عن أيّ مرحلة جديدة يتحدّث الرئيس عون؟

مدة القراءة 7 د

في كلمته أمام الجمعية العامّة للأمم المتحدة قال الرئيس ميشال عون إنّ لبنان دخل مرحلة جديدة مع تأليف الحكومة. صحيح أنّ الرئيس لم يحدّد معالم هذه المرحلة الجديدة ولا حدودها، لكنّ كلامه يوحي وكأنّ لبنان دخل مرحلة سياسية جديدة كما حدث عند انتهاء الحرب الأهليّة وتوقيع اتفاق الطائف وتكليف أو تولّي النظام السوري إدارة الملفّ اللبناني، أو بدرجة أقلّ عند اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ثمّ انسحاب الجيش السوري من لبنان ودخول البلد في مسار طويل من الصراع السياسي على وقع الاغتيالات السياسية والنزاعات الأمنيّة الأهلية.

وما يزيد في إيحاءات كلام الرئيس أنّه يأتي في لحظة تحوّلات إقليمية ودولية كان أهمّها أخيراً الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وما تلاه من سقوط سريع للدولة الأفغانية التي حاول الأميركيون بناءها على مدى عشرين عاماً. ولا ريب أنّ خروح الجيش الأميركي من أفغانستان وسقوط كابول بيد حركة طالبان مجدّداً أعادا خلط الأوراق الجيوسياسية لا في المنطقة وحسب، بل على مستوى العالم أيضاً في ظلّ الحديث عن سقوط الأحاديّة الأميركية التي تحكّمت بالنظام الدولي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وأنّ العالم متّجه إلى نظام دولي جديد قائم على التعدّدية القطبية. ذلك في وقت تتباين الآراء بين مَن يرى أنّ العالم مقبل على حرب باردة جديدة بين الولايات المتحدة والصين، وبين مَن يرى أنّ الظروف السياسيّة والاقتصادية العالمية مختلفة تماماً عمّا كانت عليه الحال إبّان الحرب الباردة بين المعسكر الغربي والمعسكر الاشتراكي، ولا سيّما أنّ الاقتصادين الأميركي والصيني يشكّل كلٌّ منهما حاجة بنيوية للآخر، وبالتالي فإنّ الاستراتيجية الأميركية لمواجهة الصين قائمة على احتواء صعودها الاقتصادي الذي قد يوسِّع نفوذها الاستراتيجي حول العالم.

تردّدت تأثيرات الحدث الأفغاني بقوّة في المنطقة، إذ سرعان ما عبّر محور إيران عن نشوته بـ”الهزيمة الأميركية” في أفغانستان، ويبدو أنّ الرئيس عون وصهره جبران باسيل انتشيا بدورهما بهذه الهزيمة

بطبيعة الحال، تردّدت تأثيرات الحدث الأفغاني بقوّة في المنطقة، إذ سرعان ما عبّر محور إيران عن نشوته بـ”الهزيمة الأميركية” في أفغانستان، ويبدو أنّ الرئيس عون وصهره جبران باسيل انتشيا بدورهما بهذه الهزيمة حتّى لو أعادت طالبان إلى حكم أفغانستان. وهو ما يعطي مثالاً واضحاً عن طبيعة انتصارات إيران وحلفائها في المنطقة، التي غالباً ما تعبّر عن أوضاع كارثية. فها هي طهران تعلن جهاراً نهاراً عن انتصاراتها في العراق وسوريا ولبنان واليمن، فيما تعيش هذه البلدان جميعاً أوضاعاً اقتصادية وإنسانية وأمنيّة مأساوية لا يمكن الخروج منها إلّا بتسويات سياسية واقتصادية توافِق عليها واشنطن التي تعلن إيران هزيمتها في المنطقة.

هذا في وقت تتعاطى روسيا، اللاعب الأقوى في سوريا، بعقل بارد مع التحوّلات الجيوسياسية الحادثة، وهو ما يشكّل عنصر تباين تتفاوت حدّته بين الجانبين الروسي والإيراني في سوريا، كما ظهر في درعا أخيراً حيث حاولت طهران التشويش على استراتيجية التسويات الروسية. لكن بشكل عام بات الحوار الأميركي – الروسي هو الذي يحدّد اتجاهات الأوضاع في سوريا. وكان هذا الحوار قد أطلقته قمّة الرئيسين جو بايدن وفلاديمير بوتين بجنيف في حزيران الماضي، ويتابعه ممثلو البلدين، وهو ما يجعل استراتيجيات كلّ من إيران وتركيا وإسرائيل متأرجحة في سوريا.

