من هم أبرز اليهود ضدّ الصهيونية؟

مدة القراءة 8 د

يدور سجال في الغرب حول كون مناهضة الصهيونية هي معاداة السامية الجديدة. وتقود الحملة عدّة منظمات وشخصيات لإدانة ما يسمّونه “العنصرية ضدّ اليهود”. وتقول “رابطة مناهضة التشهير” الأميركية، التي تدافع عن اليهود وإسرائيل، إنّ الهجوم على إسرائيل وإنكار حقّ اليهود من بين كلّ الأمم في استحقاقهم لدولة ووطن يُعتبران نوعاً من التمييز العنصري. حتى وزارة التعليم العالي البريطانية تحثّ الجامعات على أن تتبنّى التعريف الذي يساوي بين مناهضة الصهيونية ومعاداة السامية.

في مقالة سابقة عن اليهود والصهيونية، تناولت العلاقة بينهما، وكيف أدّى الاضطهاد النازي لليهود خلال الحرب العالمية الثانية إلى اعتناق غالبية اليهود في أوروبا والولايات المتحدة الصهيونية بعدما كانت إيديولوجيا أقلّيّة في المجتمعات اليهودية الغربية. وعلى الرغم من أنّ معظم اليهود دعموا المشروع الصهيوني لإقامة دولة إسرائيل في فلسطين وعلى حساب الشعب الأصليّ، إلا أنّ هناك العديد من اليهود ظلّوا لا يدينون بالصهيونية أو يناهضونها.

علاقة الولايات المتحدة بإسرائيل والصهيونية مختلفة عن التجربة الأوروبية. كانت الهجرة اليهودية إلى الولايات المتحدة في القرنين التاسع عشر والعشرين هدفها البحث عن فرص حياة جديدة في أرض الفرص، والهروب من الاضطهاد في أوروبا

لم يكن اليهود يوماً مقبولين من قبل أغلبيّة المجتمعات الأوروبية، وعانوا من معاداة السامية ألواناً من التمييز، وصل حدّ التعدّي الجسدي، إلا أنّ قصة الصهيونية مختلفة عن اليهودية في أوروبا. فأوروبا المسيحية في العصور الوسطى والحديثة رأت في اليهودي قاتلاً للمسيح، أو حليفاً للمسلم، وناكراً لربوبيّة المسيح، وأنّ اليهودي هو خارج التاريخ المؤدّي إلى الخلاص في نظرة غائيّة دينية.

ويرى أمنون راز-كراكوتسكين، المؤرّخ والأكاديمي الإسرائيلي، أنّ الصهيونية لعبت دوراً مختلفاً عن المعتقد اليهودي بقبولها فكرة التقدّم في التاريخ الأوروبي وغاية التاريخ المتمثّلة في العلمانية والليبرالية. ويضيف: “ينطبق هذا بصفة خاصة على الفكرة المعروفة باسم “الصهيونية العلمانية”، التي أعربت عن العلمنة بطرح التخلّي عن قوانين الشريعة الدينية، ورفض السلطة الحاخاميّة، لكنّها في الوقت نفسه طرحت وعياً لاهوتياً، وإن كان لاهوتاً علمانياً. وكان التعبير عن العلمانية يتمّ عبر “قَوْمَنَة” الدين من جهة (أي جعله قومية)، وعبر عَلمَنَة المجال السياسي من جهة أخرى”.

وهذا ما يفسّر الانجذاب الغربي إلى الصهيونية وإسرائيل بقبول الفهم الأوروبي الحداثي للتاريخ على أنّه خطّ مستقيم يتطوّر نحو غاية: هي المحرّك لتدفّق أحداث التاريخ. إضافة إلى ذلك، يشكّل التخلّص من الجذور السامية الشرقية لليهود، وتحوّلهم إلى مجتمع غربي، قاعدةً متقدّمةً للحضارة الغربية وسط “بربرية” الشرق أو الإسلام (في عيون الاستشراق الغربي)، وحافزاً إلى تعاضد الغرب مع الصهيونية وإسرائيل، أو كما قال ثيودور هرتزل، مؤسِّس الحركة الصهيونية، إنّ إسرائيل ستكون “السدّ المنيع للحضارة الغربية في وجه البربرية الآسيوية”.

لكنّ علاقة الولايات المتحدة بإسرائيل والصهيونية مختلفة عن التجربة الأوروبية. كانت الهجرة اليهودية إلى الولايات المتحدة في القرنين التاسع عشر والعشرين هدفها البحث عن فرص حياة جديدة في أرض الفرص، والهروب من الاضطهاد في أوروبا، وخاصة أوروبا الشرقية. إذ لم يكن من تمييز مؤسّساتي ضدّ اليهود في الولايات المتحدة، بل إنّ كثيراً من اليهود تبوّأوا مناصب عليا وحقّقوا نجاحات باهرة في مجالات عدّة.

