بسرعة قياسيّة بدأ يتبدّد مفعول التخدير السياسي لتشكيل الحكومة اللبنانية بعد 13 شهراً من تصريف الأعمال.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي كان أوّل مَن بادر إلى الترحيب بتشكيل الحكومة، وأوّل رئيس أجنبيّ يستقبل الرئيس نجيب ميقاتي، بدا وكأنّه يحتفل بالخلاص من عبء ولادة الحكومة، ويترك للّبنانيّين وحدهم أن يتحمّلوا مسؤوليّة فشلها أو نجاحها. وهذا صحيح لولا أنّ ماكرون في بواكير إطلالاته على الأزمة اللبنانية، بُعيْد انفجار 4 آب 2020، كلّف نفسه تغيير المعادلة اللبنانية برمّتها، مستخدماً في بعض الأحيان تعابير عالية السقف حول العقد الاجتماعي والدستور والصيغة!!
تراجعت فرنسا عن هذا السقف العالي إلى حدود القبول بحكومةٍ ما مرّ في تاريخ الجمهورية وزراء أسوأ من معظم وزرائها، وارتضت القفز فوق الأزمة الرئيسيّة التي يعاني منها لبنان بخفّة استثنائيّة وسذاجة لا تليقان بدولة ذات إرث “كولونياليّ” شديد الثراء والتنوّع.
السعوديّة تنطلق من تقويم واقعيّ مفاده أنّ لبنان الراهن هو جمهورية حزب الله بالتمام والكمال، وأنّ أيّ دعم يُقدَّم هو دعم لحزب الله وتعطيل للأزمة التي تأكل بين ما تأكل رصيد ميليشيا تعلن جهاراً نهاراً عضويّتها في محور العداء العمليّ والعقائدي والسياسي للمملكة
صار تشكيل الحكومة نفسه هدفاً ومخرجاً لماكرون من التورّط في نفق السياسات اللبنانية، وأحابيل القوى السياسية. أمّا مآلات هذه الحكومة ونتائج الملفّات الموضوعة على طاولتها فبحث آخر، لا يشي شيءٌ بأنّ فرنسا تمتلك بشأنه أيّ تصوّر حقيقيّ أو عمليّ. وهذا وإن لم يكن من مسؤوليّة الفرنسيّين، إلا أنّ التدخّل، الفرنسي في الأصل، فَرْمَل الاندفاعة اللبنانية، وأعطى أملاً مزيّفاً للمنتفضين في الشوارع بأنّ ثمّة سنداً لهم ولحراكهم، وبأنّ عصاً غليظةً ستكون بأيديهم تُوازن العصيّ والسكاكين التي بيد قوى الطبقة السياسية.
كلّه سراب. فها هو الممثّل الأعلى للمفوضيّة الأوروبيّة جوزف بوريل، مِن على منصّة “مؤتمر السياسات العالميّ” الذي تنظّمه وتستضيفه أبوظبي، يعلن فشل المقاربة الأوروبية للأزمة اللبنانية (أي المقاربة الفرنسيّة بشكل رئيسي) لأنّ “الاستراتيجية الأوروبيّة تفتقر إلى الاستراتيجية”. ويشير، بحسب ما نقلته مراسِلة النهار سابين عويس، إلى أنّ الأوروبيّين طلبوا “من المسؤولين اللبنانيّين أن يتحمّلوا مسؤوليّاتهم، وأخفقنا في الضغط في هذا الاتجاه، كما أخفق لبنان على الرغم من الضغوط”. وقال “هناك فشل تامّ للنظام السياسي، لكن لا يمكن أوروبا أن تغيّر الأنظمة. وفي حالة لبنان، إن لم تبادر السلطات إلى التصرّف فلن يكون ممكناً تحقيق تقدّم على هذا الصعيد”. وأضاف بوريل أنّ النخب السياسية اللبنانية هي الوحيدة القادرة على جلب الحلول.
