في الأزمنة الغابرة، وفي العصور الإغريقية الكلاسيكية، دخلت إسبرطة وأثينا في حرب ضروس عُرِفت بالحرب البيلوبونيزيّة التي استمرّت لأعوام عديدة من 431 ق.م. إلى 403 ق.م. ويقول المؤرّخ الإغريقي ثوسيديدس، الذي عايش الأحداث، وكان مقاتلاً فيها، إنّ سبب الحرب يعود إلى “صعود أثينا، والخوف الذي استبدّ بإسبرطة جعل من الحرب أمراً محتوماً” (صvii ).
بهذه المقدّمة يفتتح البروفيسور غراهام أليسون، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفرد، كتابه المهمّ “مآلتهما للحرب: هل تستطيع أميركا والصين تفادي فخّ ثوسيديدس؟”، ويضيف أليسون أنّ المشروع البحثيّ، الذي يديره في الجامعة حول “فخّ ثوسيديدس”، أوضح أنّ في ستّ عشرة حالة حين صعدت دولة وأرادت أن تزيح الدولة المهيمنة، اثنتي عشرة منها انتهت إلى حرب. ولعلّ أهمّ هذه الحروب هي الحرب العالميّة الأولى التي كانت نتيجة صعود ألمانيا وتحدّيها لبريطانيا كقوّة عالمية (ص.vii –viii).
ويؤكّد الكاتب أنّه على الرغم من مآل التنافس بين القوّة المسيطرة والدولة الصاعدة في مجمل الأحوال هو الحرب، إلا أنّه لا ينبغي بالضرورة أن يكون كذلك إذا ما استطاعت القوّتان إدارة صراعهما بطريقة تؤول إلى تنافس سلميّ. ويحذّر من سذاجة البعض الذين يعتقدون أنّ الحرب مستبعدة بين الصين وأميركا، والآخرين الذين يرون أنّ الحرب قدراً محتوماً (ص. xix).
وقبل كلّ شيء، هل الصين فعلاً قوّة صاعدة تُرعب الدولة المهيمنة عالميّاً الولايات المتّحدة؟ يُورد الكاتب عدّة معطيات لا تدع شكّاً في هذه الحقيقة، فيقول إنّ الناتج الإجمالي للصين في معادلة القوّة الشرائية قد تجاوز الولايات المتحدة في عام 2014. ومن المتوقّع أن تتجاوز الصين الولايات المتحدة في 2024 بمرّة ونصف مرّة. وقد تخطّت الصينُ الولايات المتحدة أيضاً في إنتاج “السفن، الحديد، الألومنيوم، الأثاث، الملابس، الأقمشة، الهواتف الخلويّة، والحواسيب”، فأصبحت الصين بذلك قوّة اقتصادية عظمى. الأدهى أنّ الصينيّين أصبحوا الأكثر شراءً للسلع الاستهلاكية. على سبيل المثال، الصين هي أكبر منتج للسيّارات، وأكبر مستهلك لهذه السلعة (ص. 6-9).
الصين مهووسة بصدّ ما يجوب حولها من مخاطر، وترغب في تكوين توابع لها في إقليمها، ومنحهم منافع تجارية. ولكنّ التوسّع الصيني أساسه التناضح، وليس الحماسة التبشيريّة
أمّا من ناحية بناء وتطوير البنية التحتية فحدِّث ولا حرج: فالصين بين 2011 و2013 فقط أنتجت واستخدمت من الاسمنت ما يوازي ما استهلكته الولايات المتحدة في القرن العشرين بكامله. استطاعت الصين خلال عقد من الزمن أن تعبِّد 2.6 مليون ميل من الشوارع والطرق السريعة التي ربطت كلّ أنحاء الصين بعضها بالبعض الآخر تقريباً. وبنت في خلال العقد الماضي 12,000 ميل من السكك الحديدية التي تقلّ ركّاباً بين المدن بسرعة فائقة. واليوم تمتلك الصين ما يزيد على ضعف ما يمتلكه العالم جميعاً من سكك الحديد ذات السرعة الفائقة (ص. 12-14).
من ناحية التعليم، فقد تفوّقت الصين على كثير من منافسيها. ففي معدّلات التحصيل في الرياضيات تُصنَّف الصين السادسة، فيما تقع الولايات المتحدة في المرتبة التاسعة والثلاثين. وفي المواضيع الأهمّ في تطوّر التكنولوجيا، أي الرياضيات والعلوم والتقنيّة والهندسة، فإنّ الصين تُخرِّج ما يزيد على أربعة أضعاف ما تُخرِّجه الجامعات الأميركية. ويتجاوزعدد الحاصلين على درجة الدكتوراه في هذه المجالات من الجامعات الصينية عدد نظرائهم الأميركيين (ص. 16).
