طرابلس: متى تخرج سكاكين الليل من غمدها؟

مدة القراءة 8 د

تشهد مدينة طرابلس نوعاً من الاستقرار الأمنيّ النسبيّ، بعدما كانت على مدى الأشهر الماضية بؤرة توتّر أمنيّ مستمرّ، نتج عنها ارتفاع معدّلات الجريمة، وازدياد حالات القتل التي أصبحت شبه يومية.

كان هذا التحوّل نتيجة الضغوط السياسية التي مُورِست على الأجهزة الأمنيّة، بعد الاتّهامات التي وُجِّهت إليها بالتقاعس والتواطؤ، وحتى بمحاولة فرض ثقافة “الفوضى” كهويّة للمدينة. عندئذٍ تحرّكت الأجهزة الأمنيّة، وقامت بحملات اعتقال يوميّة لمفتعلي الإشكالات ومطلقي النار، وعمدت إلى “ضبضبة” جماعاتها، وأُعيدت “سكاكين الليل” إلى أغمادها…. إلى حين.

انطلقت تلك الضغوط السياسية من دار الفتوى بمبادرة من مفتي طرابلس والشمال، الذي جمع ممثّلي القوى السياسية والأجهزة الأمنيّة في اجتماعات متتالية، تحت عباءة دار الفتوى، في محاولة لتدارك الأمور. وتلا هذه الاجتماعات مؤتمرٌ صحافيٌّ لرئيس بلدية طرابلس طالب الأجهزة الأمنيّة والمحافظ بتحمّل مسؤوليّاتهم. ثمّ كان اجتماع لنوّاب المدينة كان الوضع الأمني البند الأوّل فيه.

علوش لـ”أساس”: أجواء طرابلس في الفترة الحالية تسودها ضبابيّة ممزوجة بقدر من الإيجابيّة الناتجة عن تشكيل حكومة جديدة برئاسة ميقاتي، والتي يأمل الطرابلسيون أن تُسْهِم في إرساء الاستقرار

اعتبر الشارع الطرابلسي أنّ كلّ ذلك ليس أكثر من فولكلور، خاصةً أنّ الأيام الثلاثة التي أعقبت اجتماع النواب شهدت مقتل شابّين، واندلاع معارك عائلية في أسواق المدينة القديمة.

بيد أنّ سحر القرار السياسي بدأت تظهر مفاعيله مع إنهاء محافظ المدينة رمزي نهرا اعتكافه الطويل، وعقْدِ اجتماعين لمجلس الأمن الفرعي من بعد طول انقطاع، تلاهما نشاطٌ مكثّف ولافت لواحد من الأجهزة الأمنيّة في اعتقال المخرّبين والعابثين.

كلّ ما جرى يشكّل دلالة واضحة على أنّ الأمن سياسيّ بالدرجة الأولى، وأنّه حيثما تترك السياسة فراغاً تقوم الأجهزة بملْئِه. فكيف إذا كان السياسيون يستخدمون الأجهزة في صراعاتهم؟ النتيجة تكون ترك مدينة طرابلس لعبث الأجهزة وتناحرها وتصارعها، عبر بيادق تدفع بها إلى الميادين والشوارع لفرض سطوتها على المدينة، التي كانت على الدوام الملعب المفضّل لتلك الأجهزة لاستعراض عضلاتها.

الخطّة الأمنيّة

بعد سنوات من الاحتراب الداخلي في المدينة بين جبل محسن وباب التبّانة، والمعارك المتنقّلة مع الجيش في أزقّة وحواري طرابلس، عاد الأمن إلى ربوع المدينة، مع إطلاق وزير الداخلية آنذاك نهاد المشنوق الخطة الأمنيّة في ربيع عام 2014، إثر قرار سياسي اُتُّخِذ على أعلى المستويات. وقتذاك أُعِيدت الأسود والنمور والضباع المتناحرة في المدينة إلى أقفاصها، أمّا الأسود غير المروّضة فقد أُجْبِرت على المغادرة.

