“لا يزال المسيحيون ينظرون إلينا باعتبارنا مواطنين من درجة ثانية على الرغم من الحرب الأهلية، واتفاق الطائف عام 1989، وما جرى تعديله لاحقاً في الدستور في سبيل إقرار توازن السلطات، وتوفير المشاركة السياسية”. قلت له: “لكنّكم مَنْ جئتم بالرئيس ميشال عون، الذي يسعى إلى تقويض اتفاق الطائف، تحت عنوان استعادة الحقوق المسيحية، والعودة بنا إلى ما قبل عام 1975، بل إلى إعلان لبنان الكبير عام 1920، أي حتى قبل الميثاق الوطني بين الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح عام 1943”. قال لي، وهو أحد الكوادر القدامى في حزب الله: “تحالَفْنا مع جبران باسيل مضطرّين. فهل السنّة مستعدون للتعاون معنا لتغيير المعادلة؟”. ثمّ استدرك: “لبنان معقّد جدّاً. والحزب يحاذر الصدام مع أحد. لكنّ الوضع لم يعُد يُطاق”.
بات اتفاق الطائف والدستور كلائحة الطعام، يختار كلّ فريق ما يشتهيه ويرغب فيه. تقفز الأحزاب المسيحيّة فوق مبدأ إلغاء الطائفية السياسية، وتتمسّك خاصة بالفقرة (ي) من مقدّمة الدستور، التي تنصّ على عدم شرعية أيّ سلطة لا تحترم مبدأ العيش المشترك
قد لا يمثّل هذا الكادر الحزبي الموقف الرسمي لحزب الله الآن، لكنّه يعبّر عن رأي دفين، بدأ يرتفع صوته، في حوارات تدور رحاها في شوارع بيروت المظلمة وأزقّتها العطشى، حيث تختلط الميول والاتجاهات والأحزاب والتيارات. فللمرّة الأولى منذ عام 2005، يبدو المزاج الشعبي متغيّراً بين عموم السنّة والشيعة لأسباب وعوامل مختلفة:
– هناك أوّلاً، تقارب المصالح، في الحدّ الأدنى، مع بروز الخطاب المسيحي الشعبوي الذي استهلّه ميشال عون وصهره، واستعاده سمير جعجع، الذي كان ذا شعبية كبيرة عند السنّة في سنوات فائتة.
– وثانياً، اكتشاف متجدّد أنّ ما يجمع الطائفتين أكبر ممّا يفرّق، في المحضن الوطني الواحد.
قبل ذلك، لم يكن الرأي العامّ الإسلامي ليعبأ بالعزف الجماعي على نغمة الحقوق المسيحية، واسترداد صلاحيات رئيس الجمهورية، طوال السنوات التي سبقت التسوية الرئاسية عام 2016، وما بعدها. بل ربّما لم يأخذ أحد هذه المطالب على محمل الجدّ، بوصفها نوعاً من الخطاب المتشنّج بين مرشّحي الرئاسة الأولى. بل لم يُلتفَت إلى أبعاد اتفاق معراب بين الحزبين الرئيسيّين، التيّار والقوات، وفي بنوده السرّيّة “تعزيز صلاحيات رئيس الجمهورية”. وعندما دبّ الخلاف بينهما، أخذ جعجع على عون فشله في مقولة الرئيس القوي، وتحويل الحقوق المسيحيّة إلى حقوق شخصيّة. فمَن ذا الذي يستطيع تغيير موازين القوى الحالية، فيسمح بنقض اتفاق الطائف، إلا إنْ تواطأ طرفا تفاهم مار مخايل لعام 2006، أي الحزب والتيار الوطني الحرّ وحلفاؤهما، على عقد مؤتمر تأسيسي جديد، بدعم خارجي. لكن دون ذلك اختلاف الحليفين الرئيسيّين نفسيْهما على غاية المؤتمر ومخرجاته. هل هي إقرار المثالثة، أم شيء آخر يُعيد تقسيم الحصص من دون المساس بموقع الموارنة؟ وهل دفع السُنّة والشيعة الأثمان الغالية خلال الحرب الأهلية من أجل العودة إلى زمن الامتيازات المارونية؟ ولو افترضنا أنّ الموقف السياسي العامّ هو إقرار نهائيّة المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في كلّ وظائف الدولة ومناصبها من أرفعها إلى أدناها، وفق التقاسم الحالي لرئاسات الدولة بين الطوائف الكبرى، فهذا يعني إلغاء الوضع الانتقالي الوارد في المادة الـ95 من الدستور، المعنيّة برسم الآليّات الآيلة إلى إلغاء الطائفية السياسية، فننتقل بذلك عمليّاً إلى الاتجاه المعاكس، أي إلغاء “إلغاء الطائفية السياسيّة”، في حين أنّ إلغاءها مطلب أساسيّ بحسب الفقرة (ح) من مقدّمة الدستور. فهل المطلوب تعديل مقدّمة الدستور، وإلغاء المادة الـ95 لوقف النفاق السياسيّ؟
