرة ساذجة لا تصيب إلّا أذهان الحمقى. أردتُ أن ألتقيك في اللازمن

وقفت قبالته، يفصل بينهما حاجز زجاجي وخط هاتف ما زال مغلقاً ينتظر أن يأذن الضابط بفتحه. لوّحت بيدها تحييه، وراحت ترسم بشفتيها كلمات تستكمل بها تحيّتها وتكسر حاجز الفصل الذي يجثم فوق صبرهما. بادلها بتحية مماثلة، ثم استوى واقفاً بحركة مسرحية مفاجئة، وأخذ يرتب هندامه وهو يأتي بحركات ونظرات تستفهم ردة فعلها، كأنه يتخذ منها مرآة يستطلع بها هيئته ومَرْآه. كانت حركاته لا تخلو من لمسة افتعال ظاهرة، فبدا لها كأنما يقوم بأداء دور تمثيلي غايته تخفيف وطأة الانتظار. منذ زمن لم ترَ فيه هذا الحس الدعابي الذي تميز به دائماً، وقد غلب على ظنّها أنه لن يعود إليه أبداً، بعد أن زحف الإعياء إلى جسده، ولوّثت مسحة كآبة محيّاه بسبب خضوعه للعلاج الكيماوي. اليوم بدا لها كعهده السابق مفعماً بالحيوية والنشاط كأنما استردته من ضياع كاد يبتلعه، وكان هذا حرياً بأن يُدخل السرور إلى نفسها، فانشرحت أساريرها وبدت له في المقابل كأنها تواكبه على مسار يتهيئان لارتكابه. أخرج منديل “كلينكس” ورقياً من جيب بنطاله وراح يمسح الزجاج وهو يطالعها بنظرات متفحصة. كان يعلم أن البقع الظاهرة على الزجاج – والتي تخدش الرؤية الواضحة – لم تكن مطبوعة على الجهة التي يجلس فيها، ومع ذلك ظل يكرر المسح بهمّة عالية. كانت تناظره بعيون متواطئة، وهي تنفذ شيئاً فشيئاً إلى مقصده، ثم ابتسمت وأخرجت منديلاً صغيراً، وأخذت تمسح الزجاج من الجهة التي تجلس فيها، وهي تدرك أن أبلغ المعاني تلك يحتويها الصمت، وأن أجمل الكلام هو الذي نفصح عنه من دون أن نجهر به.

خط الهاتف ما زال مغلقاً، والوقت رحى تطحن الصبر وتصهر الأشواق، والجميع ينتظر على أحر من الجمر أن يقوم الضابط بفتحه إيذاناً ببدء الزيارة. فُتح خط الهاتف، فبادرته بالسؤال عن حاله والاستفسار عن صحته. طمأن بالها عن نفسه وبرّد نار روحها بسلامة حاله، ثم سال الكلام على الكلام وامتزجت عصارات القلوب واختلط الغياب بالحضور، وانخرطا في ثنايا الحديث قطبين متجاذبين. سرّها أن تراه في حال جيدة، فامتلأت بِشْراً واستبشرت خيراً وراحت تحاول أن تصعّد فيه همّة للارتقاء فوق عوائد ما مر عليه من اضطراب صحته واعتلال أمره خلال الفترة السابقة. فقالت بصوت تترجرج في أوتاره نغمة الفرح:

– تبدو منتعشاً كأنك صغُرتَ عشرين عاماً. يبدو لي أن انقطاعك عن القراءة والكتابة أيقظ فيك موهبة لم تكن قد اكتشفتها من قبل.

– ماذا تقصدين؟

– رأيت فيك ممثلاً وأنت تؤدي ذلك المشهد الصامت.

بحسّه الماكر وفطنة لا تنقصه، شعر بأن طرف خيط يلوح له في الأفق فقرر أن يلتقطه.

– هي محاولة تعبيرية أولى لاستنطاق النص الذي يحوي مقاطع مثيرة، لكن لا أعلم إن كان في امكاني أن أؤديها بشكل لائق. رد بتلقائية لافتة.

شعرت بأنها تورطت في شرك نصبته لنفسها. فهو خير مَن يجيد امتطاء متون الأشياء، ويعرف كيف يتحكم في دفّة الحديث ليُرسيه على الضفة التي يبتغيها.