كلّ ذلك يجعل كلام الرئيس عون عن أنّ لبنان دخل مرحلة جديدة مع تأليف الحكومة كلاماً فضفاضاً بالحدّ الأدنى، إلّا إذا لم يقصد رئيس الجمهورية في كلامه عن المرحلة الجديدة سوى توقيع عقد التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان! في جميع الأحوال فإنّ محور الممانعة هائج ويريد بالفعل الإيحاء أو إثبات أنّ لبنان، لا بل المنطقة والعالم دخلا مرحلة جديدة افتتحتها هزيمة “الشيطان الأكبر” في أفغانستان، وهي هزيمة ستُستتبَع، بحسب المحور عينه، بهزائم أميركية أخرى في كلّ أنحاء المنطقة بدءاً من العراق.

الاعتقاد أنّنا في مرحلة شبيهة ببداية التسعينيات عندما دخلت المنطقة والعالم مرحلة جديدة طالت تأثيراتها المباشرة لبنان من خلال الاتفاق الأميركي – السوري حوله بموافقة عربية وأوروبية، فهو اعتقاد مشوّش وتحريفيّ إلى أبعد حدود

لكن لنأخذ مثلاً الوضع اللبناني الذي يبدو أقلّ تعقيداً سياسياً وأمنيّاً من الوضعين العراقي والسوري على الرغم من فداحة الانهيار الاقتصادي الذي يتخبّط فيه. فالنفوذ الإيراني واضحٌ في لبنان، ويمكن القول إنّه “لا شريك له” ولو أوحت فرنسا أنّها ممسكة بخيوط أساسية في اللعبة اللبنانية، لكنّ “التنكيل” بمبادرتها في لبنان على مدى 13 شهراً أظهر بوضوح محدوديّة الدور الفرنسي في الداخل اللبناني. وهي محدوديّة عكسها مضمون لقاء الرئيسين إيمانويل ماكرون ونجيب ميقاتي الجمعة في باريس، الذي جاء خالياً من أيّ مبادرة تنفيذية، إذ اقتصر على ترداد الكلام عن الإصلاحات الهيكيلة المطلوبة لمساعدة لبنان. وكان لافتاً حديث الرئيس ميقاتي في ساحة الإليزيه عن أنّ فرنسا لن تسمح بأذيّة لبنان، وهو كلام يمكن أن يُؤوَّل تأويلات عدّة يُسأل عنها الرئيس ميقاتي أوّلاً.

بيد أنّ تمظهرات النفوذ الإيراني في لبنان في بداية “المرحلة الجديدة” لا توحي بأنّه نفوذٌ قادرٌ على إرساء الاستقرار السياسي والاقتصادي في لبنان على ما قد يوحي به كلام الرئيس عون عن المرحلة الجديدة، إلّا إذا كان طموح هذا النفوذ “تجميل” الأوضاع المأساوية أو الاستفادة السياسية منها لا معالجتها.  

عمليّاً افتتح حزب الله هذه المرحلة الجديدة باستقدام المازوت الإيراني إلى لبنان عبر المعابر الحدودية غير الشرعية في انتهاك فاضح لسيادة الدولة اللبنانية، وذلك باعتراف الرئيس ميقاتي الذي لم يملك بإزاء هذا الانتهاك سوى التعبير عن حزنه. وإذا كان الحزب قد صوّر إيصاله المازوت الإيراني إلى لبنان على أنّه انتصار له وكسر للحصار الأميركي المزعوم على لبنان، فإنّ خطوته تلك أظهرت محدودية قدرته على تقديم حلول فعليّة للأزمة الاقتصادية التي لا يمكن الوصول إليها إلّا من خلال التفاوض مع صندوق النقد الدولي الذي تتمتّع واشنطن، في أقلّ تقدير، بهامش تأثير واسع في قراراته.

