كأنَّ الأسماء قد نفدت في هذا العالم، فهناك 4 دول تحمل اسم غينيا، واحدة في آسيا تسمّى “بابوا غينيا الجديدة”، وهي دولة تقع شرق إندونيسيا، وتسمّى المنطقة الإندونيسية المجاورة لها “غرب غينيا الجديدة”. وفي إفريقيا توجد ثلاث دول تحمل الاسم ذاته: غينيا (كوناكري)، وغينيا بيساو، وغينيا الاستوائية. وحين وقع انقلاب غينيا الأخير، كان لا بدّ للمرء أن يتحقّق: أيّ غينيا جرى فيها الانقلاب؟ وأيّ رئيس تمّ اعتقاله؟!
في أوّل العام 2021، وقع انقلاب عسكري في جمهورية إفريقيا الوسطى، لكنّه لم يكتمل. وبعد شهريْن شهدت النيجر محاولة انقلاب فاشلة أخرى، ثمّ بعد شهرٍ جرى اغتيال الرئيس التشادي إدريس ديبي، ولكنّ الاغتيال لم يتحوّل إلى انقلاب. وبعد شهريْن آخريْن نجح انقلاب عسكري في مالي، تبعهُ انقلاب آخر في غينيا.
قد تصبح “مالي” هي أفغانستان إفريقيا، وتصبح “باماكو” “كابول الجديدة”، ذلك أنَّ الوضع في مالي اليوم أسوأ كثيراً ممّا كان عليه قبل الوجود العسكري الفرنسي في البلاد، وقد لا يستغرق وصول “القاعدة – داعش” إلى السلطة ما استغرقته حركة طالبان
تقدّر مراكز دراسات عدد الانقلابات العسكرية في إفريقيا منذ الاستقلال بأكثر من 200، ما بين ناجح وفاشل.. ولا تزال القارّة السمراء تواجه حالة من عدم اليقين.
فيما مضى لم تكن انقلابات إفريقيا تعني الكثير للعالم، لكنّها اليوم باتت بالغة الأهميّة، ذلك أنّ الغرب والشرق باتا يتصارعان هناك على صعيد الاقتصاد والسلاح. وراحت الجماعات الإرهابية ترتع في صحراء القارّة، تحاول بناء مشروع أمميّ للتخلّف.
لمَّا وقع انقلاب غينيا كانت روسيا والصين تراقبان البلاد التي تنتج خُمس خامّ البوكسيت في العالم. إنّه ليس فقط انقلاباً في صناعة السلطة، بل قد يكون انقلاباً في صناعة الألومنيوم.
كانت الصين قد اشترت جزءاً كبيراً من مناجم البوكسيت الغنيّة، ويأتي نصف إنتاجها من الألومنيوم من تلك المناجم. وأمّا روسيا فقد كان الرئيس “ألفا كوندي” صديقاً لها، وقد يبحث القادة الجدد عن أصدقاء جدد.
توجد “مجموعة فاغنر” الروسية شبه العسكرية في 10 دول إفريقية، ومع كل تغيير في السلطة، تواجه “فاغنر” احتمال المغادرة، وربّما يحدث العكس، إذ قد يتيح الانقلاب لروسيا الوجود في موقع جديد كانت غائبة عنه من قبل. ففي حالة انقلاب مالي، جرت مفاوضات بين المجلس العسكري الحاكم وبين مجموعة فاغنر، وحذّرت وزيرة الدفاع الألمانية من مغادرة الجيش الألماني مالي في حال إتمام الاتفاق.
يوجد 1500 من القوات الألمانية في مالي تحت مظلّة الأمم المتحدة، وتوجد على نحو أكبر القوة الفرنسية الشهيرة “برخان”. وبينما تهدّد ألمانيا بالمغادرة تهدّد فرنسا بالمغادرة أيضاً، وهو ما يزيد من مساحة الغموض في منطقة لم يعد فيها سوى المجهول.