رسمت على وجهها ابتسامة صغيرة ثم استدركت قائلة:

– ليس لديّ أي شك في أن ما أديته قبل قليل لا يخلو من هزل، ولن يفاجئني أي شيء قد يصدر عنك، وخصوصاً إذا كان خارج النص.

نظر إليها بطرف يشعّ بالحميمية، أو هكذا حاول أن يوحي لها. وبصوت جاهد كي يحمّله نبرة شجن قال لها:

– تحدوني رغبة عارمة في أن أحتضنك.

لم يفلح في مجانبة الافتعال، فخرجت عبارته جافة تخلو من أي انفعال في معناها، فأدركت أنه يسعى لغاية ما.

– كان أداؤكَ في المشهد الصامت أكثر إقناعاً، لا أدري إن كان عنصر الصوت، أو النشاز في بنية النص، هما السبب في إخفاقك. هاتِ أخبرني، إلى أين تريد أن تصل؟

ندّت عنه ضحكة موافقة، ثم انفرط عقال تماسكه أمامها.

– حاولت أن أكون رومانسياً، لكن يبدو أنني فاشل في ذلك. على كل حال أود أن أحيطك علماً بأن خسارتك اليوم لا يمكن تعويضها. قال ذلك وهو يرسم على ثغره ابتسامة مراوغة.

كان دائماً يجتر القلق ويعاود ازدراده مخافة وخشية، بينما هي تمنّي النفس بأن يحيد القدر عن سوء العاقبة

– أي خسارة؟ سألت بنبرة جادة.

– الخسارة أنه لا يمكنك أن تشمي رائحة العطر الفاخر الذي وضعته اليوم خصيصاً للقائك.

انفجرت عنها ضحكة مباغتة، ولم تستطع أن تتمالك نفسها، فارتدّت بالكرسي إلى الخلف وهي تحجب وجهها كي تكتم صوت القهقهات التي تناوبت عليها. ثم قالت:

– هذه المداورات كلها كي تقول لي أنك تضع عطراً فاخراً؟ كان في إمكانك أن تقول ذلك مباشرة من دون أن تلجأ إلى هذه الدراما.

ثم أردفت بنبرة لا تخلو من السخرية:

– لولا هذا الحاجز الزجاجي البغيض.

– أتتهكمين؟؟

علّق مستنكراً، ثم أضاف:

– على الرغم من هذا الحاجز الزجاجي، فإني وضعت العطر لأجلك، بل اقتنيته من أجلك.

قال ذلك ونبرة صوته أخذت تتميز بالجد.

لاحظت تحول ملامحه التي ارتسمت عليها مسحة انقباض، فأدركت أن فسحة الهزل التي عاشها منذ قليل انقضت. لم تعرف لذلك سبباً، لكنها ثابرت كي تحافظ على الأجواء لطيفة بينهما. ثم قالت:

– عليّ أن أعترف الآن بأنك ممثل جيد. لقد التبس عليّ الأمر مجدداً. قل لي هل موضوع العطر حقيقي أم إنه موضوع النص الذي أشرت إليه سابقاً؟

– أما زال النص عالقاً في ذهنك؟ ردّ مستهجناً، ثم أضاف:

– موضوع العطر حقيقي. على كل حال كنت أحضّر نفسي للزيارة عند الصباح، ورششت العطر على جسدي ووجدتني وقد تقاذفتني أفكار شتى. هجت في بحر غمامي.. تخيلتُ أنني وإياك على موعد، ورحت أتذكر ظروف ارتباطنا التي أفضت بنا إلى زوجين بعد مرور اثنَي عشر عاماً على اعتقالي.

زوجان تعارفا وقضبان السجن تفصل بينهما، فخطرت لي فكرة ساذجة لا تصيب إلّا أذهان الحمقى. أردتُ أن ألتقيك في اللازمن. قلت لنفسي كم هو جميل أن يمنحك القدر فرصة أُخرى كي تعيش في الزمن الذي فرّ منك يوماً. في غمرة المستحيل حاولت أن أبحث عن الممكن كأن أمنحك شيئاً من إحساسي الجميل الآني، لكنه خرج مبتوراً وملتبساً على الشكل الذي رأيتِ. حتى هذه الأمنية التي حاولت أن أحتال بها على الواقع لم تفلح.

