يريد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يعرف رأسه من رجليْه وهو يعدّ للحسم في العديد من الملفّات الثنائية والإقليمية التي يرى نفسه فيها اللاعب الأقوى، وبينها سوريا وقره باغ والقرم وحوض البحر الأسود. بالمقابل يكرّر الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أن لا حلول لأيّ مشاكل تتعلّق بأمن تركيا أو بمصالحها الإقليمية من دون أن تكون أنقرة أمام الطاولة. حديث إردوغان عن مخاطر ما يجري على حدود بلاده الجنوبية، وتمسّكه بمصالح تركيا في البلقان والقوقاز وشرق المتوسط وليبيا، كانا بين أولويّات قمّة سوتشي التركية الروسية التي عُقِدت بالأمس وسط ملفّات تداخلت فيها الحسابات والمصالح التركية الروسية.
التقى الرئيسان التركي والروسي مجدّداً لثلاث ساعات كاملة بعد مرور حوالي عام ونصف على آخر لقاء قمّة جمعهما في محاولة لصناعة حلول وصيغ توافقية جديدة لكمّ هائل من الملفّات.
لخّص وزير الدفاع التركي خلوصي آكار المعادلة التركية في شمال سوريا بقوله: “ينبغي أن نحقّق النجاح من أجل أمن إخواننا السوريين هناك من جهة، ومن جهة أخرى من أجل أمن قوّاتنا وحدودنا، وحماية بلادنا التي لا تتحمّل موجة لجوء جديدة”
اختار إردوغان قبل التوجّه إلى روسيا أن يجمع الدائرة السياسية الأقرب وبعض أعوانه ومستشاريه للترويح عن النفس من خلال ترتيب مباريات وديّة في كرة السلّة في ملعب القصر الرئاسي. وهي رسالة إلى الداخل والخارج مفادها أنّ اللقاء مع بوتين لن يكون صعباً، وأنّ الأمور تتقدّم على ما يرام. آخر ما فعله بوتين قبل القمّة هو رصد تقارير التوتّر التركي الأميركي، ودبلوماسية المناكفة المتصاعدة بعدما حرم بايدن نظيره إردوغان فرصة قمّة عاجلة تقوّي يد الأخير وهو في طريقه إلى سوتشي.
أين ستكون المساومات؟ هذا ما يريد أن يعرفه الرئيس الأميركي قبل غيره. عندما يقطع بايدن الطريق على إردوغان ليكون أقوى أمام طاولة الحوار التركي الروسي، سيقابله حتماً ردّ إردوغان، ولكن من سوتشي مباشرةً عبر تفاهمات أوسع مع بوتين، وهو الاحتمال الأقرب إلى العقل والمنطق.
ما الذي يقصده إردوغان من حديثه عن تهديدات قادمة من النظام في دمشق في مناطق الحدود التركية السورية وهو في طريقه إلى روسيا؟ هل هي مناورة سياسية أم رسالة إلى دمشق وموسكو بأنّ أنقرة لن تتردّد في القيام بعملية عسكرية جديدة في شمال سوريا إذا ما شعرت أنّ مصالحها تتطلّب ذلك؟ قرْع طبول الحرب وإشعال الجبهات لن يقتصرا على إدلب وحدها إذا ما فشلت المفاوضات التركية الروسية. لكنّ إردوغان براغماتي حتى النهاية، تماماً مثل نظيره الروسي. احتمالات التفاهم مرّة أخرى، كما حدث في السنوات الست الأخيرة، هي الأقرب. إلا أنّ المشكلة هذه المرّة هي إرادة كلا الرجلين حسم بعض الملفّات والمواقف، فمَن سيتنازل للآخر؟ وكيف ستتمّ الصفقات؟
تتمسّك موسكو بورقة الجماعات الجهادية في إدلب وضرورة القضاء عليها هناك، وأنقرة تتمسّك بحماية مصالحها ومصالح حلفائها السوريّين في شمال غرب سوريا. بوتين يريد أيضاً أن يلعب الورقة الكردية في شرق الفرات مقابل الورقة التركية في إدلب. ليس صدفة أن نرى وفد مجموعات “قسد” و الرئيس التنفيذية لـ”مجلس سوريا اليدمقراطية” إلهام أحمد وهي تتحرّك على خطّ موسكو – واشنطن. وصول المحادثات التركية الروسية إلى طريق مسدود سيسرّع العمليّات القتالية، ويُشعل الجبهات، وهذا يعني بالنسبة إلى النظام محاولة التقدّم نحو إدلب، والتقدّم التركي في شرق الفرات لتطهير المناطق العالقة في المفاوضات التركية الروسية والتركية الأميركية. واشنطن متمسّكة بحماية حصّتها ونفوذها وما تقوله وتريده هنا طبعاً.