استحوذ الرئيس عون على السلطة التنفيذيّة ما بين التشكيل وممارسة السلطة. حاول بكلّ قواه استعادة السيطرة على بقيّة الأركان السبعة التي ذكرها النائب ألبير منصور. اصطدم خاصّة بحاكم مصرف لبنان. وارتطم أوّلاً وأخيراً أمام مجلس النواب
لقد بات اتفاق الطائف والدستور كلائحة الطعام، يختار كلّ فريق ما يشتهيه ويرغب فيه. تقفز الأحزاب المسيحيّة فوق مبدأ إلغاء الطائفية السياسية، وتتمسّك خاصة بالفقرة (ي) من مقدّمة الدستور، التي تنصّ على عدم شرعية أيّ سلطة لا تحترم مبدأ العيش المشترك. أمّا القراءة الشمولية والمتكاملة لاتفاق الطائف والدستور، فتوجِب اعتماد النصوص كلّها، من دون اجتزاء أو انتقاص. على العكس من ذلك، يقوم الرئيس وحاشيته بتفسير الدستور وتخيّر الأولويّات السياسيّة الآنيّة في تطبيق موادّه، وهم ليسوا الجهة الصالحة لأيّ تفسير. وقد عرقل الرئيس عون تشكيل الحكومة 13 شهراً من أجل تثبيت تفسيره الخاصّ للفقرة الرابعة من المادة 53 من الدستور، التي تنص على أنّ رئيس الجمهورية “يُصدر بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة ومراسيم قبول استقالة الوزراء أو إقالتهم”، فقلب الأدوار، وبدلاً من أن يشكّل رئيس الحكومة حكومته بمشاركة رئيس الجمهورية لأنّه يحمل قلم التوقيع، يشكّل رئيس الجمهورية هذه الحكومة بمشاركة من رئيسها، وهو إلى ذلك يحمل القلم أيضاً. وكلّ ذلك تحت عنوان استرداد صلاحيّات رئيس الجمهورية. وكأنّ هذا الموقع لن يشغله إلا مارونيّ أبد الآبدين، في تعطيل واضح للدستور نصّاً وروحاً. فإن كان إلغاء الطائفية السياسية متعذّراً بشكل تامّ، يبقى في الإمكان الاتفاق مثلاً على تناوب الطوائف الكبرى على الرئاسات الثلاث، كما قال باسيل أخيراً، بعد إجراء بعض التعديلات التي تحفظ التوازن بين السلطات، ولمدّة انتقالية قد تدوم طويلاً. ولا حاجة إلى تعقيد المشهد اللبناني بطرح الدولة المدنيّة، أي العلمانيّة، شرطاً لتخلّي الموارنة عن امتياز الرئاسة الأولى، كي تكون بصلاحيّاتها الحاليّة متاحة لكلّ ذي عقل راجح، نابع من عبقريّة المكان، ونموذجيّة التعايش.
أمّا اللامركزية الإدارية والماليّة الموسّعة التي يطالب بها باسيل، فيحاول تطبيقها عمليّاً من خلال مؤشّرات عدّة. منها ما فشل حتى اللحظة مثل إنشاء معمل سلعاتا الكهربائيّ (المسيحيّ)، وتشييد سدّ بسري لجرّ المياه إلى بيروت وضواحيها المسلمة. ومنها ما هو قيد السعي مثل الدعوة إلى تقسيم بلديّة بيروت إلى شطرين استغلالاً لفشلها الذريع. ومنها ما نجح كفصل بيروت الأولى عن الثانية وفق القانون الانتخابيّ النيابي الساري. ويُشار إلى أنّ اتفاق الطائف يلحظ في الفقرة الثالثة، تحت عنوان “إصلاحات أخرى”، اللامركزية الإدارية (من دون عبارة الماليّة)، بعد التأكيد على أنّ الدولة اللبنانية دولة واحدة موحّدة ذات سلطة مركزية قوية. ويشترط لاعتماد اللامركزية الإدارية الموسّعة أن تكون في الوحدات الصغرى، قضاء فما دونه. فيما لم يتضمّن الدستور المعدّل هذه الفقرة. لماذا؟ لأنّ اللامركزية الإدارية الموسّعة حمّالة أوجه، فيما لو أُسيء تطبيقها. وقد تكون خطوة أولى نحو الفدرالية، فيما المقصود تسهيل العمل الإداريّ لا إقامة كانتونات مستقلّة اقتصاديّاً وماليّاً، وربّما سياسيّاً في مرحلة تالية.