لكنّ مفاعيل الخطة لم تدم طويلاً. ففي ربيع عام 2016، وغداة الهزيمة الساحقة لتحالف قوى السلطة في الانتخابات البلدية أمام اللائحة التي شكّلها ودعمها وزير العدل الأسبق أشرف ريفي، وما تلاها من محاولات الأخير دخول نادي الزعماء السياسيين من بوّابة جماعات الشارع المرتبطة بالأجهزة الأمنيّة، والتي تشكّل الملعب الذي يجيد اللعب فيه ويعرف جميع فرقه المتنافسة ولاعبيه الأساسيين والاحتياط، أراد الحريري ردّ الصاع صاعين لريفي في ملعبه وأمام جمهوره وبالوسيلة نفسها. عندئذٍ عاد الوهج إلى تلك الجماعات، وازداد الطلب عليها بين المتنافسين، مع غلبة واضحة لتيار المستقبل بحكم وجوده في السلطة، حيث استخدم الأمين العام لتيّار المستقبل أحمد الحريري أحد الأجهزة الأمنيّة لاستقطاب جماعات الشارع وتطويع كبار لاعبيها، عبر ترهيبهم بالسجون وترغيبهم بمظلّة أمنيّة يتفيَّأون بظلالها لممارسة أعمالهم الخاصّة وتوسيعها، من تسلّط وبلطجة وفرض خوّة واعتداء على الأملاك العامّة.

احتلّت تلك الجماعات الواجهة في المنازلة الانتخابية، فانسحب العديد من النخب من تيار المستقبل. وعندما زار الحريري مدينة طرابلس وتجوّل في مناطقها وشوارعها، كانت محطّات توقّفه لدى زعماء تلك الجماعات حصراً.

دميان لـ”أساس”، أنّ “المهمّات الملقاة على عاتق الأجهزة الأمنيّة كبيرة جداً ومتشعّبة، خاصة في طرابلس، حيث بات على الأجهزة توفير حماية خاصة لشاحنات المازوت، وحفظ الأمن على محطات الوقود

انتفاضة 17 تشرين

ازدادت حاجة السياسيين إلى تلك الجماعات في الأيام الأولى لانتفاضة 17 تشرين 2019، فهم غبّ الطلب، سريعو الحركة والتأثير، على عكس النخب التي يجب بذل الجهود المضنية لإقناعها بالتحرّك، ولا تصمد عموماً أمام ضغط جماعات الأمن.

وقد وجدت الأجهزة في الانتفاضة فرصة ثمينة للسيطرة على قرار مدينة طرابلس، محاولةً إعادتها إلى زمن ما قبل الخطة الأمنيّة بأشكال أخرى، في ظلّ انسحاب السياسيين وانزوائهم. وأسهمت تداعيات الأزمة الاقتصادية والإغلاق بسبب “كورونا”، في جعل إمرة الشوارع في يد الأجهزة وحدها، فتحوّلت الشوارع والساحات إلى ميادين للمبارزات القذرة: قطع طرقات في نقاط بارزة ومحدّدة، تقاضي رسوم مرور من الناس، أعمال شغب وحرق مقرّات رسمية، بلطجة على محطات الوقود، تسلّط على المطاعم والمتاجر، حتى إنّ اقتحام بعض الشركات على ندرتها في هذه المدينة البائسة والفقيرة تمّ بتحريضٍ من جهاز أمنيّ.

لم تكن جماعة لتجرؤ على الظهور علناً وبسلاحها، لولا أنّها تحظى بحماية أمنيّة تقيها شرّ المساءلة والعقاب. ولم تكن الأجهزة الأمنيّة لتتمادى إلى هذه الدرجة، لولا الغياب السياسي الفاضح عن المدينة التي بدت يتيمة، وكأنَّه لا نواب لها ولا مسؤولين، ولا نخب فيها ولا أبناء حريصين.

لذلك ما إن بادرت بعض الجهات في طرابلس إلى التحرّك، راميةً الكرة في ملعب الأجهزة الأمنيّة، حتى اُضطرّت الأخيرة إلى تهدئة اللعبة، لكنها قطعاً لم تنتهِ.

يحدو عدداً من أبناء المدينة أملٌ بإنهاء هذه اللعبة مع عودة الرئيس ميقاتي إلى السراي الحكومي، وتسنّم أحد أبنائها وزارة الداخلية، لكن من دون نسيان أنّ طرابلس خلال ولاية الميقاتي الثانية في السراي، رئيساً لحكومة القمصان السود، عاشت أياماً سوداء مريرة. تلك الأحداث اعتبرها ميقاتي في ذلك الحين رسائل موجّهة إليه من قلب مدينته، لكنّ مَن كان المرسِل؟ بالتأكيد لم تكن جهة واحدة، بل أكثر، ولكلّ جهة جهازها وسعاة البريد خاصّتها. لذا لم تنتهِ ولن تنتهي ظاهرة خفافيش الليل، بل توارت حتى تعود الحاجة إليها.