هناك وجهة نظر مختلفة للصهيونية وإسرائيل في الولايات المتحدة: عموم الكنائس البروتستانتيّة كانت تروّج لإنجاز عودة اليهود إلى أرض فلسطين لتحقيق نبوءة الإنجيل، قبل أن تنشأ الصهيونية كحركة سياسية في أواخر القرن التاسع عشر. وأصبح المسيحيّون الإنجيليّون من أكبر الداعمين للفكرة الصهيونية. إلى يومنا هذا تُعتبر الكنيسة الإنجيلية من أهم أنصار إسرائيل، وأحد أسباب الدعم الأميركي للدولة اليهودية.

هناك أيضاً النظرة الليبرالية للصهيونية وإسرائيل. فكُثُر يرون أنّ إسرائيل والصهيونية يمثّلان “انتصارَ الحقّ على الباطل”، وأنّ اليهود قاموا من أتون المحرقة مثل طائر العنقاء، وكوّنوا دولة ديموقراطية غربية قوية في “بلاد البرابرة”، وحوّلوا الصحراء (النظرة السلبية اتجاه العرب) إلى واحات خضراء.

أدّى ظهور الصهيونية السياسية إلى ردود أفعال مختلفة من أطياف اليهود المتديّنين والعلمانيين. وقد برزت منظمة أميركية في عام 1942، باسم “المجلس الأميركي لليهود”

فلسطين ونشأة أميركا

وأخيراً، هناك النظرة التي تقارن بين تاريخ الولايات المتحدة واستيطان الأرض البكر وتحويلها إلى أقوى دولة عالمية في التاريخ، وبين استيطان اليهود في أرض الميعاد (فلسطين).

تقول الكاتبة إيمي كابلان، الأستاذة في جامعة بنسلفانيا المرموقة والمتخصّصة في الدراسات الأميركية، في كتابها “إسرائيلنا الأميركية: قصّة تحالف متشابكة”، إنّ أنصار الصهيونية في أميركا رأوا في إسرائيل إعادة لقصّة الأميركيين الذين استوطنوا القارّة الأميركية رغم أنف السكان الأصليين. وقد كتب أحدهم أنّ الحركة الصهيونية ما هي إلا محاولة من قبل اليهود الأوروبيين لبناء وطن قومي في أرض فلسطين كما فعل الأميركيون من قبل. ويرى آخرون أنّ العرب هم السكّان الأصليون الذين يجب دحرهم قبل أن تبتدئ مسيرة التقدّم.

ولفهمٍ أعمق لتطوّر الصهيونية ليس كحركة بل كفكرة، يجب الحديث عن تجلّيات مختلفة للفكرة: فقبل المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا في عام 1897، كانت هناك أفكار صهيونية غير سياسية. أي أنّ الرجوع إلى أرض الميعاد كان ذا بعدين، أحدهما ديني، ويُعرف بـ”الصهيونية الدينية”، والآخر ثقافي، ويُعرف بـ”الصهيونية الثقافية”. فالأوّل كان يمثّل الرجوع إلى مهد الديانة اليهودية والسكن إلى جانب الديار المقدسة. والثاني يتعلّق بالجوانب الثقافية لليهودية كإحياء اللغة العبرية والتقاليد اليهودية التي تخوّف هؤلاء من انطماسها بفعل الاندماج في المجتمعات الأوروبية. ولم تظهر الصهيونية كحركة سياسية إلا لاحقاً بعد المؤتمر الصهيوني الأوّل في بازل.

وأدّى ظهور الصهيونية السياسية إلى ردود أفعال مختلفة من أطياف اليهود المتديّنين والعلمانيين. وقد برزت منظمة أميركية في عام 1942، باسم “المجلس الأميركي لليهود”، حاربت فكرة الصهيونية، وتبنّت أنّ اليهوديّة ديناً وليست قوميّة، وبالتالي لا يستحقّ اليهود دولة لأنّهم جزء من أمم عديدة. وقد تزعّم هذه المنظمة حاخامات من اليهودية الإصلاحية، وأبرزهم الحاخام ألمر برغر‏ (1908-1996) الذي ظلّ ينافح عن الفلسطينيين ويهاجم إسرائيل والصهيونية طوال حياته.