شعرت بأنها كانت سبباً في إفساد بهجته المزعومة، وأنها وقعت فريسة شرك الهزل الذي افتتحتْ أول فصوله. كم ساءها ألّا توافيه إلى حيث يرجو، فاعتملت في صدرها غصّة حارقة، وفجأة تنبهت إلى تكرار السبب الذي حدا به إلى شراء العطر. تكدّر خاطرها وانقبضت نفسها، لكنها تجلدت وقررت أن تستدرك هفوتها، وبكلمات شحنتها بموسيقى الدلال الأنثوي سألته:

– كم يبلغ ثمن العطر الفاخر الذي اقتنيته من أجلي؟

نزل عليه الجمود مثل غطاء. لم يكن السؤال الذي ابتغت منه فاتحة مغايرة إلّا بوابة للجرح النازف. لم يعلّق بكلمة وظل متقوقعاً في دائرة الصمت كأنما غاب في عالم آخر. كانت ترقبه بوجل وهي تحاذر أن تأتي بسقطة أُخرى. أخذت الحيرة تتسلل إليها وهي تجهد ذهنياً في استبيان الأمر، ثم صار جلّ همها أن تبحث عن مخرج يفضي بهما إلى شاطىء السلامة.

كان ما زال في موقعة الصمت ساكناً عندما رمى سؤاله مثل سهم عابر:

– أين يكمن العجز؟

برز السؤال مثل نتوء ناشز على بساط الكلام. كان السؤال بالنسبة إليها اعتراضياً بشكل ما، فاستولى عليها الذهول واعترت وجهها مسحة استغراب، إذ لم تجد داعياً للسؤال، لكنها وبدافع انسياقها في مجرى الحديث، راحت تبحث عن إجابة تستقيم مع حالها الحاضره، فلم تفلح في إيجاد علاقة مع الموضوع. فكرت قليلاً، ثم بتجريد جافٍّ أجابت:

– العجز يكمن في عدم قدرتنا على أن نفعل ما نريد.

غاب في دهاليز فكره لحظة، ثم عاد يبسط بين يديها تحليله قائلاً:

– أعتقد أن ما قلت يصلح تعريفاً لوصف الحرية، إلّا إن الحرية ليست إطلاقاً من دون تحديد للإرادة؛ فحتى الحرية يجب أن تتحدد بالضرورات في أغلب الأحيان، فنحن في السجن مثلاً، علينا أن نمتلك القدرة على أن نفعل ما يجب أن يُفعل. نحن نحرر إرادتنا الجماعية ليس بحكم الذات، وإنما بحكم الواقع، ونحن ننتزع حرية إرادتنا عندما تصل شروط الواقع إلى حد لا يمكن معه الاستمرار، كأن يصل الامتهان إلى المساس بالكرامة، وعندئذ يصبح كل شيء مباحاً من أجل تغيير شروط الواقع حتى إن كان ذلك في إطار تدمير الذات. الكرامة أغلى من النفس، أو هكذا يجب أن تكون. أليس هذا تبريراً ملائماً للإقدام على خطوة مثل الإضراب عن الطعام من أجل تحسين الظروف التي نحيا في كنفها؟

كانت تستمع إليه بحواسّ متيقظة وذهن متّقد راح ينساب في مجرى الحديث، فقاطعته:

– أليس هذا منافياً لوظيفة السجن؟ أن تمتلك إرادتك يعني أن لك سلطة على ذاتك. ألا ترى أن كلامك ينطوي على مفارقة؟

بدا متأهباً مثل صقر، وظهرت على وجهه علامات التحفز، فكلامها يفصح عن حقيقة، وفي هذه الحقيقة ما كان يستفزه.

– عدونا يعرف جيداً كيف يصنع هامش الحرية، وكيف يضبطه، وبأي معايير يحرر إرادات معينة؛ عدونا يعرف كيف يصيغها وفق مبدأ المصلحة، ويعرف كيف يخلق ميدان التصادم لهذه الإرادات الفردية المتنازعة؛ عدونا يعرف كيف يفتّت إرادتنا الجماعية، وأن يصنع المناضلين وفق مقاييسه التي تخدم أهدافه.