وينعكس هذا التقدّم في هذه المجالات على تقدّم الصين في المجال العسكري. ويوضح تقرير عن الميزان العسكري بينهما أنّ الصين ستتفوّق أو تعادل الولايات المتّحدة في ستّة مجالات من تسعة في القدرات العسكرية التقليدية، مثل التفوّق الجوي أو استهداف القواعد الجويّة أو الأرضيّة. فالتقدّم الصيني السريع في المجال العسكري يقوِّض بشكل كبير موقع الولايات المتحدة كقوّة مهيمنة على العالم (ص. 20).
ولكن لماذا يلجأ المتنافسان إلى الحرب بدلاً من التعايش. هذا هو السؤال الكبير الذي يحاول الكتاب الإجابة عنه. وللإجابة عن السؤال، يشرح الكتاب النمط السائد في العلاقات الدولية بين القوّة المتسلّطة على إقليم والقوّة الصاعدة في الإقليم نفسه، ويُرجع السبب إلى التخوّف من القوّة الصاعدة، الذي يدفع القوّة السائدة إلى محاولة إضعاف القوّة الصاعدة بخطوات استباقية علّها تطيح بها.
ويقوم الكاتب باستعراض مفصّل للحروب التي اندلعت بين القوة الإقليمية والدولية عبر هذا النمط المتكرّر منذ الحرب البيلوبونيزية قبل الميلاد إلى حروب القرون التالية. وفي هذا المضمار، يوضح الكاتب عبر خمسة أمثلة للحروب: الأولى تلك التي نشبت بين اليابان والولايات المتحدة في منتصف القرن الماضي، ومسرحها المحيط الهادئ، بسبب التنافس على السيطرة على هذا الإقليم. والثانية الحرب التي وقعت بين اليابان من جهة، وروسيا والصين من جهة ثانية، في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين للسيطرة على شمال شرق آسيا. والثالثة هي الحرب التي كانت بين ألمانيا وفرنسا في منتصف القرن التاسع عشر للسيطرة على أوروبا. والرابعة هي الحرب بين إنكلترا وهولاندا في منتصف وأواخر القرن السابع عشر للسيطرة على البحار. وأخيراً، الحرب التي قامت بين هابسبورغ وفرنسا في المنتصف الأوّل من القرن السادس عشر للسيادة على أوروبا.
وليس من مثال أبلغ ممّا يسمّيه الكاتب “فخّ ثوسيديدس” المتعلّق بالتنافس البريطاني-الألماني الذي آل إلى الحرب العالمية الأولى. وقد كان للتقدّم، الذي بدأت تحرزه ألمانيا في ميادين علميّة وصناعية واقتصادية، الأثر الأكبر في جموح ألمانيا إلى تغيير مكانتها الدولية. وقد دفع الطموح التوسّعي لألمانيا والسعي إلى الحصول على مستعمرات لها، بعدما تقاسم الأوروبيّون والأميركيّون العالم بينهما، إلى زيادة تسلّحها، خاصة في القوّة البحرية لموازاة، بل والتغلّب على الأساطيل البريطانية التي كانت تراها حجر عثرة في سبيل تحقيق مآربها. وقد أخافت لندنَ نوايا ألمانيا والقيصر الذي كانت تراه نزقاً اتجاهها. ويقول الكاتب إنّه على الرغم من كون القيصر فيلهلم الثاني، إمبراطور ألمانيا، حفيد الملكة فكتوريا من ناحية والدته، إلا أنّ الصراع الجيوسياسي العالمي لم يمنع القيصر من الدخول في حرب دمويّة مع أقاربه. وهكذا انزلق الطرفان في حرب ضروس راح ضحيّتها الملايين، وغيّرت ملامح أوروبا إلى الأبد (ص. 55-85).
يمكن للصين والولايات المتحدة أن تتفاديا الحرب. فهناك سوابق وشواهد من التاريخ تبيّن انتقالاً سلميّاً من قوة مهيمنة إلى أخرى صاعدة
ينطلق الكتاب بلا شكّ من مركزيّة أوروبية-أميركية، حيث يستعرض تاريخ بروز الولايات المتحدة كقوة دولية في بداية القرن العشرين. وقد قاد هذا الطموح الرئيس الأميركي تيدي روزفلت، الذي سعى إلى تحقيق إمبراطورية أميركية، وإلى تقويض النفوذ الأوروبي في الأميركيّتين. ويُسقِط الكاتب هذه التوجّهات لدي الأوروبيين والأميركيين على الصين وتوجّهاتها المستقبلية.
يسأل الكاتب: ماذا تريد الصين؟ وماذا يريد قائدها الرئيس شي جين بينغ؟ يقول إنّ “مليار صينيّ يتوقون إلى أن يكونوا أغنياء، أقوياء ومحلّ احترام” (ص. 109). وعندما تولّى هنري كيسنجر منصب وزارة الخارجية، سأل عميد الدراسات الصينية، جون فيربنك، عن سياسة الصين الخارجية. فردّ عليه أنّ السياسة الصينية تقوم على ثلاثة أسس:
1- السعي إلى هيمنة إقليمية.
2- الإصرار على اعتراف إقليمي بتفوّق الصين، وإعطائها قدرها من الاحترام.