مشروع عالميّ للإسلاميّين؟
وسط ذلك الزحام، الانقلابات والمعادن وبرخان وفاغنر وأميركا والصين.. تتناثر قطعان من الإرهابيين في مساحة تمتدّ من ساحل المحيط الهندي إلى ساحل المحيط الأطلسي، وتمتدّ عمليّاتها الدموية من موزمبيق إلى نيجيريا. إنَّهُ مشروع “الحزام والطريق” الدموي، الذي يريد المتطرّفون بناءه ليكون المشروع العالمي للإسلاميين.
في إفريقيا تحارب فرنسا وحلفاؤها في مسرح عمليّات يعادل 70 ضعف مساحة بلجيكا، وإذا ما أُضيفت الجغرافيا الجديدة للإرهاب، فإنّ المساحة تزيد كثيراً. وفي حال خروج فرنسا فإنّهُ سيكون على الجيوش الوطنية أنْ تواجه وحدها المشروع الجديد.
بدأت فرنسا عمليّة “برخان” العسكرية في إفريقيا تحت عنوان “مكافحة الإرهاب” عام 2014. لكنّ فرنسا لم تعُد قادرة على المواجهة بمفردها. وفي عام 2021 دعا الرئيس إيمانويل ماكرون إلى تأسيس “تحالف عالمي لمكافحة الإرهاب في إفريقيا” يحلّ محلّ “برخان”.
تبدو دعوة إنشاء تحالف عالمي غير واقعية، ولا سيّما مع الأزمة الفرنسية الأميركية البريطانية الأخيرة التي نشأت على أثر صفقة الغواصات الأسترالية، وهو ما يعني أنّ الانسحاب الفرنسي من مالي سيكون أشبه بالانسحاب الأميركي من أفغانستان، حيث سيترك الفرنسيون وراءهم “أفغانستان جديدة”.
قد تصبح “مالي” هي أفغانستان إفريقيا، وتصبح “باماكو” “كابول الجديدة”، ذلك أنَّ الوضع في مالي اليوم أسوأ كثيراً ممّا كان عليه قبل الوجود العسكري الفرنسي في البلاد، وقد لا يستغرق وصول “القاعدة – داعش” إلى السلطة ما استغرقته حركة طالبان.
في بوركينا فاسو لا تبدو الأمور أفضل حالاً، ففي عام 2015 أفاقت البلاد على أوّل عمل إرهابي كبير، وفي عام 2021 أصبحت بوركينا فاسو، بحسب الأمم المتحدة، تواجه أسرع نزوح في العالم. وحسب منظمة أوكسفام، فإنّ إجمالي النازحين بسبب الإرهاب يتجاوز 2 مليون شخص، ويعاني الجوع ثلاثة ملايين نسمة.
يمكن أن تكون “تمبكتو” هي “الرّقّة الجديدة”، وأن تكون “بالما” هي الحسكة الإفريقية، ويمكن أن تكون نيجيريا الموطن الذي يشهد الخطبة الأولى للخليفة
في بوركينا فاسو يدمّر الإرهابيون كل شيء، المناجم والمساجد. وفي سيناريو ثابت لا يتجاوز 60 دقيقة، يقوم الإرهابيون بإطلاق نار كثيف عند مدخل القرية، فيجري الناس هرباً في كلّ اتجاه، فيُقتَل بعضهم، ثمّ تُحرَق منازلهم، وتُسرَق ماشيتهم.. كأنّ إعصاراً قد جاء وأنهى كل شيء. إنّها ستّون دقيقة تشبه أهوال يوم القيامة.
كانت بوركينا فاسو بلداً جميلاً، فيها فنادق راقية، وفيها مهرجان سينما كبير يسمّى “مهرجان واغادوغو”، لكنّ أخبار السياسة والثقافة قد تلاشت مع أخبار الدم، التي تتوالى على مدار الساعة.
ليست بوركينا فاسو بعيدة عن العالم العربي كما يوحي اسمها، إذْ تفصلها عن الجزائر وموريتانيا دولة واحدة هي مالي. ولمّا كانت مالي تواجه الانهيار، فإنّ الفناء الخلفي للمغرب العربي بات مُسوّراً بالمأساة.