لم يكن سماع مثل هذا الكلام مدعاة لاستهجانها، مع أنها تستنكره في داخلها، فهي تعلم كثيراً عن الواقع الذي يعيشه الأسرى، وتدرك إلى أي حد بلغ التراجع في الحفاظ على كيانهم موحداً أمام العدو. لكن الجديد في الأمر أنها أصبحت جزءاً بشكل ما من هذه الحالة. هذا الجديد القديم سيظل رهناً بطبيعة الموضوعات والحوارات التي تثار في الزيارات أو الرسائل التي يتبادلانها. اليوم رأت نفسها تقف على حافة هاوية من دون أن تسير في الدرب المؤدي إليها. ذنبها الوحيد أنها زوجة أحد الأسرى الذين يداورون دائرة الزمن الرديء في الأسر، من دون أن يمتلكوا القدرة على التغيير.

أحنت رأسها وأشاحت بناظريها عنه، كأنها تأسف لما تسمع، ثم رمقته بنظرات مؤازرة، تحاول أن تستنهض فيه روحاً أُخرى. كانت في قرارة نفسها تعلم ما يختلج في صدره وفي ذلك ما كان يسوؤها، لكنها كانت تحتال بإبداء مظهر يدل على عدم الاكتراث. شحذت صوتها بنغمة مرح وبسطت ملامحها تنشد انحراف الحديث إلى سبيل آخر:

– نسيت أن تجيبني عن سؤالي، أم إنك تتهرب من الإجابة؟

– أي سؤال؟

– ثمن العطر؟

– لم أنسَ، ولا أستطيع أن أنسى.

ثم أردف:

– مئة وستون شيكلاً.

كان جوابه جافاً ومقتضباً يستقيم مع نفسه المنقبضة، فقررت أن تنتشله من حاله هذه. ابتسمت في حركة لافتة، ثم قالت بتودد:

– فقط؟ وتسمي هذا عطراً؟ يبدو أنه ليس أصلياً. ماذا كان نوعه؟

– C. K.، قالها واثقاً مثل خبير في أنواع العطور.

صمتت لحظة وقطبت ما بين حاجبيها في حركة تنمّ عن استهجان، ثم أضافت:

– لم أسمع باسم هذا العطر من قبل.

– قبل أن أقرر شراء العطر، غلب على قراري التردد. وقفت مثل صنم أتأمل القارورة وأنا أحملها بيدي، وأخذت أنظر إليها حتى لكأنني استقطرت محتوياتها من دمي، ولو توقف الأمر على سفك الدماء لكان هيناً. خطر لي أن أقذف القارورة إلى الأرض وأحطمها، لكن ثمنها كان حائلاً دون أن أمضي في رغبتي الهوجاء.

لم تفهم دواعي موقفه وتصرفه النافرين إزاء العطر، وأدركت أن هناك خطباً ما.. شيئاً مبهماً ربما له صلة بموضوع العطر كاحتجاج. ففي مكان مثل السجن ربما يكون العطر حاجة مترفة لا أساسية. تذكرت كيف كتب لها يوماً عن كيفية صهر الوعي الذي يمارَس في حقّ الأسرى، وكيف يغدو التعذيب مبضعاً ناعماً يشق الجراح من دون أن تنزف، أو من دون أن يترك أثراً لاعتمال الجرح في الجسد، فأصعب عذاب هو حين تشعر بالألم لكنك لا ترى شاهداً على عذابك، بحيث تصبح جراحك بلا دماء، وألمك بلا جراح. حتى أنت نفسك يراودك الشك فيما تشعر، فتظل حائراً تتخبط في دائرة اللايقين، وفي هذا عذاب أكبر.

لم ترَ سبباً منطقياً وراء شعوره ذاك؛ فالأمر في معظمه مجرد عطر، إمّا أن يشتريه، وإمّا لا. كانت تريد أن تستفهم منه عن سبب هذا النزوع الرافض والاحتقان المضمر، لكنه عاجلها قائلاً:

– الحقيقة أني حِرت في أمر العطر، فسألت نفسي متعجباً: لماذا نرشّ العطر على أجسادنا؟ ألنغطي على روائحنا المزعجة، أم كي نغوي الآخرين برائحتنا الزكية ونجمّل انطباعاتهم بشأننا؟ وتساءلتُ في لوعة مريرة، كيف لو وُجد عطر يمكنه أن يزيل روائح أفعالنا؟ لأول مرة يخطر لي أن للأفعال روائح، فتهالكت على نفسي عاجزاً، وفجأة رأيتك تبرزين بين الأطياف رائحة عطرة. فقررت أن أشتري العطر لأجلك، في اللحظة التي شعرت بأن الروائح الكريهة كلها تُنفث في وجهي وتُزكِم عقلي وفكري.