يقول النائب المخضرم ألبير منصور، وهو أحد صانعي اتفاق الطائف، في كتابه “الانقلاب على الطائف” الصادر عام 1993، إنّ الاتفاق أنهى هيمنة احتكاريّة للسلطة يندر مثيلها، فكان رئيس الجمهوريّة يُمسك بالقرارات الأساسيّة السبعة ذات العلاقة بإدارة الدولة، أي القرارات السياسيّة والماليّة والأمنيّة والقضائيّة والإداريّة والإعلاميّة والتوجيهيّة، من دون تحمّل أيّ مسؤوليّة، ولا إمكان مراجعة أو ملاحقة. يستحوذ على السلطة التنفيذيّة بكلّ مفاصلها، ويعطّل عمل البرلمان متى شاء ويحلّه متى شاء. وليس هذا حكراً على ما مارسه ميشال عون عندما كان رئيساً للحكومة العسكريّة بين عاميْ 1988 و1990. فجاء اتفاق الطائف وجعل السلطة التنفيذيّة بيد مجلس الوزراء مجتمعاً، لا بيد رئيس الحكومة.
اللافت أنّ كلية الحقوق والعلوم السياسيّة في الجامعة اللبنانية نظّمت ندوة عام 2014 تحت عنوان “صلاحيّات رئيس الجمهوريّة بين النصّ الدستوريّ والممارسة السياسيّة”، فأصدرت توصيات تدعو إلى استرداد الرئيس كثيراً من الصلاحيّات التي سلبها منه اتفاق الطائف، بوصفه الحَكَم بين المؤسسات الدستوريّة ورأس البلاد ورمزها. وأهمّها:
“حلّ مجلس النواب ضمن ضوابط قانونية ودستورية، طرح الثقة بالحكومة أمام مجلس النواب، عدم تقييد الرئيس بمهل لتوقيع القرارات والمراسيم لفتح المجال أمامه لطلب إعادة النظر فيها من قبل الحكومة وبنصاب الثلثين، إقالة الوزير الذي يمتنع عن التوقيع على المقرّرات، تمكين الرئيس من اتّخاذ الإجراءات السريعة والمناسبة لمواجهة الظروف الاستثنائية، إقالة الحكومة إذا أصبحت غير ميثاقية، تحديد مهلة مقبولة لتشكيل الحكومة تحت طائلة اعتبار رئيس الحكومة المكلّف معتذراً، حقّ الدعوة إلى إجراء استفتاء شعبي عند الاقتضاء، ربط الهيئات الإنمائية برئاسة الجمهورية، حقّ الرئيس في تعيين نصف أعضاء المجلس الدستوري، منح رئيس الجمهورية حقّ دعوة مجلس الوزراء إلى الاجتماع استثنائياً كلّما رأى ذلك ضروريّاً، واعتبار رئيس الجمهورية قائداً أعلى للقوات المسلّحة”.
إقرأ أيضاً: هل تُنهي القمّة الروحيّة “انقسام المرفأ” الطائفيّ؟
لم تصبح التوصيات تعديلات دستورية كما كان يرغب الرئيس ميشال سليمان عندما عُرِضت عليه في ذلك الوقت، لكنّها صارت، بعد أكثر من سنتين، نهج العهد. استحوذ الرئيس عون على السلطة التنفيذيّة ما بين التشكيل وممارسة السلطة. حاول بكلّ قواه استعادة السيطرة على بقيّة الأركان السبعة التي ذكرها النائب ألبير منصور. اصطدم خاصّة بحاكم مصرف لبنان. وارتطم أوّلاً وأخيراً أمام مجلس النواب. ولولا الطائف لكان حلّ البرلمان أوّل قرار يتّخذه في ولايته، وأقام في الفراغ الدستوريّ سلطته المُطلقة.