تمثِّل تشاد أيضاً مساحة جديدة للحزن، إذْ تعاني البلاد هجمات متكرّرة من “حركة بوكو حرام تشاد”، واستطاع تنظيم داعش السيطرة على بعض ولايات حوض تشاد. وحسب منظمة الأمم المتحدة، فإنّ حوض بحيرة تشاد بات يضمّ خمسة ملايين شخص يكافحون الجوع.
لا تبعد تشاد أيضاً عن العالم العربي، فهي تجاور ليبيا والسودان، ولا تبعد حدودها عن حدود مصر الجنوبية الغربية أكثر من المسافة بين القاهرة وسوهاج.
يمتدّ “حزام الموت” إلى شاطئ المحيط الهندي وصولاً إلى موزمبيق، ولقد أصبح مسمّى “داعش موزمبيق” شائعاً في وسائل الإعلام في العام الأخير.
استطاع تنظيم “داعش موزمبيق” احتلال بلدة “بالما” أسبوعيْن كامليْن، ثمّ إنَّهُ استطاع احتلال أحد الموانئ المطلّة على المحيط ثلاثة أشهر. كانت أحداث بالما نسخة مكرّرة من أحداث القرى الإفريقية، حيث غرق الناس وهم يحاولون الهروب إلى تنزانيا، فيما لقي آخرون حتفهم بعدما تاهوا في الغابات. واليوم يعاني مليون موزمبيقيّ من التشرّد وفقدان الديار.
المشروع الذي يجمع الإرهابيين الأفارقة، هو إنشاء “الخلافة الإسلامية البديلة”، فبعدما سقطت خلافة داعش في آسيا، يمكن استعادتها في إفريقيا. وإذا كان المشروع قد فشل في العواصم العربية، فيمكنه أن ينجح في الصحراء الإفريقية، ومنها يتمدّد إلى العالم العربي من جديد.
يمكن أن تكون “تمبكتو” هي “الرّقّة الجديدة”، وأن تكون “بالما” هي الحسكة الإفريقية، ويمكن أن تكون نيجيريا الموطن الذي يشهد الخطبة الأولى للخليفة. ومن هذه الأماكن “المقدّسة الجديدة” يمكن الزحف باتجاه العالم العربي، حتى تلتقي أفغانستان الشرقية بأفغانستان الغربية.
إقرأ أيضاً: السعوديّة الجديدة: الملك سلمان والهلال الشيعي..
إنّ المشكلة الأساسية في دول الساحل والصحراء تظلّ ماثلة في التخلّف الاقتصادي. وحين التقيت الرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني قبل عامين، سألته عن بداية الطريق، فقال لي: “المشكلة الأساسية في هذه المنطقة هي التنمية. والعمل على محور الأمن من دون محور التنمية لن يقود إلى شيء”. ثمّ واصل الرئيس: “أسباب الغضب تكمن في انهيار الاقتصاد وشظف العيش، فإذا كان الأمن أساسياً في حماية الحياة، فإنّ الغذاء والملبس والمسكن والتعليم والصحّة.. هي الحياة ذاتها”.
في تقديري، لن تنجح أوهام الخلافة البديلة كما فشلت أوهام الخلافة السابقة. لقد انكشف المتطرّفون في كل مكان، ولم يعد ممكناً خداع الشعوب طوال الوقت. وإذا ما كان من دعم خارجيّ لهم لكي يستخدم الرعاة قطعان الإرهابيين، من جبل إلى جبل، ومن بئر إلى أخرى، فإنّ ذلك أيضاً لا يمكنه الصمود طويلاً.
ستخسر إفريقيا وسيخسر المسلمون الكثير، لكنّ تلك الفئران البنّيّة ستواصل الجنون إلى أن يدهسها أحدهم، أو أنْ تأوي إلى صخر. ليس في مقدور الفئران أن تبني سوى الجحور.
*كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً لرئيس الجمهوريّة المصريّة السابق عدلي منصور..
له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسيّة.
عضو مجلس جامعتيْ طنطا ومطروح، وعضو مجلس كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة بجامعة القاهرة.