في السجن تتحدد قيمة الأشياء وفق الطريقة التي نحصل بها على تلك الأشياء، وليس وفق ما بُذل فيها من عمل، وهذه الطريقة بدورها تحدد طبيعة العلاقة مع إدارة السجن، فإمّا أن تكون صراعاً، وإمّا تكون وفاقاً

كان لكلامه وَقْع عذب في قلبها، شعرت بأنها تمثل نقطة النور في نفق سجنه الطويل، وأنها ملاذ الروح في وهاد الشقاء، فانبرت تسأله وقد امتلأت حيوية ملفوحة بمسحة خجل تطفر من وجهها:

– كيف خطرت لك تلك الأفكار؟

– الألم يعلمنا كيف نبتكر سبل المداواة.

كانت دواءه عند اشتداد المرض، وسبيله إلى النجاة من سقطات نفسه حين تنقطع دروب الأمل، وإرادته المتمردة حين يُطبق العجز وتنحني الهامات.

صعدت كلمة الألم مثل طائر يحلق في فضاء خيالها، وودّت لو تقول له: “بي رغبة في أن أحتضنك”، لكنها أيقنت أن تقاطع الرغبات سيضاعف من حدة الألم، وخصوصاً إذا كان الحرمان يحكمها. هي تعلم أنه ساخط على الواقع، مثقل بأسباب النقمة والتبرم، وكثيراً ما انبرت تجادله لتكبح اندفاعه المتهور في الزجّ بنفسه في صميم المعتركات، لكن من دون طائل.

كان دائماً يجتر القلق ويعاود ازدراده مخافة وخشية، بينما هي تمنّي النفس بأن يحيد القدر عن سوء العاقبة. سألته مرة عن الألم، وكان حينها يتحدث عن والدته التي بالكاد أصبحت تتذكره، فقال: الألم جرح الذكريات التي تنزف حنيناً، وعندما أعادت عليه السؤال بعد أن فشل الأسرى في معركة الأمعاء الخاوية ولم يحققوا مبتغاهم، قال لها: الألم أن تكون غريباً عن وجهك في مرآة عدوك. شعرتْ بأنها تُصهَر في بوتقة الألم ذاتها، وأنها توافيه على خط يوحّد إحساسهما. نظرت إلى وجهه، فأبصرته معتّقاً في معاقل الوجع. كانت أشد ما تكون في حاجة إلى مفردات تعينها على كسر القفص الذي يقبع فيه، لكنها تعثرت في وجعها، في ذلك المدى القصير حيث الجدار الزجاجي يفصل بين وجهين، ويوحّد وجعين كان يمور الحزن توالياً على ضفتيهما، وكانا ينسربان فيه بحكم التآلف.

اضطرب صفاء وجهها بينما هو جامد الحركة منصرف عنها إليها. كانت عيناه تلمعان ببريق كأنما يترقرق فيهما دمع معاند حين سألته بصوت يتخثر فيه الوجع ويصقله الحزن:

– أين يكمن العجز؟

وقع عليه السؤال مباغتاً، فانتثر ألمه شظايا على مساحات الوجع، ثم أجابها متنهداً:

– العجز أن تريدي ولا تريدي، وأنت لا تملكين من إرادتك إلّا المعرفة بأنك لا تملكين حتى ذاتك.

بنظرات خاشعة أخذت تبثّه ما يعجز عنه الكلام، ثم أردف قائلاً:

– في السجن تتحدد قيمة الأشياء وفق الطريقة التي نحصل بها على تلك الأشياء، وليس وفق ما بُذل فيها من عمل، وهذه الطريقة بدورها تحدد طبيعة العلاقة مع إدارة السجن، فإمّا أن تكون صراعاً، وإمّا تكون وفاقاً.