علوش ودميان: تضارب صلاحيات الأجهزة

يستبعد الدكتور مصطفى علوش تماماً أن “تعود طرابلس إلى ما كانت عليه قبل تطبيق الخطة الأمنيّة، فالظروف مختلفة، وفي ذلك الحين كان هناك مَن يسعى إلى تدمير المدينة، إضافة إلى أنّه كان ثمّة علامات استفهام والتباس كبير حول أداء وأدوار بعض الأجهزة الأمنيّة. أمّا اليوم فهذا غير موجود”. ويشير علوش إلى “محاولات قامت بها استخبارات الجيش إبّان انتفاضة 17 تشرين، بهدف التأثير على تحرّكات الشارع والتحكّم بها”.

ويقول علوش في حديث لـ”أساس” إنّه “لا توجد مؤشّرات إلى تواطؤ الأجهزة الأمنيّة أو بعضها في أحداث الأشهر الماضية في طرابلس”، عازياً ما حدث إلى “التضارب في صلاحيّات الأجهزة وأدوارها، الذي قد يؤدّي أحياناً إلى نوع من التراخي، ولا سيّما في ظلّ الأزمة الاقتصادية والمعيشية التي يعيشها لبنان، والتي تفسح المجال لحدوث أعمال شغب غير متوقّعة أو خارجة عن المألوف”.

ويرى علوش أنّ “أجواء طرابلس في الفترة الحالية تسودها ضبابيّة ممزوجة بقدر من الإيجابيّة الناتجة عن تشكيل حكومة جديدة برئاسة ميقاتي، والتي يأمل الطرابلسيون أن تُسْهِم في إرساء الاستقرار”، لافتاً إلى أنّ “السلطة على الأجهزة الأمنيّة غير محصورة بالدولة فقط، فهي موزّعة أيضاً بين الطوائف، الأمر الذي يمنح أصحاب الثلاثيّة الممجوجة “جيش وشعب ومقاومة” القدرة على استخدام بعض الأجهزة الأمنيّة لتنفيذ أجندتهم الخاصّة”.

من جهته، يرى منسّق حزب القوات اللبنانية في قضاء طرابلس جاد دميان، في حديث لـ”أساس”، أنّ “المهمّات الملقاة على عاتق الأجهزة الأمنيّة كبيرة جداً ومتشعّبة، خاصة في طرابلس، حيث بات على الأجهزة توفير حماية خاصة لشاحنات المازوت، وحفظ الأمن على محطات الوقود، وغيرهما من المهامّ التي تندرج ضمن إطار الأمن الاجتماعي الذي يحتاج إلى جهود جبّارة”.

إقرأ أيضاً: خليّة داعش الطرابلسيّة.. إنجاز أمنيّ أم مسرحيّة أمنيّ متحرّش؟

ويلفت دميان إلى أنّ “غياب الحزم والجزم من قبل السلطة السياسية، يسمح بنشوء صراع خفيّ بين الأجهزة الأمنيّة، لكن عندما يكون هناك مرجعيّة سياسية قويّة وغطاء سياسي كبير تنعدم فرص حدوث مثل هذه الصراعات الجانبية. وقد تبيّن في الأيام الأخيرة أنّه عندما يوجد قرار سياسي حقيقي بضبط الأمن في طرابلس، يعود الاستقرار إلى يوميّات المدينة”.

ويستبعد دميان “عودة طرابلس إلى زمن حكومة الميقاتي الأولى، بسبب اختلاف الظروف المحلية والإقليمية والدولية اختلافاً كبيراً عمّا كان الحال عليه في ذلك الحين، إضافة إلى أنّ أولويّات الطرابلسيين في مكان آخر تماماً، فالناس تريد تفكيك ائتلاف الأزمات الذي يحاصرها، وتسعى جاهدةً إلى التخفّف منها لا إلى زيادتها”.

مواضيع ذات صلة

الجماعة الإسلامية: انقلاب يقوده الأيّوبيّ ومشعل

إذا أردت أن تعرف ماذا يجري في “الجماعة الإسلامية”، فعليك أن تعرف ماذا يجري في حركة حماس،  وعلاقة الفرع اللبناني بالتحوّلات التي تشهدها حركة حماس……

لا تعهّد إسرائيليّاً بالانسحاب

قابل مسؤولون إسرائيليون الشكاوى اللبنانية من الخروقات المتمادية لقرار وقف إطلاق النار، بسرديّة مُضلّلة حول “الانتشار البطيء للجيش اللبناني في جنوب الليطاني، بشكل مغاير لما…

هل يستبدِل برّي حليفه فرنجيّة بأزعور؟

يدور الاستحقاق الرئاسي في حلقة مُفرغة، أحد أبرز عناصر كَسرِها التوصّل داخلياً إلى تسوية تَمنع الثنائي الشيعي من أن يكون في جلسة التاسع من كانون…

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…