يقول قائد “قوات سوريا الديمقراطية” مظلوم كوباني إنّ الإدارة الأميركية طمأنته إلى وجود فوارق بين طريقة تعاملها مع الملفّ الأفغاني والملفّ السوري. وتقول إلهام أحمد، بتوصية أميركية روسية، إنّه “لا عداوة لنا مع تركيا”، لكنّها تقول أيضاً إنّ “من المهمّ تذكّر أنّ “حزب العمّال الكردستاني” أُسِّس أصلاً للدفاع عن حقوق الكرد المضطهدين في تركيا، وكان هدفه إرساء نوع من الديموقراطية هناك”.
لن تتأثّر أنقرة بمواقف من هذا النوع، والدليل أنّ ردّها كان دائماً عبر ترجمة ميدانية تتلخّص بعمليات عسكرية واسعة في تركيا وسوريا والعراق ضدّ عناصر هذه المجموعات. أنفقت واشنطن في السنوات الخمس الأخيرة حوالي ملياريْ دولار على تسليح وتجهيز وتثبيت حليفها الكردي في شرق الفرات. تخصّص موازنة أميركية جديدة (177 مليون دولار) لمجموعات “قسد” تحت عنوان حربها على مجموعات داعش في سوريا. لكنّ المشكلة أنّ عناصر “داعش” لم تعُد موجودة هناك، فأين وكيف ستنفق هذه الأموال؟ مسألة تُقلِق أنقرة وموسكو ودمشق في الوقت نفسه.
قد يعطي الكرملين إردوغان ما يريده في إدلب مقابل إنهاء الخلافات التركية مع النظام في دمشق. لكنّ الصفقة الحقيقية ستكون أوسع وأكبر، وهي ستشمل القوقاز والبلقان وأفغانستان ومفاجآت على خطّ شمال إفريقيا وشرق المتوسط، من دون أن ننسى جبهة شرق سوريا حيث قصفت “طائرات مجهولة” مواقع للميليشيات المدعومة من إيران في ناحية الميادين شرق دير الزور، تزامناً مع قصف رتل شاحنات عند الحدود السورية العراقية قرب البوكمال.
فتل أبيب تريد التذكير بحصّتها ونفوذها في سوريا أيضاً.
لم يتمكّن إردوغان من لعب الورقة الأميركية وهو ذاهب إلى مفاوضة بوتين، لكنّه حتماً سيلعب الورقة الروسية بعد الآن وهو يفاوض بايدن على ملفّات إقليمية عديدة. يتطلّع إردوغان، كما قال، إلى أن تُظهر موسكو موقفاً مغايراً حيال الشأن السوري، بما تقتضيه علاقات التضامن بين البلدين والعمل المشترك عند الحدود الجنوبية لتركيا. ولكن مَن يريد الحلّ في سوريا عليه أيضاً أن يفاوض من منطلق الخطّة الروسية التي تقوم على قبول بشار الأسد في السلطة بانتظار إزاحته “ديموقراطياً” عبر الذهاب مرّة أخرى إلى الصناديق وتشكيل حكومة وحدة وطنية سورية تجمع القوى السياسية الأساسية وتقود البلاد نحو دستور جديد يأخذ بعين الاعتبار ما تريد واشنطن لـ”قسد” في شرق الفرات.
لقاء قمّة على انفراد يناقش الملفّات الحسّاسة مهمٌّ طبعاً. لكنّ أهميّته أكبر لكونه سيُقلق واشنطن ويُغضبها ممّا تمّ الاتفاق عليه بين الرئيسين في سوتشي، خصوصاً أنّ إردوغان يتوقّف عند الدور الذي تلعبه تركيا وروسيا في المنطقة، وضرورة تعزيز هذه العلاقات، واعتبار أنّ مفتاح الحلّ في سوريا هو التنسيق التركي الروسي.