زفر أنفاساً حرّى، ثم استوى في جلسته بحيث صار بصره منصباً عليها، وأضاف:

– زمن الصراعات ولّى، وتولّت الإرادات المغالبة. عندما يريد المرء أن يقف على حد الصراع يجب أن يكون لديه الإيمان بأنه يمثل نقيضاً وندّاً للآخر، وإلّا فهذه العلاقة تغدو وهماً ومن دون معنى. نحن في زمن الوفاق؛ الزمن الذي توهب فيه الأشياء ولا تُنتزع، حين يصبح السيد كريماً ولطيفاً يكافىء رعاياه على حسن الطاعة والانصياع، ففي غمرة هذه الشروط يصير الاستجداء وسيلة للحصول على الأشياء، ويتحول الشيء مهما يكن تافهاً إلى وسيلة ابتزاز. في هذا الواقع تصبح الكرامة مجرد شيء، وهذا الشيء قابل للمقايضة في سوق الكماليات.

طغى صمت مشوب بالتوجس، وتكاثف ضباب يحجب الرؤية. انعقدت الألسن واحتبس الكلام، وضاع كل واحد منهما في تيه يحنّط أحاسيسه، ومضت لحظات ثقيلة، حتى أدرك أن الزيارة تشارف على الانتهاء. نظر إليها نظرة حانية يملؤها الودّ ثم قال:

– هل عرفتِ كم يبلغ ثمن العطر الذي وضعته لأجلك؟

إقرأ أيضاً: كلام الأسرى.. عيون الكلام: فلسطين تحت فلسطين (1)

قُطع خط الهاتف وبُترت معه الموضوعات والمشاعر التي لا يمكن أن تخضع لضبط الزمن، وعلا الهرج الناجم عن حركات الامتعاض من الزائرين والأسرى، وامتلأ جو القاعة بالأصوات المتداخلة. استوى كلاهما واقفين. كانت آثار الدمع تؤطر عينيها الزائغتين وهي تبثّ أولى إشارات الوداع، وكان هو يعيد تأدية مشهد الافتتاح بترتيب هندامه واصطناع حركات توحي بأنه يرش العطر على جسده، في محاولة لإدخال السرور إلى نفسها. امتزجت ملامح وجهها الباكي بابتسامة عارضة في تعبير يوجز سريالية الموقف. حدق كلاهما في الآخر بنظرات تفيض منها كلمات الوداع، ثم خرجا إلى حيث يستكملان درب الألم.

سيكتب لها في أول رسالة بعد تلك الزيارة أنه شرع في التحضير لأول بحث سيقدمه في إطار برنامج الدكتوراه الذي قبلت به إحدى الجامعات تجاوزاً لقوانين إدارة السجن. ضمّخ الرسالة بعطر C. K. المتواضع، وأكمل بسطورها ما حجبته الإرادة التي تتحكم “ظناً” في الزمن على اختلاف أشكاله.” فأياً يكن العجز، فإنه لا يكمن إلّا في النفوس المنكسرة”، مثلما كتب لها.

 

*أسير فلسطيني في سجن النقب.

مواضيع ذات صلة

فيلم “أرزة”: بارقة أمل لبنانيّة… من مصر إلى الأوسكار

أينما يحلّ فيلم “أرزة” اللبناني (إخراج ميرا شعيب وتأليف فيصل سام شعيب ولؤي خريش وإنتاج علي العربي) يمنح المشاهد، وخصوصاً اللبنانيين، الكثير من الأمل. فعدا…

90 عاماً من فيروز: صوت تاريخنا… ولحن الجغرافيا

اليوم نكمل تسعين سنةً من العمر، من الإبداع، من الوطن، من الوجود، من فيروز. اليوم نحتفل بفيروز، بأنفسنا، بلبنان، وبالأغنية. اليوم يكمل لبنان تسعين سنةً…

سيرتي كنازحة: حين اكتشفتُ أنّني أنا “الآخر”

هنا سيرة سريعة ليوميّات واحدة من أفراد أسرة “أساس”، وهي تبحث عن مسكنٍ لها، بعد النزوح والتهجير، وعن مساكن لعائلتها التي تناتشتها مناطق لبنان الكثيرة…

الياس خوري: 12 تحيّة لبنانية وعربية (1/2)

العبثيّة، ثيمة تكرّرت في روايات الياس خوري بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر. عبثيّة إمّا نحن نخوضها لتحرير الأرض والثورة على الجلّاد غير آبهين بحياتنا…