ولعلّ هذا التناقض الرئيسي بين الرغبة الشديدة لإيران والحزب، ومعهما العهد، في إعلان انتصارهم في لبنان، وبين عجز هذا المحور عن تثمير هذا الانتصار في إيجاد حلول عمليّة للأزمة المالية والاقتصادية إلّا من خلال التنازل للمجتمع الدولي بالتفاوض مع صندوق النقد، هو السّمة الرئيسة لـ”المرحلة الجديدة”. وهو ما يحيل إلى الداخل الإيراني حيث يواجه النظام الإيراني تناقضاً رئيسياً مماثلاً بين رغبته في التصعيد ضدّ الولايات المتحدة والتشدّد في المفاوضات النووية مع الـ”4+1″، وبين حاجته الماسّة إلى أن ترفع واشنطن العقوبات عنه لكي يستطيع معالجة الأزمة الاقتصادية الحادّة التي تعيشها الجمهورية الإسلامية والتي تثير نقمة الشعب الإيراني.

على هذا المنوال، لن تكون المرحلة الجديدة التي بشّر بها الرئيس عون مرحلة استقرار وازدهار، بل مرحلة استقطاب دولي – إقليمي حول لبنان بعكس ما يوحي به الاتفاق الفرنسي – الإيراني حول الحكومة، وهو اتفاق هشّ ما دام لا يحظى بتغطية أميركية، وإن كان تفاقم الانهيار اللبناني قد دفع واشنطن إلى عدم عرقلته.

إقرأ أيضاً: لبنان ضحيّة مستحيليْن

أمّا الاعتقاد أنّنا في مرحلة شبيهة ببداية التسعينيات عندما دخلت المنطقة والعالم مرحلة جديدة طالت تأثيراتها المباشرة لبنان من خلال الاتفاق الأميركي – السوري حوله بموافقة عربية وأوروبية، فهو اعتقاد مشوّش وتحريفيّ إلى أبعد حدود. فحتّى لو توصّلت واشنطن وطهران إلى اتفاق حول الملف النووي الإيراني فإنّ ذلك لن يؤدّي إلى اعتراف الولايات المتحدة بنفوذ طهران عبر حزب الله في لبنان على غرار اعترافها بنفوذ دمشق فيه منذ التسعينيات. بالتالي سيستمرّ التجاذب الإيراني – الأميركي حول لبنان ولو أخذ وتيرة وشكلاً مختلفين، وهو ما سيظهر جليّاً في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وفي المفاوضات مع إسرائيل لترسيم الحدود البحرية جنوباً. فكلا الملفّين الحيويّين لإنقاذ الوضع اللبناني سيكونان خاضعين لهذا التجاذب. وللتحديد أكثر فإنّ الحزب، ومن خلفه إيران، سيمسكان بهذين الملفّين ولن يفرجا عنهما إلّا لقاء مكاسب سياسيّة أيّاً تكن تداعيات التأخّر في بتّهما على الشعب اللبناني. 

مواضيع ذات صلة

برّي ينتظر جواب هوكستين خلال 48 ساعة

تحت وقع النيران المشتعلة أعرب الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب موافقته على أن يستكمل الرئيس جو بايدن مسعاه للوصول إلى اتفاق وقف لإطلاق النار في…

الجيش في الجنوب: mission impossible!

لم يعد من أدنى شكّ في أنّ العدوّ الإسرائيلي، وبوتيرة متزايدة، يسعى إلى تحقيق كامل بنك أهدافه العسكرية والمدنية، من جرائم إبادة، في الوقت الفاصل…

وزير الخارجيّة المصريّ في بيروت: لا لكسر التّوازنات

كثير من الضوضاء يلفّ الزيارة غير الحتميّة للموفد الأميركي آموس هوكستين لبيروت، وسط تضارب في المواقف والتسريبات من الجانب الإسرائيلي حول الانتقال إلى المرحلة الثانية…

تعيينات ترامب: الولاء أوّلاً

يترقّب الأميركيون والعالم معرفة ماذا تعلّم الرئيس ترامب من ولايته الأولى التي كانت مليئة بالمفاجآت وحالات الطرد والانشقاقات، وكيف سيكون أسلوب إدارته للحكم في ولايته…