إذا لم تحصل أنقرة على ما تريده في سوريا وليبيا والقوقاز والبلقان والبحر الأسود وشرق المتوسط، من خلال علاقاتها بأوروبا والولايات المتحدة، فهي ستبحث من أجل الحصول على ذلك في مكان آخر. الاحتمال الأقرب هو التفاهمات التركية الروسية الإقليمية
لخّص وزير الدفاع التركي خلوصي آكار المعادلة التركية في شمال سوريا بقوله: “ينبغي أن نحقّق النجاح من أجل أمن إخواننا السوريين هناك من جهة، ومن جهة أخرى من أجل أمن قوّاتنا وحدودنا، وحماية بلادنا التي لا تتحمّل موجة لجوء جديدة”.
“كلّ واحد يبكي على ميّته”، كما يقول المثل التركي. تريد تركيا الحصول على الطاقة من روسيا، والاستفادة من إمكانية نقل الغاز الروسي إلى أوروبا. لذلك من الطبيعي أن تؤدّي العلاقات الاقتصادية بين الطرفين إلى تنسيق سياسي. ما سيحسم الحوار التركي الروسي قد يكون أيضاً ما تقوله وتردّده القيادات التركية دائماً، وهي في طريقها إلى روسيا، من أنّها تسعى إلى تعزيز العلاقات الثنائية والوصول إلى حجم تبادل تجاري قيمته 100 مليار دولار.
من الواضح أنّ واشنطن تتخوّف من تطوّر العلاقات الروسية التركية إلى تحالف حقيقي، وترغب بأن يكون لأنقرة دور في موازنة الدور الروسي المتصاعد. لكنّ الواضح أيضاً أنّه بعد أيام فقط على اندلاع أزمة الغواصات، أعلن جو بايدن وإيمانويل ماكرون التزامات بإعادة إرساء الثقة التي تعرّضت لاختبار بين باريس وواشنطن، مع إقرار الرئيس الأميركي بأنّ المشاورات المفتوحة بين الحلفاء كان من شأنها أن تساعد على تفادي هذه التوتّرات. لماذا لا يفعل بايدن وإردوغان الشيء نفسه؟ لا رغبة لهما في ذلك، هي الإجابة المختصرة.
إذا لم تحصل أنقرة على ما تريده في سوريا وليبيا والقوقاز والبلقان والبحر الأسود وشرق المتوسط، من خلال علاقاتها بأوروبا والولايات المتحدة، فهي ستبحث من أجل الحصول على ذلك في مكان آخر. الاحتمال الأقرب هو التفاهمات التركية الروسية الإقليمية.
إقرأ أيضاً: “مقلوبة” سوريّة في المطبخ الروسيّ
سيكون للعلاقات التركية الروسية دورها الكبير في رسم معالم العلاقات التركية الأميركية، والمؤكّد أنّ بوتين سيستغلّ ويستثمر في مسارها ومستقبلها بعد الآن. سيبحث إردوغان عن فرصة تسجيل اختراقٍ ما في الملفّ السوري يعطيه قوّة دفعٍ سياسيّة وشعبية جديدة، خصوصاً إذا ما قرّر تبنّي سيناريو الانتخابات المبكرة في تركيا. لكنّ هذا لا يعني التفريط الكامل بالعلاقات التركية الأميركية. تركيا الجديدة، حتى لو اقتربت أكثر من روسيا، لن تتحوّل إلى خصم لأميركا والغرب لأنّ الأمر ليس بيد إردوغان أو حزب العدالة والتنمية وحده. هناك توازنات سياسية أمنيّة اقتصادية ينبغي أخذها بعين الاعتبار، وهناك استطلاعات رأي كثيرة تتحدّث عن احتمالات التغيير السياسي في اتجاه الصناديق في أقرب فرصة، ولا أحد في تركيا يريد أن يتحوّل إلى عدوّ لواشنطن.
*أكاديميّ وكاتب تركيّ، والعميد المؤسّس لكلّية القانون في جامعة غازي عنتاب، وأستاذ مادّتيْ القانون الدوليّ العامّ والعلاقات الدوليّة.