مثقفون يهود ضدّ “دولة” إسرائيل

وكانت هناك معارضة من كثير من الوجوه الثقافية اليهودية المناهضة للصهيونية السياسية. ولعلّ من أبرز هؤلاء مؤسّس وأوّل رئيس للجامعة العبرية في القدس يهوذا ليون ماغنيس (1877–1948). وهو اعترض على تقسيم فلسطين إلى دولتين، ودعا إلى دولة ثنائيّة القومية. وكذلك الحال بالنسبة إلى زميله في الجامعة العبرية الفيلسوف مارتن بوبر (1878–1965) الذي اعترض على تكوين دولة يهودية، وكان يسعى إلى تشكيل كيان سياسي يجمع بين المواطنين الفلسطينيين واليهود المهاجرين الذين استوطنوا البلاد.

إضافة إلى ذلك، أخذ عدّة مثقّفين من اليهود العلمانيين موقفاً معادياً للصهيونية السياسية. وكانت حنة آرنت (1906-1975)، المنظّرة السياسية، واحدة من هذه الوجوه التي رأت في قيام دولة إسرائيل إجحافاً بحقّ السكّان الأصليين من العرب. وارتأت قيام كيان فيدرالي على مستوى الإقليم يضمّ كلّ الأطياف الدينية والاجتماعية في المنطقة، ومن بينهم اليهود. وقد سلك الفيلسوف اليهودي الألماني والتر بنيامين (1892-1940)، صديق آرنت، نفس المسلك من ناحية الدعوة إلى دولة ثنائية القومية.

ألبرت آينشتاين ‏(1879–1955)، أشهر عالم فيزيائي، كان له وجهة نظر مخالفة للتيار الصهيوني السائد بين اليهود عقب الحرب العالمية الثانية والمحرقة اليهودية التي أدّت إلى مقتل ما يقارب ستّة ملايين يهودي. وعلى الرغم من دعمه لليهود في الشتات، إلا أنّه رفض الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية وطرد شعبها من وطنه. ودعا إلى عقد اتفاق بين العرب واليهود، وقال: “إدراكي للطبيعة الجوهرية لليهودية يقاوم فكرة قيام دولة يهودية ذات حدود. وأرفض تماماً فكرة طرد الفلسطينيين من أرضهم لإقامة أمّتنا”. وحين عُرِضت عليه رئاسة دولة إسرائيل رفض المنصب.

إقرأ أيضاً: اليهود والصهيونيّة

ويطول المقال في تعديد كبار المثقّفين اليهود الذين اتّخذوا موقفاً معارضاً للصهيونية لدواعٍ إنسانية ودينية مناهضة لِما رأوا أنّه حركة كولونيالية وحركة استعمار استيطاني، مثل الروائي فرانز كافكا، وعالم النفس سيغموند فرويد، والمنظِّرة الماركسية روزا لوكسمبورغ. وحالياً يُعتبر نعوم تشومسكي، عالم اللغويات الأشهر في العالم، من أبرز منتقدي الصهيونية والسياسات الإسرائيلية.

وأخيراً وليس آخِراً، انبرى الكاتب والصحافي اليهودي الأميركي بيتر بينارت إلى دحض المقولة التي تساوي بين مناهضة الصهيونية ومعاداة السامية. واستخلص أنّ العداء للسامية ليس خطأ لأنّه عداء لليهود، بل لأنّ العداء للسامية هو عداء للإنسانية. لذا لا يمكن أن يكون الانتصار لإنسانيّة الفلسطينيّين عداءً للسامية.

مواضيع ذات صلة

تشدّد الرّياض: عودة عربيّة إلى نظام إقليميّ جديد؟

توحي نتائج القمّة العربية – الإسلامية بأوجه متعدّدة لوظيفة قراراتها، ولا تقتصر على محاولة فرملة اندفاعة إسرائيل العسكرية في المنطقة. صحيح أنّ القمّة شكّلت حاضنة…

الحرب الأهلية: هواجس إيقاظها بصورٍ كريهة

 اللغو اللبناني حول حظوظ البلد بارتياد آفاق حرب أهلية جديدة، ارتفع. قد يكون هذا الارتفاع على وسائل التواصل الاجتماعي سببه “شامت” بالوضع أو رافض لـ”الرفق”….

الرياض: حدثان اثنان لحلّ لبنانيّ جذريّ

في الأيّام القليلة الماضية، كانت مدينة الرياض مسرحاً لبحث جدّي وعميق وجذري لحلّ أزمات لبنان الأكثر جوهرية، من دون علمه، ولا علم الباحثين. قسمٌ منه…

الحزب بعد الحرب: قليل من “العسكرة” وكثير من السياسة

هل انتهى الحزب؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما هو شكل اليوم التالي؟ وما هي الآثار السياسية المباشرة لهذه المقولة، وكذلك على المدى المنظور؟ وما هو…