3- إرادة لاستخدام الهيمنة والتفوّق لخلق علاقات متناغمة مع الجيران (ص. 110).
يبدو أنّ الصين تختلف في ذلك عن القوى الأوروبية الصاعدة في القرون السابقة. لذا قد يكون مسارها مشابهاً في مكان ومختلفاً في مكان آخر عن تجارب وتفاعل القوى العظمى عبر التاريخ. إنّ توسّع قوة عظمى، مثل الولايات المتحدة، كان ولا يزال قائماً على واجب الولايات المتحدة نشر الحضارة والقيم المسيحية بين السكان الأصليّين أو شعوب العالم المختلف. وإنّ قدر الولايات المتحدة هو القيام بهذه المهمّة الحضارية (ص. 93).
يشي التوجّه الصيني برؤية مختلفة. فعلى الرغم من سعي الصين إلى التفوّق، إلا أنّ غاية التفوّق لديها مختلفة عن تلك التي كانت تتبنّاها الدول الأوروبية أو أميركا. وكما يقول كيسنجر، فإنّ الصين ترى أنّ لها دوراً خاصّاً، ولكن بعكس أميركا لا تؤمن بعالميّة دورها أو سعيها إلى نشر قيمها في أركان المعمورة. فالصين مهووسة بصدّ ما يجوب حولها من مخاطر، وترغب في تكوين توابع لها في إقليمها، ومنحهم منافع تجارية. ولكنّ التوسّع الصيني “أساسه التناضح، وليس الحماسة التبشيريّة” (ص. 111).
بيد أنّ هذا الاختلاف الثقافي لا يعني اختلافاً في المآلات التاريخية. فالاختلاف قد يبشّر بصراع الحضارات، كما يقول صموئيل هنتنغتون. يرى الاثنان النظام العالمي بشكل مختلف. ترى الصين بطريقة تراتبية العالمَ، حيث يعرف الجميع مواقعهم، والذي ينجم عنه نظام متناغم بين الأطراف. أمّا الولايات المتّحدة فترى العالم بنسق ثقافتها السياسية الديموقراطية التي ترى أنّ حكم القانون يجب أن يسود، وأنّ هذا الذي يضمن السلم والأمن الدوليّيْن.
هل التغيير البنيويّ للنظام العالمي بسبب صعود الصين، والاختلاف الحضاري بين القوّتين الدوليّتين، سببان كافيان للدخول في حرب بينهما؟ بالطبع لا. ولكنّهما قد ينجرّان إلى حرب، على الرغم منهما، بسبب أحداث بسيطة أو شرارة صغيرة تتصاعد إلى حرب كونيّة. فحادثة في بحر جنوب الصين، الذي تعتبره الصين بحيرة تابعة لها، قد تتفاقم إلى صدام، أو قد يجرّ طرف ثالث العملاقين إلى مواجهة حقيقية. ويستعرض الكاتب سيناريو آخر يتّصل بانهيار النظام في كوريا الشمالية وتداعياته التي قد تؤدّي إلى تدخّل ومواجهة بين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة من ناحية، والصين من ناحية أخرى.
قد يدور سؤالٌ في ذهن القارئ، وفيه أنّ الاتحاد السوفياتي كان في عداء أيديولوجي مع أميركا، ويختلف ثقافياً عنها، ويمثّل القطب المنافس لها دوليّاً، ومع ذلك استطاعا أن يديرا خلافاتهما من دون مواجهة مباشرة، وكانت حروبهما بالوكالة وحسب. والحالة هذه، ألا يمكن للعملاقين الحاليّين أن يفعلا الشيء نفسه؟!
بلى، يمكن للصين والولايات المتحدة أن تتفاديا الحرب. فهناك سوابق وشواهد من التاريخ تبيّن انتقالاً سلميّاً من قوة مهيمنة إلى أخرى صاعدة. وكما سبق أن أشار الكاتب، توجد أربع حالات من ستّ عشرة حالة انتهت بتحوّل سلمي. ويؤكّد الكاتب وجود اثني عشر مؤشّر إلى إمكانية حدوث ذلك. ولعلّ أهمّ هذه المؤشّرات مقدار الدمار الذي يمكن أن يلحق بالقوّتين إذا ما تطوّر الأمر إلى مواجهة عسكرية باستخدام الترسانة النووية. فالسلاح النووي يكبح الطرفين كيلا يدفعا الأمور إلى حافّة الهاوية.
إقرأ أيضاً: تايوان: باب الحرب بين الصين وأميركا
إذن ماذا بعد كلّ هذا؟ يرى الكاتب أنّ على واشنطن مراجعة كلّ الخيارات حتى القبيح منها. فالخيارات، كما يراها، هي: التكيّف مع الصين أو تقويض صعود الصين أو التفاوض مع الصين حول سياسات بعيدة المدى أو إعادة صياغة العلاقة بين العملاقين. وعلى الاثنين أن يعيا مصالحهم الحيويّة وتلك المهمّة. وفي الفارق بين هذه وتلك تكمن المساومة الممكنة بين القوّتين العظميين.