كلّ هذا صحيح منظوراً إليه كطرح عموميّ. بيد أنّ ما تفشل أوروبا وفرنسا في التعامل معه هو القفز المنظّم والمتعمَّد فوق المشكلة الرئيسية التي يواجهها لبنان، وهي الاحتلال السياسي الذي تمارسه ميليشيا حزب الله، ويمنع بالتالي أيّ إمكانية لولادة طبيعيّة للحلول. تتجنّب فرنسا لأسباب تتعلّق بمصالحها الإيرانية أن تعترف بطبيعة المشكل في لبنان، وتنخرط في مسار معقّد من التوريات والتعمية في مقاربتها للأزمة اللبنانية لتنتهي، في التحليل الأخير، عرّاباً غربيّاً لولادة حكومة حزب الله.
لنترك للحظة كلّ الوقائع التي تدين الحزب وطنيّاً ومؤسّساتيّاً ودستوريّاً. ولنتّفق أن لا نُدخِل الفرنسيّين في تفاصيل المسؤوليّة المباشرة لميليشيا الحزب عن التشوّه الواقع في الحياة السياسيّة والوطنيّة، والتغيير الناتج عن ذلك في طبيعة النظام، وتحويله إلى منظومة “مافيا وميليشيا”. يكفي، بعد ذلك، أن نُلفت عناية الرئيس الفرنسي وطاقمه الاستشاريّ إلى التهديد العلنيّ الذي مارسته الميليشيا بحقّ القاضي طارق البيطار، المكلّف التحقيق في ملفّ انفجار المرفأ. لقد هدّد مسؤول أمنيّ رفيع، من قادة الميليشيا، قاضياً لبنانيّاً علناً، وهو تهديد سرّبه القاضي نفسه، وعاد وأكّد التسريب.
هذا التهديد ليس للقاضي البيطار وحده، بل لكلّ انتظام الحياة السياسية والوطنية والقضائية في لبنان.. تهديد لكلّ ما هو طبيعيّ في لبنان، وكلّ ما يمكن البناء عليه لتحقيق ما أشار إليه المفوّض الأوروبيّ، أي أنّ “النخب السياسية اللبنانية هي الوحيدة القادرة على جلب الحلول”. فالنخبة السياسية إمّا خاضعة وإمّا عاجزة. وهي ككلّ شيء في لبنان تعيش تحت واقع المصادرة الذي تفرضه ميليشيا حزب الله، وترفض فرنسا التعامل معه بماهيّته وحقيقته وواقعه وتفاصيله.
يبدو مفهوماً، إذّاك، أن ينتهي الاتّصال الهاتفي بين الرئيس الفرنسي ووليّ العهد السعوديّ الأمير محمد بن سلمان، إلى فشل باريس في تغيير موقف الرياض العازف عن الاهتمام بلبنان أو فتح المجال أمام استدراج المملكة إلى الرمال المتحرّكة للسياسة اللبنانية. فالسعوديّة تنطلق من تقويم واقعيّ مفاده أنّ لبنان الراهن هو جمهورية حزب الله بالتمام والكمال، وأنّ أيّ دعم يُقدَّم هو دعم لحزب الله وتعطيل للأزمة التي تأكل بين ما تأكل رصيد ميليشيا تعلن جهاراً نهاراً عضويّتها في محور العداء العمليّ والعقائدي والسياسي للمملكة.
إقرأ أيضاً: ماكرون: 11 هزيمة في لبنان والعالم
وعليه إنّ أيّ حلّ للبنان لا يبدأ من وضع استراتيجية تفصيليّة، سياسية وإعلامية وعقابيّة، وربّما أمنيّة وعسكرية، لمواجهة احتلال حزب الله للجمهوريّة اللبنانية، هو حلّ يملك كلّ قابليّات التحوّل إلى رافد من روافد هيمنة حزب الله على لبنان..
ما انتهت إليه المبادرة الفرنسية بتشكيل حكومة نجيب ميقاتي هو خير دليلٍ على هذه المآلات المؤكَّدة.